CET 00:00:00 - 07/07/2010

مساحة رأي

 كتب: حنا حنا المحامى
  شاهدت فى القناة (13) برنامجًا عن "مصر"،  والبرنامج يصوّر قرية جديدة بها قصور شامخة ومحاطة بسور،  وتتساءل المذيعة: هل هذه القصور فى "أمريكا"؟ لا..هل هى فى "بفرلى هيلز"؟  لا..
إنها فى "مصر"، وعقب هذه الصورة ظهرت صورة بعض الصبية ينبشون القمامة بحثًا عما يمكن أن يسد رمقهم.

عقب ذلك ببضعة أيام، حضرت قريبة لى كانت فى زيارة لـ"مصر"، وشهدت هذه القرية الجديدة.  وأخذت تسألنى عما يمكن أن أتصوره كحد أدنى لثمن تلك القصور.  وبعد جهد اكتشفت أن خيالاتى كانت قاصرة إلى حد بعيد عن الثمن الحقيقى لتلك القصور.

 وعلى القارئ العزيز أن يتصور تلك القصور وثمنها, ولكن مهما بلغت خيالاته وتصوراته فلا أخال إنه سيصل إلى الحقيقة, وعلى القارئ أن يستعد لما لا يخطر له على بال.. إن هذه القصور ثمن الواحد منها (47) مليونًا من  الجينهات.

هذا وأرجو أن نعى جيدًا أن القصر يُباع خاليًا، معنى ذلك أن فرش القصر لن يقل عن ثلاثين مليونًا أخرى.  وأرجو ألا يكون خيالى قاصرًا أيضًا عن تصور الرقم الحقيقى، أو الذى يمكن أن يكون حقيقيًا.  بذلك تكون تكلفة القصر سبعة وسبعون مليونًا من الجنيهات, أى ما يقرب من خمسة عشر مليونًا من الدولارات.

وليس لنا أى اعتراض على الثراء أو الجاه إذا كان ثمرة إنتاج وعمل.  ولكن يثور التساؤل: أى نوع من الإنتاج أو العمل هذا؟

مما لا يدعو إلى النقاش أو الجدل، إن الفئة التى تتحكم فى ثروة "مصر" لا تزيد عن نصف فى المائة.  أيضاً ليس لنا أى اعتراض على ذلك.  ولكن هل هذه الثروات يمكن أن تكون مشروعة؟
هنا نقطة البحث. 

 نأخذ مثالاً: صناعة الحديد تخضع للإحتكار،  وهناك صناعات أخرى تخضع للإحتكار،  وهذا الإحتكار يخوّل لصاحبه أن  يحدّد السعر الذى يريده، خاصةً إذا كانت السلعة عديمة المرونة, والسلعة تكون عديمة المرونة إذا لم يكن لها بدائل أخرى.  فالسلعة عديمة المرونة يمكن أن يتحدد سعرها بواسطة المحتكر، ولا يملك المستهلك إلا إن يذعن لذلك السعر؛ لأنه لا توجد أية بدائل أخرى للإستعمال فى غرض معين.  ومن هنا يتحقق الثراء الفاحش، ذلك أن المستهلك لا يملك إلا أن يشترى بالسعر الذى يحدده المُنتِج، والذى يحقق له ثراءً فاحشًا. 

 بعد ذلك يُقال أن "مصر" ديمقراطية،  ولكن من المعروف أن الديمقراطية لا تتفق إطلاقًا مع الإحتكار.  ففى الدول الرأسمالية نجد أن الإحتكار ممنوع بقوة القانون.

معنى ذلك أن الإقتصاد السليم يقوم على المنافسة الحرة،  وهذه المنافسة تؤدى عادةً إلى تخفيض سعر السلعة إلى السعر الحدى.  والسعر الحدى بلغة الإقتصاد هو أدنى سعر يمكن أن تُباع به السلعه فى سوق المنافسة الحرة بعد تحقيق ربح مناسب.

 من هنا يكون الإنتاج فى حالة المنافسة الحرة يسعى إلى تحقيق أكبر ربح فى ظل منافسة السوق،  فالسعر ليس مطلقًا، بل تحده أسعار السلع المنافسة أو البديلة

كذلك تحدّد أسعار السلع، نظام الحد الأدنى من الأجور،  ففى ظل المنافسة يكون لكل صاحب عمل الفرصة فى أن يعمل على توظيف أفضل العناصر،  ومن أجل الحفاظ عليها يمنح تلك العناصر المرتبات المجزية،  وهكذا تدور عجلة الانتاج فى تنافس مشروع لصالح المستهلك والعامل على السواء.
 أما فى ظل الإحتكار فالأمر يختلف تمامًا،  فإن كل حقل إنتاج يستأثر به منتج أو إثنين على أكثر تقدير, فيسهل عليهم تحديد سعر السلعة كما يريدون فتنعدم المنافسة, ومن ثم يكون لكل منتج أن يحدّد السعر الذى يحقق له أفشح ثراء، وهو فى ذلك فى مأمن تام من القانون، بل إن القانون يحميه. قانون الإحتكار غير المدون.

كذلك فى ظل انعدام المنافسة، فإن رب العمل أو المنتج يحدد سعر العمالة، أى أجر العامل، بالقدر الذى يرتأيه، وليس على العامل إلا أن ينصاع.  كما أن الإحتكار يجعل مجالات الإنتاج محدودة, ومن ثم تكون فرصة العمل محدودة.  وعلى ذلك فرب العمل هو الذى يحدد أجر العامل دون أى رقابة من الدولة (لأنه من المفروض إننا بصدد دولة تمارس الإقتصاد الحر), ولا يملك العامل إلا أن ينصاع لذلك الأجر حتى لا يُلقى فى الطريق دون عمل على الإطلاق.

حتى فى الدول الرأسمالية، حين يفقد العامل عمله أو وظيفته، يحصل من الدولة على بدل بطالة إلى أن يحصل على عمل.  أما فى "مصر" فإن بدل البطالة حبر على ورق.

على ذلك نجد إنه فى ظل الإحتكار تكون فرص العمل قليلة, ومن هنا يكثر الفساد، فيصعب على المواطن العادى أن يحصل على فرصة عمل، أو على وظيفة فى مصنع.

كما أن الدول الديمقراطية تحرم بقوة القانون التمييز بكل أنواعه أو أشكاله.  فمثلاً إذا أُعلن عن وظيفة وتقدم لها عدد من الطالبين بينهم شخص أسود, ولكن رب العمل فضل عليه شخصًا أبيض مع أن الاسود كان أفضل من حيث المؤهلات أو الخبرة, جاز لهذا الشخص أن يتظلم إلى مكتب لفحص حالته، فإذا ما أثبت أحقيته فى الوظيفة,  وإنه لم يحصل عليها بسبب التمييز, أُعطى الشاكى صكًا بأحقيته فى إقامة دعوى تعويض على رب العمل الذى قام بالتمييز.

من هذا العرض الموجز, يتبين لنا أن النظام الرأسمالى الحقيقى، يحقق رفاهية للعامل، كما إنه يحقق رفاهية لصاحب العمل،  وحين كنا ندرس النظم الإقتصادية فى دبلوم الإقتصاد، وقرأنا أن   الفقهاء الإشتراكيين يعيبون على النظم الرأسمالية بأنها تقيد الإنتاج إذ أن المنتج لو كشف عن كل الوسائل الحديثة فى تحديث الإنتاج لأصبح كل فرد من الشعب مليونيرًا.  وطبعا الفرض هنا أن المنافسة حرة، وإنه يتم شحذ المواهب وكل الإمكانات.  فما بال نظام لا يعتنى بالتحديث والمنافسة، بل يصر على الإثرة والإحتكار؟

والإحتكار يحد عادة من مجال المنافسة فلا تكون هناك تعددية, وتكون فرص العمل محدودة. ومن هنا تنشأ البطالة.  وهذا النوع من البطالة فى دول الإحتكار، بطالة أقل ما توصف بها إنها بطاله بشعة،  ذلك أن البطالة فى الدول الرأسمالية يسمونها Frictional unemployment.  أى بطالة مترتبة على تغيير مجالات الإنتاج التى يترتب عليها بطالة مؤقتة،  أما فى دول الإحتكار فالبطالة تكاد تكون مؤبّدة، إذ أنها تستطيل مدتها إلى سنوات عديدة بسبب الإحتكارات الرأسمالية،  وذلك فضلاً عن سياسة التمييز فى العمالة التى لا ضابط لها ولا رابط.

 من هنا، نجد أن المحتكر يحقق أرباحًا خيالية فى ظل الإحتكار, ومن ثم تكون مثل تلك القصور عادية جدًا.

ولكن، هل مثل تلك الأرباح مقبولة فى "مصر"؟
لو أن تلك الأرباح تتحقق فى ظل نظام العمالة الكاملة، والتى تخوّل لكل فرد أن يعيش فى مسكن مناسب، كما أن دراسته وكفاءته وكفاحه تخوّل له أن يحصل على وظيفة ملائمة, ومسكن ملائم, أو يتملك مسكنًا ملائمًا, هنا يكون الأمر مقبولاً ولا غضاضة فيه.

ولكن أن يتحقق هذا الثراء الفاحش بينما البطالة تصل إلى ما لا يقل عن 30% ، فهنا تكون الخطورة بل والبشاعة. ذلك الثراء  الفاحش.. بينما هناك من يقتات من القمامة ولا يجد قوت يومه, هنا لا يكون العيب فيمن لا يحصل على وظيفة أو عمل, بل يكون العيب ومكمن الخطورة فى النظام نفسه.  أو بمعنى أخر يكون النظام غير إنسانى.

والأثرياء عادة فى ظل هذا النظام عبر الأيام والسنين والعقود، ينفصلون رويدًا رويدًا عن عامة الشعب أو المجتمع, ولا يلبث أن تكون المنافسة منافسة على الثراء، فلان لديه طائرة، ولم لا يكون لى طائرة أيضًا؟  وهكذا تنقلب المنافسة من منافسة انتاج إلى منافسة ثراء وعرض للإمكانات والممتلكات.  ومن ثم ينفصل الثرى عن المجتمع، وعن عامة الشعب، فلا يشعر بآلامهم أو أحاسيسهم، وكل ما يسيطر علي فكره هو المنافسة فى استعراض إمكانات الثراء،  ولا تلبث بالتالى أن تتبلد فيه أحاسيس الإنسانية، والشعور بآلام الغير، أو حرمان الغير.  ومن هنا يصح القول أن ثراءه أصبح ثراء غير إنسانى.

 ولا يفوتنى فى هذا العرض، أن أعرض أن هؤلاء الأثرياء فى بلد متدين، فنجد أن المسلم لا يفوته أن يقدّم زكاة فى شهر رمضان، وأن يقيم موائد إفطار فى نفس  الشهر؛ حتى يضمن دخوله الجنة.  كما أن مثل هؤلاء الأثرياء يعتقدون أن سبب ثراءهم هو ذكاءهم المفرط، وليست سياسة الإحتكار والتمييز التى تسود الإقتصاد المصرى.  كذلك الثري المسيحى لن يفوته أن يقدم بعض الفتات التى تتساقط من مائدته.

هناك من المسلمين والمسيحيين من يؤدى عطاءه الدينى بما يرضى ضميره, ولكن هؤلاء استثناء لا يمكن القياس عليه.  أما السياسة العامة فهى تلك التى نشاهد تداعياتها الإقتصادية، والإجتماعية، والوظيفية, وهى تلخص فى كلمة واحدة وهى إنها "غير إنسانية".

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق