بقلم : مأمون فندي |
في المجتمعات المغلقة أو التسلطية، يتبادل المسرح والحياة مواقعهما، فتكون الحياة مسرحا، ويكون المسرح هو أقرب إلى الواقع، وفي المجتمع التسلطي أيضا تتبادل الرواية أو القصة الخيالية المواقع مع الصحيفة اليومية، فيصبح ما هو مكتوب في الصحيفة أقرب إلى الخيال وما هو مكتوب في الروايات أشبه بالواقع. لذا نجد روايات نجيب محفوظ مثلا أكثر دقة في وصف الواقع من الصحف اليومية في مصر، في عهدها، وفيما بعد. في المجتمع التسلطي تكون الحياة هي خشبة المسرح لممارسة النفاق والشخصية البديلة، ليس بهدف إرضاء السلطة كما يخيل للبعض، وإنما تجنبا لها وخشية منها. فالديكتاتوريات لا تكافئ، ولكنها تعاقب، هي لا تهتم بأن تجعل حياة الفرد أفضل، ولكنها تستطيع أن تحولها جحيما إذا ما خرج هذا الفرد عن النص. وبالسلطة لا أعني الدولة والحكومة وأدواتهما فقط، ولكني أعني السلطة على إطلاقها، سلطة الأب وسلطة رجل الدين وسلطة المجتمع بعاداته وتقاليده، كل هذه السلطات تحول الإنسان من حالة حياة عادية إلى حالة حياة مسرحية، لذا يخلد الإنسان العربي إلى النوم منهكا من شدة الإجهاد، لأنه كان يؤدي طوال النهار. المسرح العربي فشل، لأن الحياة العربية أكثر مسرحية من المسرح، ولا بد للممثل أن يكون عبقريا كي يقنعنا، لأن المواطن العربي يؤدي على مسرح الحياة اليومية أفضل من أي ممثل على مسرح شكسبير أو مسرح نجيب الريحاني. فمنذ أن يصحو الفرد العربي من النوم، وهو يؤدي على أكبر مسرح مفتوح في القرية التي يعيش فيها، أو الحي، أو المدينة. يصبح الإنسان العربي حقيقيا فقط وهو نائم، وربما يحلم بالواقعية التي لا يعيشها. فشل المسرح العربي لا يعني أن النص المسرحي فاشل أو أن الممثلين فاشلون، ولكن لأن العرض الذي نراه في الحياة العربية اليومية أكثر دهشة وأكثر تراجيدية وتناقضا، أي أن الأداء على خشبة المسرح أقل جاذبية مما نراه يوميا. أذكر أنني جلست مع صديق لي ذي حس نقدي فني عال على العشاء مع ممثل كوميدي، يرى أنه من أهم كوميديي العالم العربي، وبعد العشاء ذهبنا في صحبة أحد المنتجين لأفلام هذا الممثل العملاق لنشاهد فيلمه الأخير، وبعد عرض الفيلم، قال صديقي: «أين الممثل؟ إن ما رأيناه في الفيلم هو ما شاهدناه على العشاء، فالرجل يلعب أو يؤدي الدور نفسه، لا فرق بين الممثل والرجل». قلت له: «لذلك هو يضحكنا، لأنه لا يؤدي دور شخص آخر، فهو يؤدي نفسه، ما يضحكنا هو الواقع أكثر من التمثيل». ليس هناك إبهار في أن نقول إن الحياة هي مسرح، فهناك نظريات طويلة عريضة عن الدراماتولوجي والحياة في أعمال الأنثروبولوجيين الكبار مثل كوفمان وغيره، لكن ما هو موجود في المجتمعات العربية أمر لم يدرس بعد. وقد كتب زميلنا الجامعي، جيمس سي سكوت، عن مسألة السيطرة والمقاومة وطرح فكرة ما يقوم به الضعفاء من أداء على مسرح الحياة اليومية تجاه الأقوياء. فمثلا في دراسته لمجتمعات العبيد في الولايات المتحدة، وضح بشكل جلي أن المرأة وابنتها من الخدم العبيد مثلا تتصرفان أمام سيد البيت في صحن الدار بطريقة القبول التام للسيطرة، وما إن تدخلا إلى المطبخ (أي عند نزولهما من على خشبة المسرح أو خارج إطار التمثيل)، يلعنان السيد وأهله. شيء قريب من ذلك تراه في المجتمعات العربية، فعندما يسر إليك أحدهم بحديث ثنائي، وفي مكان مغلق عن مظالمه، تسأل نفسك لماذا لا يثور هذا الشخص على كل هذا الظلم؟ والإجابة واضحة، هو أنه يعيش حياة التمثيل التي تمكنت منه فأصبحت جزءا من تكوينه. وقد كتب أنطونيو جرمشي عن فكرة الهيمنة التي لا يستطيع الفرد فيها تخيل عالم آخر غير العالم الذي يعيش فيه. فالفرد الذي يعيش في مجتمع خاضع للهيمنة، كمعظم المجتمعات العربية، يتصور أن سقف الحرية وسقف الإنسانية هما اللذان يعيش تحتهما، العالم هو ما يعيشه، وإذا رأى عالما آخر لا يصدق أنه عالم حقيقي. لذا ينظر هذا الفرد إلى العالم الحر على أنه عالم كاذب وداعر وكافر، أو عالم خيالي غير مقبول، كل ذلك نتيجة لهيمنة السلطات المختلفة علينا كأفراد، من سلطة القبيلة إلى سلطة الأسرة إلى سلطة الدولة وسلطة المجتمع. قوة هذه السلطات مجتمعة هي ما تخلق لدينا فكرة مسرحة الحياة، أي تحويل الحياة إلى مسرحية، نؤدي فيها على الخشبة أمورا لا نقبلها عندما نركن إلى ضمائرنا أو عندما ننزل من على خشبة المسرح. في جو كهذا، غالبا ما تنعدم فكرة الأخلاق الأصيلة، أو الالتزام بقيم طورها الفرد لنفسه، فترى الالتزام بالقيم الدينية بشكل مظهري على خشبة المسرح، ومتى ما تم النزول من على الخشبة أنكرت هذه القيم، لذا تجد الدين في هذه الأجواء غالبا ما يأخذ شكل المظاهر، من إطالة لحى إلى قصر جلابيب، إلى زبيبة في الجبهة...إلخ. حالة من النفاق المطلق، أو الأداء المسرحي المرهق. أداؤنا اليومي أمام مجتمعنا هو حالة مسرحية بامتياز، يبهرنا ما نراه كل يوم من تصرفات أهالينا وأصدقائنا، الذين نعرف أنهم غير ذلك، ثم نمسكهم كل يوم متلبسين بشخصية اجتماعية ممسرحة. الأداء الذي نراه كل يوم أكثر إبهارا من أي مسرح. لذا عندما يخرج أحدنا من مجلس السلطة بأشكالها المختلفة، سواء مجلس عادي أو حلقة تلفزيونية، يسأل رفاقه عن رأيهم في أدائه، لأنه ورفاقه يعرفون في قرارة أنفسهم أن ما شاهدوه غير حقيقي، لذا لا يحاكم بالمعايير الحقيقية، بل يحاكم بمعايير الفن، أي كيف استطاع صاحبنا أن يخلب لب الجالسين أو يبهر المشاهدين، إبهارا أفضل من أي ممثل نعرفه. في الغرب الفن يقلد الحياة أحيانا، أو يبالغ في رسمها، فنضحك أو نحزن، ولكن الفن عندنا لا يقلد الحياة، بل الحياة هي التي تقلد الفن، أو هي الفن ذاته. المسرح لا يقلد الحياة بل الحياة هي التي تقلد المسرح، وأحيانا مسرح اللامعقول بما ينافس أعمال صامويل بيكيت وهارولد بنتر وغيرهما. بداية نجاح المسرح أو الفنون عموما هو أن تكون خشبة مسرح الفنون في مجتمع حر، أما أن تكون الحياة ذاتها هي الخشبة، فمعنى ذلك نهاية الفن. في العالم العربي تتبادل الحياة المواقع مع المسرح، وتتبادل الصحيفة المواقع مع الرواية، لذا كنت أنصح طلابي ممن يريدون دراسة العالم العربي من خلال تقارير الصحف، أن يقرأوا الروايات العربية، لأن الرواية أكثر صدقا من الصحيفة، خصوصا في ما يتعلق بوصف السلطة أو نقدها. الجريدة اليومية هي الرواية، وفي الرواية تقارير عن كل ما هو يومي بشكل فني، حتى يتجنب الكاتب غضب السلطات المختلفة التي تحكم حياتنا. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |