بقلم : د. عبدالخالق حسين
من المعروف أنه لابد وأن تظهر في جميع الأديان مذاهب وفِرَق وجماعات كنتيجة حتمية للمستجدات، وحصول الاختلاف في الرأي، والاجتهاد بين الفقهاء والأئمة، والاختلاف في بيئات وثقافات الشعوب التي تعتنق هذه الأديان، وهي شكل من أشكال التعددية في أي مجتمع بشري. والإسلام ليس استثناءً،
وربما كان الإسلام هو أقل الديانات انقساماً واختلافاً مقارنة بالأديان الأخرى، فجميع الطوائف الإسلامية تؤمن بإله واحد وهو الله تعالى، ولها كتاب مقدس واحد وهو القرآن الكريم، ونبي واحد وهو محمد بن عبدالله (ص)، وقبلة واحدة يؤدون فريضة الصلاة باتجاهها وهي الكعبة المكرمة، وطقوس عبادية واحدة، ويشتركون في جميع أصول الدين، ويفترقون في بعض الفروع.
والاختلاف مسألة طبيعية وسنة من سنن الحياة، إذ قال الرسول (ص): "اختلاف أمتي رحمة". كما وجاء في القرآن الكريم: "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" (هود / 118). "لكل جعلنا منكم شرعة ومنهاجا ولو شاء الله لجعلكم أمة واحدة ولكن ليبلوكم فيما آتاكم فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون» (المائدة: 48). ومن هذه الآيات نفهم أن في الاختلاف لحكمة، وأن الله وحده سيحاسب المخطئ يوم الحساب، وليس من حق أي إنسان محاسبة الآخر على هذا الاختلاف.
وقد برز الخلاف بين المسلمين (المهاجرين والأنصار) لأول مرة بعد وفاة الرسول (ص) مباشرة وفي نفس اليوم، حيث مات من غير أن يوصي بالخلافة لأحد من بعده. "فقال قوم إن أحق الناس بالخلافة أبو بكر، لأن رسول الله رضيه لأمر الدين بإمامة المسلمين في الصلاة، فليرضوه هم في أمر الدنيا، أعني الخلافة. وقال قوم: أحق الناس بالخلافة أهل بيته، علي بن أبي طالب، ومن جهة أخرى قال قوم: إن أحق الناس بها المهاجرون الأولون من قريش، وقال آخرون إن أحق الناس بها هم الأنصار.." (أحمد أمين، يوم الإسلام، ص 51).
ونظراً لأهمية هذا الموضوع الذي شق المسلمين، ومازال تأثيره العميق باقياً إلى الآن، ولإعطاء صورة واضحة عما جرى في يوم وفاة النبي، ننقل هنا مقتطفات مما جاء في تاريخ الطبري وبإيجاز إذ قال:
["ولما اشتد المرض برسول الله (ص) قال: أئتوني باللوح والدواة- أو بالكتف والدواة- أكتب لكم كتاباً لا تضلون بعده. فقالوا: إن رسول الله يَهْجُر، (أي كلام من تأثير الحمىّ).
"وعن ابن عباس أن علي بن أبي طالب خرج من عند رسول الله (ص) في وجعه الذي توفي فيه، فقال الناس: يا أبا الحسن، كيف أصبح رسول الله؟ قال أصبح بحمد الله بارئاً، فأخذ بيده عباس بن عبدالمطلب، فقال: إني أرى رسول الله سيتوفى في وجعه هذا، وإني لأعرف وجوه بني عبدالمطلب عند الموت، فاذهب إلى رسول الله فسله فيمن يكون هذا الأمر؟ فإن كان فينا علمنا ذلك، وإن كان في غيرنا أمر به فأوصى بنا. قال عليٌّ: والله لئن سألناها رسول الله فمنعناها لا يعطيناها الناس أبداً، والله لا أسألها رسول الله أبداً.
"ولما توفي الرسول (ص)، اجتمع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ليبايعوا سعد بن عبادة، فبلغ ذلك أبا بكر، فأتاهم ومعه عمر، وأبو عبيدة بن الجراح، فقال: ما هذا؟ فقالوا: منا أمير ومنكم أمير، فقال أبو بكر: منا الأمراء ومنكم الوزراء. ثم قال أبو بكر: إني قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين: عمر أو أبا عبيدة، إن النبي (ص) جاءه قومٌ فقالوا أبعث معنا أميناً فقال: لأبعثن معكم أميناً حق أمين، فبعث معهم أبا عبيدة بن الجراح، وأنا أرضى لكم أبا عبيدة. فقام عمر، فقال: أيكم تطيب نفسه أن يخلُف قدمين قدَّمهما النبي (ص)! فبايعه عمر وبايعه الناس، فقالت الأنصار- أو بعض الأنصار- لا نبايع إلا عليّاً.
"وتخلف عليّ والزبير (عن ذلك الاجتماع)، واخترط الزبير سيفه، وقال: لا أغمده حتى يُبايَع عليٌّ، فبلغ ذلك أبا بكر وعمر، فقال عمر: خذوا سيف الزبير، فاضربوا به الحجر. قال: فانطلق إليهم عمر، فجاء بهما تعباً، وقال: لتبايعان وأنتما طائعان، أو تبايعان وأنتما كارهان! فبايعا". (تاريخ الطبري، ج2، ص 229-234).]
وعن محاولة أبي سفيان في الصيد بالماء العكر، يقول الطبري: "ولما اجتمع الناس على بيعة أبي بكر، أقبل أبو سفيان (إلى علي بن أبي طالب)، وهو يقول: والله إني لأرى عجاجة لا يطفئها إلا الدم! يا آل عبد مناف فيم أبو بكر من أموركم! أين المستضعفان! الأذلان عليّ والعباس! وقال: أبا حسن! ابسط يدك حتى أبايعك. فزجره عليُّ، وقال: إنك والله ما أردت بهذا إلا الفتنة، وإنك والله طالما بغيت الإسلام شرّاً لا حاجة لنا في نصيحتك". (الطبري، نفس المصدر، ص 237).
والجدير بالذكر أن الإسلام قد أقام نظام الشورى، إذ قال تعالى: "وشاورهم في الأمر"، وكان النبي (ص) يشاور المسلمين في معظم الأمور، ولكنه لم يترك قاعدة واضحة وثابتة لاختيار الخليفة من بعده. ويبرر العلامة أحمد أمين موقف النبي من ذلك بقوله: "... وترك الأمر مفتوحاً لأنه لو وضع قاعدة فيه لاتخذها المسلمون ديناً يتحجرون عليه. فلما مات النبي حصل هذا الاختلاف فبايع عمر أبا بكر ثم بايعه الناس وكان في هذا مخالفة لركن الشورى ولذلك قال عمر (فيما بعد) أنها غلطة وقىَ الله المسلمين شرها. وكذلك كانت غلطة بيعة أبي بكر لعمر وإن كان قد استشار كبار الصحابة في ذلك فبعضهم حمده وبعضهم خاف من شدته فقال أبو بكر إنه يراني ألين فيشتد". (أحمد أمين، يوم الإسلام، ص53-54)
وفي الجدال الذي دار بين المسلمين في سقيفة بني ساعدة حول الخلافة، استشهد أبو بكر بقول أسنده إلى النبي: (الخلافة في قريش)، ثم دب الخلاف بين المهاجرين أنفسهم، فمنهم من رأى أبا بكر أولى بالخلافة، وكان عمر بن الخطاب هو الذي رشحه وأدعمه لهذا الأمر، ومنهم من رأى علي بن أبي طالب أولى بالخلافة لقرابته من النبي، فهو ابن عمه وزوج ابنته فاطمة، ويعتقد الشيعة (وبعض السنة) أن النبي أوصى في خطبة الوداع لعلي بقوله: "من كنت مولاه فهذا علي مولاه، اللهم واليِ من والاه وعادي من عاداه"، والتي سميت بخطبة الغدير، في مكان سمي بغدير خم يقع في منتصف الطريق بين مكة والمدينة. وكان عمار بن ياسر من المطالبين بإسناد الخلافة إلى علي، وعارضه آخرون. وكان الإمام علي منشغلاً في تلك الإثناء بدفن جثمان النبي ولم يكن حاضراً لاجتماع سقيفة بني ساعدة.
ويضيف أحمد أمين: " على كل حال، اتسعت هوة الخلاف، فلما علِمَ أبو بكر وعمر باجتماع الأنصار في سقيفة بني ساعدة ذهبا إليها، وخطب أبو بكر خطبة موفقة أقنع فيها الأنصار بأولوية المهاجرين الأولين، وبذلك كُفيَ المهاجرون خلاف الأنصار، ثم كان أن كُفي أبو بكر أمر عليّ، فقد كره كثير من الصحابة أن يجمع بين النبوّة والخلافة، ولعلمهم بشدة عليّ في الحق وعدم التساهل." (أحمد أمين، نفس المصدر، ص51).
وهكذا أسندت الخلافة إلى أبي بكر، ولما علم الإمام علي بما جرى في سقيفة بني ساعدة، وأن المهاجرين تمسكوا بأولوية قريش في الخلافة لقرابتهم من النبي، قال والله "تمسكوا بالشجرة وأضاعوا الثمرة"، يعني أنهم اتخذوا القرابة من النبي حجة لهم ولكنهم منعوه هو من الخلافة. (أحمد أمين نفس المصدر).
على أي حال ومهما كان من أمر، فقد بايع الإمام علي أبا بكر بعد ستة أشهر من وفاة الرسول وبعد وفاة زوجته فاطمة، لأنها (فاطمة) لم تكن على وئام مع أبي بكر حيث منعها من حقها في فدك، إذ تمسك بقول أنه سمع رسول الله يقول: "نحن معشر الأنبياء لا نورث وما نتركه صدقة" ولم تنتقل فدك إلى أهل البيت إلا في عهد الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز.
ومهما يكن من أمر، فقد بقي الإمام علي وفياً للخلفاء الثلاثة الذين سبقوه. ولقد وقف عليّ بباب أبي بكر ساعة وفاته ونعاه قائلا: "يرحمك الله يا أبا بكر، لقد كنت والله أول القوم إسلاما صدقت رسول الله حين كذّبه الناس، وواسيته حين بخلوا، وقمت معه حين قعدوا " (أحمد أمين، نفس المصدر)
وقد دامت خلافة أبي بكر عامين، ثم أوصى بها قبل وفاته إلى عمر بن الخطاب، والذي بدوره أوصى وهو على فراش الموت بتشكيل مجلس شورى من ستة أشخاص من الصحابة الكبار، ليختاروا واحداً من بينهم، فاختاروا عثمان بن عفان، بعد أن تعهد لهم بالالتزام بنهج الشيخين، أبي بكر وعمر. وقد نفذ وعده هذا خلال السنوات الست الأولى من خلافته، ولكنه شذَّ عنه في السنوات الست الأخيرة حيث انحاز إلى أقربائه من بني أمية ففضلهم على بقية المسلمين في السلطة والمال والنفوذ. وقد برر عثمان فيما أعطى لذوي قرابته من بيت المال فقال: "إن عمر كان يحرم قرابته احتساباً لله، وأنا أعطى قرابتي احتساباً لله، ومن لنا بمثل عمر؟" (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج1، ص42). وهذا الانحياز لقرابته أثار عليه نقمة المسلمين من مختلف الأمصار، فثاروا عليه وقتلوه.
وبعد مقتل عثمان انتخب الثوار علياً خليفة، وبايعه الناس بمن فيهم طلحة والزبير. ويقول طه حسين في هذا الخصوص في كتابه (الفتنة الكبرى، علي وبنوه،ج2):"... فقد كان خليفتهم الجديد أجدر الناس بأن يملأ قلوبهم طمأنة، وضمائرهم رضىً ونفوسهم أملاً. فهو ابن عم النبي وأسبق الناس إلى الإسلام بعد خديجة، وأول من صلى مع النبي من الرجال، وهو ربيب النبي قبل أن يُظهر دعوته ويصدع بأمر الله.... وكان النبي يحبه أشد الحب ويؤثره أشد الإيثار، استخلفه حين هاجر على ما كان عنده من ودائع حتى ردها إلى أصحابها، وأمره فنام في مضجعه ليلة ائتمرت قريش بقتله، ثم هاجر حتى لحق بالنبي في المدينة فآخى النبي بينه وبين نفسه، ثم زوجه ابنته فاطمة، ثم شهد مع النبي مشاهده كلها، وكان صاحب رايته في أيام اليأس. وقال النبي يوم خيبر: "لأعطينَّ الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله ويحبه الله ورسوله". فلما أصبح دفع الراية إلى عليّ. وقال النبي حين استخلفه على المدينة يوم سار إلى غزوة تبوك: "أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي". وقال للمسلمين في طريقه إلى حجة الوداع: "من كنت مولاه فعلي مولاه. اللهم وال من والاه وعاد من عاده".
ويضيف طه حسين فيقول: ((وكان عمر رحمه الله يعرف لعليّ علمه وفقهه ويقول "إن عليّاً أقضانا". وكان يفزع إليه في كل ما يعرض له من مشكلات الحكم. وقال حين أوصى بالشورى: " لو ولّوها الأجلح لحملهم على الجادة." إلى فضائل كثيرة يعرفها له أصحاب النبي على اختلافهم، ويعرفها له خيار المسلمين التابعين، ويؤمن له بها أهل السنة كما يؤمن له بها الشيعة". ( طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 15-16).
ولكن رغم كل هذه الفضائل لعلي، تمردّ عليه كثيرون ومنهم من بايعوه مثل طلحة والزبير. وقد اتخذ بنو أمية وعلى رأسهم معاوية بن أبي سفيان مقتل عثمان ذريعة لنيل الخلافة لأنفسهم، فقاموا بمطالبة علي بالكشف عن قتلة عثمان والانتقام منهم، الأمر الذي لم يكن بإمكانه تنفيذه لعدم معرفة القاتل الحقيقي في خضم تلك الثورة، وكان محمد بن أبي بكر أحد المتهمين بقتل عثمان. فأعلن معاوية، الذي كان والياً على الشام، التمرد على الخليفة.
ومما يجدر ذكره في هذا الخصوص، أن سئل الإمام عليّ في رأيه في عثمان وقاتليه فقال: "إنه استأثر فأساء الأثرة، وجزعوا فأساءوا الجزع، ولله حكم واقع، في المستأثر والجازع". ويعلق أحمد أمين قائلاً: ولعل هذا أصدق وصف لما كان بين عثمان والناقمين عليه، وهو كذلك أصدق وصف للأمويين والعباسيين، والناقمين عليهم من الشيعيين. (أحمد أمين، ضحى الإسلام ج3، ص 300).
أما السيدة عائشة فكانت في أول الأمر من المحرضين على عثمان وهي التي قالت عنه: "اقتلوا نعثلاً لعن الله نعثلاً"، ولكن ما أن سمِعَتْ أن علي بن أبي طالب أختير خليفة حتى تحركت ضده مطالبة بدم عثمان. فتوجَّهتْ إلى البصرة ومعها طلحة والزبير، ولحقهم الإمام علي إلى هناك حيث وقعت أول حرب بين المسلمين سميت بحرب الجمل. وسمّيَتْ بحرب الجمل لأن السيدة عائشة، أم المؤمنين، كانت على ظهر جمل تحرض المسلمين على القتال ضد أتباع علي، ولم تقف الحرب إلا بعد أن تم قتل ذلك الجمل. وكانت عائشة تكره الإمام علي بسبب موقفه منها في قضية الإفك، وانتهت وقعة الجمل بانتصار الإمام علي ومقتل الزبير وطلحة.
ومن نافلة القول أن الإمام علي قد أُجبِرَ على حرب الجمل، فخاضها متألماً، فكان يقول بعد أن نظر إلى القتلى من الفريقين:
أشكو إليك عُجَري وبُجَري.....شفيتُ نفسي وقتلتُ معشري (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص107).
وقد سأله رجل منهم ذات يوم: "أيمكن أن يجتمع الزبير وطلحة وعائشة على باطل؟ فقال: إنك ملبوس عليك، إن الحق والباطل لا يُعرفان بأقدار الرجال، اعرف الحق تعرف أهله، واعرف الباطل تعرف أهله." (طه حسين، الفتنة الكبرى، ج2، ص 40).
وبعد حرب الجمل حصلت حرب صفين، وهي بلدة على ضفاف الفرات في المنطقة الحدودية بين سوريا والعراق، بين معسكر الإمام علي ومعسكر معاوية، والتي انتهت بالتحكيم الذي خُدِعَ فيه أبو موسى الأشعري ممثل الإمام علي، من قبل الداهية عمرو ابن العاص ممثل معاوية. وبسبب خديعة عمرو بن العاص ونجاحه، حصل انشقاق في معسكر الإمام علي، فخرجت عليه جماعة أطلق عليهم (الخوارج) مما اضطر الإمام علي محاربتهم لتكفيرهم له، وشراستهم وتمردهم عليه. وانتهى الصراع باغتيال الإمام علي بن أبي طالب (ع) على يد أحد الخوارج يدعى عبدالرحمن بن ملجم المرادي عند صلاة الفجر يوم 21 رمضان 40هـ (28/2/661م). وبمقتل الإمام علي انتهت مرحلة الخلافة الراشدية، وظهرت الدولة الأموية الوراثية.
والجدير بالذكر أن في هذه الفترة كانت أغلبية المسلمين، وبالأخص من الأنصار، ومعظم الأحياء الذين شاركوا الرسول في معركة بدر وغزواته الأخرى، وقفوا مع الإمام علي، دون مسميات بأهل السنة أو الشيعة، وكان قسم من قريش وأهل الشام مع الأمويين. أما أهل العراق ومصر والحجاز واليمن وغيرها من الأمصار، فكانوا مع علي وأولاده من بعده.
