CET 00:00:00 - 07/07/2010

مساحة رأي

بقلم: شاكر فريد حسن
 لم يمض وقت طويل على رحيل وتساقط كبار المثقفين الرياديين والمبدعين الشرفاء؛ ("فؤاد زكريا"، "محمد عابد الجابري"، "محمود السعدني"، "أسامة أنور عكاشة"، "فاروق عبد القادر"، "محمد عفيفي مطر")، وإذا بالموت يهجم مجددًا ليسلب ويخطف عملاقًا فكريًا فذًا وألمعيًا هو الأستاذ الجامعي الدكتور "نصر حامد أبو زيد"، الذي هوى وغادرنا إلى رحلته الأبدية صباح الإثنين الخامس من يوليو "تموز"، إثر مرض غريب عجز الأطباء عن تشخيصه وعلاجه، وبعد رحلة عطاء ثرية قضاها في الدراسة والبحث في ميدان التراث الديني الإسلامي وتجديده، باستخدام المناهج العلمية المعاصرة، ومخلفًا وراءه إنتاجًا فكريًا وفلسفيًا ضخمًا سيظل سلاحًا بتارًا حادًا بأيدي عشاق المعرفة والعلم والاجتهاد والتغيير.

 وبوفاة "نصر حامد أبو زيد" يخسر الفكر العلمي التنوري النقدي إحدى قاماته الشامخة والسامقة، ويودع نجمًا مضيئًا ومشعًا في سماء الثقافة والفكر الديمقراطي الحر، ونفتقد مثقفًا نخبويًا عقلانيًا تقدميًا شجاعًا وجريئًا، وفيلسوفًا كبيرًا امتلك الكثير من عمق المعرفة والرصانة وجدية الأدوات المنهجية.
 "نصر حامد أبو زيد" من أعلام وعمالقة الفكر والفلسفة والنقد والحداثة والمعاصرة والديمقراطية، وأحد أبرز المفكرين الإسلاميين التنويريين والليبراللين الحداثيين المجددين والخلافيين المثيرين للجدل، والمشتغلين بقراءة خطاب النهضة ونقده، وقراءة النصوص الدينية والفكر الديني قراءة علمية تستند على أسس منهجية واضحة، أبرزها "الألسنية، و"الهرمنيوطيقيا"، و"علم الاجتماع"، والحرص على قراءة هذه النصوص من خلال البحث عن الدلالة فيها، دون أن يفرض آراؤه الأيديولوجية من خارجها.

 اكتوى عقله بجمر المعرفة الذي بقي قابضًا عليه كالجمر حتى وفاته، وأُعتبر ظاهرة إنسانية وعالمية كونه أحد أساتذة أجيال المثقفين النقديين في مصر والعالم العربي، لما امتلكه من رؤية فلسفية ونقدية خصبة، ونظرة علمية ثاقبة، وحجة قوية وحس إنساني راقٍ.
 كان "نصر حامد أبو زيد" شجاعًا غير هياب في إبداء رأيه والدفاع عنه، وعُرف بمواقفه الأصيلة الثابتة والراسخة وإبداعاته العلمية الجادة الواعية.
 خاض أشرس المعارك الفكرية والفلسفية وأعنفها ضد الجمود الفكري، مستخدمًا نعمة العقل وليس غريزة القطيع والتسليم الأعمى، وهزم خصومه في ميدان الرأي فلاحقوه بشتى الأساليب الغادرة الخسيسة.

 لكنه واجه كل الحملات الغوغائية الشرسة والموجات الإرتدادية والتكفيرية الظالمة من قِبل فقهاء الظلام وأعداء الإنسان والفكر التحرري، والجماعات الأصولية المتعصبة، وقوى التخلف والأمية والجاهلية الجديدة الساعية إلى محاربة وتقويض الأفكار النهضوية الحداثية المعاصرة، وتدمير التراث العربي التقدمي، وتعطيل دور العقل والعلم والمعرفة لصالح الغيبية ومحاكم التفتيش، وحالات التكفير وقمع كل فكر مخالف وكل اجتهاد في الدين والسياسة والأخلاق والعلاقات الاجتماعية.

  وهذه السلفية المتشددة المتعنتة هدرت دمه وهددته بالقتل، ولجأت إلى قانون الحسبة، وتمكنت من نفيه هو وزوجته "ابتهال يونس" خارج حدود الوطن.
 وكان "أبو زيد" يحلم بإنجاز وتذويت مشروعه الفكري القائم على النقد الجذري لكل الأصول الدينية التراثية، التي تشكل وعينا ومفاهيمنا ونضفي عليها القداسة والتقديس.

 إن مَنْ يقرأ مؤلفات "نصر حامد أبو زيد" قراءة علمية وموضوعية، خاصة منجزيه: "مفهوم النص- دراسة في علوم القرآن"، و"نقد الخطاب الديني"؛ سيتبين له أن جميع الاجتهادات التي تضمناها تأتي في إطار النقد والسجال والاستشراف العلمي الذي يتجاوز الأنماط التقليدية، من حيث تقنيات البحث المنهجي وافتراضاته الأولية، كما أن قراءة أعماله من شأنها إثارة التقدير والاحترام والاندهاش والانبهار لإمكانياته في النقد والتحليل المدعم بالمراجع، وبالرصيد المعرفي الضخم، إضافة إلى الجرأة التي تستوجبها أجندات الموضوع المطروح للبحث.

 وقد حاول "أبو زيد" عبر أدواته العقلانية المستمدة من المخزون الفلسفي العربي الإسلامي؛ مقاربة النصوص التراثية بالواقع العربي، بوعي نقدي وحس مرهف وانفتاح واسع وقراءة غير جامدة، وتأويل مختلف ومغاير.

 وفي منجزاته البحثية يقدم دراسة طليعية لأصول النص القرآني، في تصور جديد للإسلام الراهن، الذي بنى حضارته العظيمة متأثرًا بشدة من النص المحوري في تاريخ ثقافتنا العربية الإسلامية؛ وهو "القرآن الكريم"، كاشفًا المنطق الدلالي المستور لبعض الآيات القرآنية وبلورة صياغات علمية جديدة على أساسها.

 والفكرة التي تناولها وتداولها "أبو زيد" في دراساته وبحوثه هي فكرة "تاريخية النص الديني"، وانتمائه إلى بنية ثقافية محددة.
 ولم ينكر مصدر النص الآلهي المقدس، وإنما أشار إلى ذلك وأثبته وأكده في مؤلفه "النص والسلطة والحقيقة"، لكنه أراد كشف وإيضاح أن كون النص خطابًا إلهيًا من حيث المصدر لا يعني عدم قابليته للتفسير والتحليل؛ لأنه خطاب لغوي تجسد في لغة إنسانية، هي "اللغة العربية"، بكل إشكاليات سياقها الاجتماعي والثقافي والتاريخي.

 وفي قراءته للخطاب الديني يميز "نصر حامد أبو زيد" بين الفكر الديني والدين، فالدين -كما يقول- هو مجموعة النصوص المقدسة الثابتة تاريخيًا، في حين أن الفكر الديني هو الاجتهادات البشرية لفهم هذه النصوص وهذه الاجتهادات، وهذا يعني الطابع التاريخي للفكر عامة.
 ومن المؤلم أن الخلاف حول مشروع "أبو زيد" الفكري لم يتحول إلى سجال حضاري عقلاني موضوعي يثري الفكر العربي المعاصر، بل أجهض هذا السجال واقتصر على إتهام وإدانة هذا المشروع بالتكفير والتحريم.

 وهذا المسلك التكفيري في قراءة أفكاره وآرائه من قبل السطة الدينية يثبت -بما لا يدع للشك- سيطرة الجمود في الفكر الديني في العالم الاسلامي، ويؤكد حاجتنا إلى نقد وتجاوز النهج التكفيري العنجهي المتعصب.
 "نصر حامد أبو زيد" باحث اقتحامي، ومثقف عضوي وعصامي قدير، وعميق وموسوعي جامع، ومفكر كبير وعالم جليل من طراز فريد ونادر، نحني له القامات اعترافًا بفضله وعلمه.

 عاش حرًا شريفًا ونزيهًا ونظيفًا لم يساوم يومًا على قناعاته، صادقًا مع نفسه، في زمن يندر فيه رجال العقلانية والتنوير والوعي النقدي والاستقلالية والاعتدال، وحاول جاهدًا أن يسبق عصره بأفكار عبقرية نيّرة لا تسعها المعلبات والقوالب الفكرية الجاهزة.

 وقف ضد تجار "الإسلام السياسي" الذين امتطوا صهوة الإسلام لتحقيق غايات ومكاسب سياسية، وحارب الشعوذة والدجل الديني والخرافة، ودافع عن الإسلام الحقيقي الناصع وعن قيمه الأخلاقية العظيمة، ورأى أن التدين ليس بإطلاق اللحى ولبس العمائم والدشاديش واستخدام المسواك، وإنما بالعلم والمعرفة والثقافة الدينية المنفتحة، وبسلطان العقل والتفكير المنطقي الحر، وإعادة التفكير.

 وقد أثرى الفكر العربي الحديث بجهوده وإسهاماته الفكرية والفلسفية البحثية، التي تميزت بجديتها والتزامها الصدق والعلمية والمعرفة والنظرة النقدية.
 وفي النهاية فإن "نصر حامد أبو زيد" أكبر من أن يُعرّف به، مات في وقت صعب وعصيب نحتاج فيه إلى فكره وفلسفته واجتهاده، وفي زمن انحسرت فيه العقلانية لصالح الثورة الراهنة للأصولية الدينية، لا سيما المقترنة بالتطرف والعنف، والتي تهيىء الشروط والظروف لولادة ونشوء الظواهر السلفية والعدمية متعددة الأشكال والألوان، وموته هو خسارة كبيرة وفادحة بكل المقاييس لا تعوض، وتشكل انتكاسة للحركة الفكرية العربية الراهنة، ولكن العزاء أن حضوره يبقى في فكره وإرثه الثقافي الفكري الذي خلفه لنا.

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق