الاستقواء بالخارج .. من المعلم يعقوب إلى مؤتمر نيويورك
بقلم: صبري الباجا
على مدى الأيام السابقة، ومنذ أقام تحالف المصريين الأمريكيين احتفاليته بمناسبة مرور خمس سنوات على تأسيسه، ودعوة نخبة من رجال الفكر والسياسة بمصر للمشاركة في مناقشة علمية حول: (مستقبل مصر كدولة ديمقراطية)، كقضية مُثارة داخل الوطن الأم، ورأى تحالف المصريين الأمريكيين أن تكون هذه المناسبة فرصة لأن يستمع المصريون من أعضاء التحالف والمصريون بالولايات المتحدة الأمريكية لوجهات نظر هؤلاء النشطاء والعلماء في الحدث الدائر، والحراك السياسي الذي تشهده مصر.
منذ ذلك الحين وبعض الأقلام الصحفية، وكذا عددٌ من المفكرين والمثقفين المحسوبين على المعارضة، لم يألو جهدًا في توجيه اتهامات من نوعية العمالة والاستقواء بالخارج لأعضاء التحالف، أو مَنْ تفضلوا بقبول الدعوة والمشاركة في فاعليات المؤتمر، وعلى صفحات الكثير من الصجف المعارضة والمستقلة؟!
ومؤخرًا.. ساهم أحد الباحثين المتميزيين في "هوجة" ما يُسمى بـ (الاستقواء بالخارج)، وأراد أن يُضفي على مقالته المنشورة بموقع "ألأقباط متحدون" بُعدًا تاريخيًا؛ ليؤكد لزوم تأصيل الفكرة، والإتيان بما لم يأتِ به أحد من قبله، فكتب مُعرفًا: (إن الاستقواء بالخارج أمر يعود بجذوره إلى تاريخ الصدام بين الاستعمار ومصر، منذ أن أعلن الجنرال "يعقوب" مع هبوط الحملة الفرنسية لمصر أنه نصير للاحتلال الفرنسي، لأن الفرنسيين هم "القوة" القادرة على التغيير).
وقد دفعتني عبارته للرجوع إلى بعض المصادر التاريخية للبحث عن الظروف التي أدت بالرجل "المعلم يعقوب"؛ لأن يصبح مثلاً يُضرب لفكرة الاستقواء بالخارج، والخيانة، رغم مرور قرابة 210 سنة على الواقعة، وكانت الرغبة في بداية الأمر بالنسبة لي لا تعدو مجرد التعرف على تلك الشخصية التي يتردد اسمها في مواقف الاستشهاد بالخيانة والعمالة للأجنبي والاستقواء بالخارج، وعن السبب الذي يجعل من أمثال صديقنا الكاتب المتميز أن يستحضر حالته -حالـة المعلم يعقوب- لتشبيه بعض نشطاء العمل العام من المواطنين المصريين بالخارج، أو من المصريين بالداخل في سعيهم للتواصل مع بني جلدتهم في الخارج به؛ أي المعلم يعقوب؟!!.
وقد بدأت رحلة البحث بالقراءة في كتاب للصديق المفكر والأديب الباحث الأستاذ. "فكري أندراوس" في مؤلفه القيم والصادر حديثًا عن دار الثقافة بالقاهرة "المسلمون والأقباط في التاريخ"، والذي تناول في مقتطفات منه سيرة المعلم "يعقوب" المُلقب بـ (الجنرال يعقوب)، ضمن حديثه عن دخول الفرنسيين مصر (بالفصل الثامن)، وقد كان مفيدًا الاطلاع على ما كتبه الباحث المفكر. "فكري أندراوس" بجانب المعلومات التي أوردها، وأسندها إلى العديد من المصادر التاريخية المتنوعة التي تناولت سيرة (المعلم يعقوب) في الرجوع لهذه المصادر.
وقد أدهشني ما آثاره من جدل بسبب تعاونه مع الحملة الفرنسية على مصر، والتي احتلت مصر بقيادة "نابليون بونابرت"، وبينما يكاد يكون هناك شبه إجماع من مؤرخي التاريخ المصري على خيانته، إلا أن هناك أيضًا البعض من المؤرخين الثقاة، الذين صوروه على أنه ثائر على الظلم العثماني، وبطل وطني حاول جعل مصر مستقلة بمساعدة فرنسا أو إنجلترا -كما جاء في كتابات الدكتور "لويس عوض"، والدكتور. "شفيق محمد غربال"، وبعض تلميحات الجبرتي- مفادها أن من المُعتقد أن الشعارات التي أطلقتها الثورة الفرنسية من حرية ومساواة وعدل وإخاء، قد جذبت المعلم "يعقوب" إليهم، ووضعت في نفسه املاً في تحرير بلاده من وطأة الاستعمار العثماني والمملوكي معًا, وهو نفس الرأي الذي ذهب إليه الكاتب "محمد صبري" في مؤلفه (تاريخ مصر الحديث): "إن يعقوب في بداية الاحتلال الفرنسي التحق بخدمة الفرنسيين الذين دخلوا مصر، أصدقاء يحملون رايةً جديدةً هي راية الحرية, وبارح مصر على رأس وفد مصري مُؤلف من أعيان القبط, وكانت فكرته الأساسية مخاطبة إنجلترا في أمر استقلال مصر, ولكن وفاته العاجلة في الطريق قضت فجأة على مشروع (مفاوضة دول أوربا في ذلك الاستقلال)".
وفي هذا المعنى يكرر الدكتور. "شفيق محمد غربال": "أول ما في تأييد يعقوب للتدخل الغربي هو تخليص وطنه من حكم لا هو عثماني ولا هو مملوكي, وإنما هو مزيج من الفوضى والعنف والإسراف, ولا خير للمحكومين فيه ولا للحاكمين إذا اعتبرناهم دولة قائمة مستمرة... وثاني ما في تأييده هو إنشاء قوة حربية مصرية (قبطية في ذلك الوقت) مُدربة على النظم العسكرية الحديثة الغربية.
والذي نروم أن نذكره وننبه إليه هنا على ضوء الوثائق التي وُجدت حديثًا في محفوظات وزارة الخارجية الإنجليزية هو أن فكرة الاستقلال المصري التي نشأت في ظل حملة "بونابرت" كانت قد خطرت منذ فجر القرن التاسع عشر للمصريين, فإن واحدًا منهم؛ وهو المعلم "يعقوب القبطي" أعرب عنها بلسانهم, إلا أن موته قبل الآوان حال بينه وبين عرض هذه القضية والدفاع عنها أمام وزارات أوربا.
الدكتور "لويس عوض" حدثنا عما أسماه بـ "مشروع الاستقلال الأول"، والذي وضعه المعلم "يعقوب" في أعقاب الحملة الفرنسية على مصر، إذ يقول في كتابه "تاريخ الفكر المصري الحديث": إن "يعقوب" كان يسعى إلى إقناع الفرنسيين والإنجليز بمشروعٍ خاص لاستقلال مصر قبل أن يلفظ أنفاسه الأخيرة على ظهر البارجة "بالاس"، والتي كان كومندانُها هو الكابتن "جوزيف إدموندز"، والذي نقل إلى قائد البحرية الإنجليزية اللورد. "سانت فينسنت" تفاصيل "مشروع" المعلم يعقوب، والذي أفضى به له قبل وفاته مباشرةً.
ويرى "جاستون حمصي" –الذي يمت بصلة قرابة للمعلم يعقوب- يرى أن يعقوب تشرب أفكار الثورة الفرنسية، في حين يقول د. "أنور لوقا": إن يعقوب ذهب إلى فرنسا وهو يحمل بذرة الوطنية المصرية، فكان أول مصري يضع مشروعًا لاستقلال مصر عن الدولة العليا وعن حكم المماليك.
وعن أهمية ودور الحملة كما فهمة الجنرال يعقوب وفقًا لما كتبه "صبحي وحيد" (أصول المسألة المصرية): "وقد أخفقت الحملة الفرنسية عسكريًا، ولكنها أفلحت في توجيه أضواء العالم الحديث إلى ماضي مصر البعيد، ولفتت الدول لفتًا عنيفًا إلى أهمية مركزها السياسي، ثم فتح نفوس بعض أبنائها للتيارات الغربية الحديثة, ونحن نجد أول صدى لهذه التيارات في مشروع المعلم يعقوب لتحرير مصر من الحكم العثماني, وقد اتجه "الألفي" بعد "يعقوب" إلى الإنجليز، واستعان بهم في محاولة استعادة الحكم في مصر.. ولكنه لم يكن في ذلك أكثر من حاكم (أجنبي) معزول، يلتمس السبيل إلى استرداد حكمه، فلم يرتفع إلى الوعي الذي بلغه يعقوب.