وهذه الحروب أضرت بالمسلمين ووحدتهم كثيراً، وقد سئل الخليفة الأموي عمر بن عبدالعزيز عن الجمل وصفين فقال: "تلك دماءُ كفَّ الله يدي عنها، فلا أحبُّ أن أغمس لساني فيها". (الجاحظ، البيان والتبيين، ج2، ص289).
ثم حصلت واقعة كربلاء بعد أن طلبَ أهل العراق من الحسين بن علي أن يقدم إليهم لينصبوه خليفة. ولما استجاب الحسين لطلبهم ووصل العراق مع أهل بيته ونفر قليل من أنصاره لم يتجاوز عددهم 72 شخصاً، واجه جيشاً جراراً أرسله الخليفة الأموي يزيد بن معاوية لمواجهته، فحصلت واقعة كربلاء في اليوم العاشر من شهر محرم عام 61 هجرية (12 أكتوبر 689م)، وكانت مجزرة دامية رهيبة وإبادة بحق أهل البيت وخاصة آل علي، ومأساة كبرى بكل معنى الكلمة. ومنذ تلك الواقعة المأساوية استمر العراقيون من شيعة أهل البيت (آل علي) مصدراً للثورات والقلاقل ضد الحكام على مختلف الحقب التاريخية.
وتؤكد كتب التاريخ أن معظم أهل العراق، سنة وشيعة (عدا الخوارج)، كانوا من أنصار الإمام علي وأهل بيته، إذ يقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: "قد يستغرب القارئ إذا علم بأن كلتا الطائفتين كانتا في أول الأمر من حزب واحد، وإن الذين فرقوا بينهما هم السلاطين ووعاظ السلاطين. ففي عهد الدولة الأموية كان الشيعة وأهل السنة يؤلفون حزب الثورة. إذ كان الشيعة يثورون على الدولة بسيوفهم، بينما كان أهل السنة يثورون عليهم بأحاديثهم النبوية - هؤلاء كانوا ينهون عن المنكر بألسنتهم، وأولئك ينهون عنه بأيديهم." (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص232).
والجدير بالذكر أن مصطلح "أهل السنة والجماعة" لم يظهر في التاريخ إلا في أيام الخليفة العباسي المتوكل. وكانوا قبل ذلك يُدعَون بـ "أهل الحديث". و"الحديث" و "السنة" لفظتان مترادفتان في بعض الوجوه. ومن يدرس سيرة أهل الحديث إثناء الحكم الأموي يجدهم كانوا على عداء مستحكم ضد ذلك الحكم الطاغي، ما عدا فترة خلافة عمر بن عبد العزيز الذي كان عادلاً وراشدياً، ولذلك سمي بالخليفة الراشدي الخامس.
ولو درسنا سيرة الأئمة الكبار لأهل السنة والجماعة، كأبي حنيفة والشافعي وأنس بن مالك وأحمد بن حنبل، الذين عاشوا في أواخر العهد الأموي وأوائل العهد العباسي لوجدناهم يتشيعون لعلي ولمبادئه الثورية تشيعاً عجيباً رغم الظروف المثبّطة التي كانت تحيط بهم. فأبو حنيفة النعمان الذي يُلقّب بـ "الإمام الأعظم" كان علوي الهوى ثورياً من طراز فذ. يقول الزمخشري: "وكان أبو حنيفة يفتي سراً بوجوب نصرة زيد بن علي، وحمل الأموال إليه، والخروج معه على اللص المتغلب المتسمى بالإمام والخليفة" (أنظر: الزمخشري، الكشاف، ج1 ص64).
وقد ساند الإمام أبو حنيفة الشهيد الثائر زيد بن علي زين العابدين على الخليفة الأموي هشام بن عبدالملك وقال عنه (ضاهى خروجه خروج رسول الله يوم بدرٍ).
ولما ثار محمد بن عبد الله الحسني في المدينة، ضد المنصور بايعه أبو حنيفة. وظل على تلك البيعة بعد مقتله إذ كان يعتقد بموالاة أهل البيت. (الشهرستاني الملل والنحل ج1 ص79). وكتب أبو حنيفة إلى إبراهيم، أخي محمد، يشير إليه بقصد الكوفة سراً ويعلمه بأن في الكوفة من الشيعة من يستطيع دعمه. (علي الوردي، وعاظ السلاطين ص233). |