أما "جاك تاجر" فيرى أن مسألة المعلم يعقوب لا تحتمل أية مناقشة, فقد أسهم في إذلال الشعب المصري, وأنكر وطنه, وكان يعتبر نفسه جنديًا من جنود "بونابرت" لكن هذا لا يعني مطلقًا أن الانتماء الديني هو سبب وقوع المعلم يعقوب في الخيانة، فلم يدخل بونابرت وقواته مصر غازيًا، بل أنه ادعى أنه جاء للدفاع عن الإسلام.
هنا يكون الاستناد إلى الطائفية نوعٌ من العمى الفكري، فإننا نربأ بمَنْ يدافع عن يعقوب لا لشيءٍ سوى لانتمائه الديني، وبالمثل.. نربأ بالأخرين أن يتهموه أيضًا بسبب انتمائه الديني.
التحليل الموضوعي بالقطع تلزمه أدوات حيادية، كثيرًا ما تكون غائبًا في مثل هذه المواضع للأسف!!
ليس الغرض من وراء ذلك العرض هو تبرئة ساحة أو تثبيت تهمة الاستقواء بالخارج على (المعلم يعقوب)، بقدر أهمية الكشف عن تباين وجهات النظر تجاه الحدث، وعدم الاكتفاء بالنظرة الأحادية، أو تغليب فكرة المؤامرة.
أيضًا كان الهدف هو البحث عن ظاهرة التخوين والقذف بتهم العمالة، واللبس في فهم علاقة الداخل بالخارج في الحالة المصرية على وجه الخصوص، وهو جهد لا يقوى عليه باحث بمفرده، وإنما يتم طرحه كقضية تستحق الدراسة.
وبجانب العوامل الشخصية، يُلاحظ أن عددًا من الاعتبارات تلعب دورًا هامًا في الحكم:
ـ مدى وضوح المعلومات ومدى توافرها أمام المحلل أو المعلق ــالعلاقات الدولية السائدة بين طرفي العلاقة، ودور وتأثيرالإعلام فيها- فمثلاً لم ينتقد سلوك "مصطفي كامل" في علاقته بتركيا أو فرنسا في مهاجمة الاحتلال الإنجليزي، أو لم نسمع عن الاستقواء بالاتحاد السوفيتي رغم اتساع نفوذه وتواجده العسكري بمصر في مرحلة ماضية، بل كانت هناك إشادة بهذه العلاقة، ومن رئيس الدولة "الرئيس الراحل أنور السادات"، قبل انقلابه عليهم، ووضع أوراق اللعبة في أيدي الأمريكان حين روج للمقولة زائعة الصيت: "إن 99% من أوراق اللعبة في أيدي أمريكا".
ــ حالة الشيزوفرنيا في موقف الأنظمة، وتحديدًا مع الحالة الأمريكية، فبينما يتحدث الرئيس "مبارك" عن العلاقات المصرية الأمريكية ويصفها بأنها علاقات استراتيجية، في ذات الوفت يوجه نظامه نقدًا لبعض فصائل المعارضة بأنها تستقوى بالخارج، خاصة حين يتعلق الأمر بالإصلاح السياسي أو تطبيق الديمقراطية.
ومن الغريب أيضًا في هذا الشأن هو الإشادة الإعلامية بوفود السعي العلني والسري للتواصل مع الإدارة الأمريكية، بدءًا من بعثات طرق الأبواب، وانتهاءًا بزيارات السيد. "جمال مبارك"، وفي ذات الوقت تُنعت زيارة لمجموعة من رموز العمل الوطني في الداخل المصري بأشد الاتهامات وأقساها، وذلك عندما لبوا دعوة أصدقاء مصريين يحتفون بذكرى تأسيس جمعية أهلية لهم في الولايات المتحدة بصفتهم مصريين بالدرجة الأولى، وراغبين في الاستماع إلى إخوة وأصدقاء لهم من مصر!!!!
ولعل مسك الختام في الحكمة التي استهل بها الأخ الصديق الأستاذ. "فكري أندراوس" مقدمة مؤلفه القيم ومفادها:
‘‘عندما سُئلت "هيلين كيلير" الكاتبة الأمريكية ذائعة الصيت -المولودة عمياء وخرساء- من البعض ذات يوم: هل هناك أسوأ من فقدانك البصر؟ قالت نعم: أن أفقد الرؤية!!! |