CET 00:00:00 - 12/07/2010

مساحة رأي

بقلم : نبيل المقدس
قمة الوفاء رأيتها في وفاء ... فتاة حارتنا المثالية ... علما وادبا وجمالا ... أعتبر نفسي من الجيل الذي يليها مباشرة ... كنت انا وأولاد وبنات الحارة نتمني أن تنادي احدنا لكي نلبي لها طلب من الشارع ... كنت ألاحظها دائما في ايام الدراسة مشغولة دائما بالسؤال عن ساعي البريد ... تنادي احدنا وتتكلم بصوت خافت : هو لسه عم فوزي مجاش " قصدها " ساعي البريد" ... ربما لأنني كنت قريب منها نوعا , فقد كنت اعرف سبب سؤالها الدائم عن عم فوزي ... وعندما تتستلم جواب , كانت تنادي علي سامية صاحبتها وجارتها لكي تقرأ عندها الرسالة ...

مرة تكون الرسالة سبب سعادة ليها , ومرة تكون سبب هم وغم ليها ينعكس علينا , فتفتح الشباك وتزعق فينا لكي نترك مكاننا تحت شباك حجرتها حيث كان اجمل وانسب مكان للعب والتحادث مع بعضنا البعض انا وباقي الجيران ... كانت تطردنا بحجة ان الوقت ظهر وهي تريد ان تنام . لكن انا بالفطرة عارف السبب , أكيد حبيب القلب قلب عليها المواجع , اسمه بهاء , وهو فعلا بهاء ... وسيم ... كان يسكن في البيت المقابل لبيتها ... كان يدرس الاداب بجامعة القاهرة , واحنا كنا في أحدي محافظات الصعيد ... احداث حقيقية اسردها في زمن ماقبل الثورة ومابعدها . كان الحب فيه .. حب جميل طاهر .
     في إحدي المرات وبعد نهاية السنة الدراسية , وجدتها تخرج مسرعة من شقة صاحبتها سامية ... نادت علينا كلنا ... وهتفت وقالت : هيا ياولاد العبوا تحت شباك حجرتي ... كانت السعادة علي وجهها ينعكس علينا ايضا بالفرح والسرور ... كانت وفاء تحبنا كأولاد وبنات ...

كانت بالنسبة لنا "فاتن حمامة" الحارة . وبعد اسبوع أتي بهاء كعادته في اجازة الدراسية الصيفية ... نزل من الحنطور , وكعادته دائما ينادي علينا لكي نضع الكورة الشراب علي مدخل الحارة لكي يركلها عالية ... كان يحضننا واحدا وراء الآخر ... اكيد الأحضان دي لها معني ... فهو كان يقصد بها وفاء التي كانت تطل من الشباك واجدها مع كل حضن من بهاء لنا , يقابلها حضن من وفاء لسامية ... كنت اشعر بسامية جارتها أن اكتافها قد انطبقتا علي بعضهما البعض من كثرة احضان وفاء . 

بالليل وأنا واصحاب الجيران جالسين في مدخل الحارة سمعنا زغاريد تنطلق من شقة وفاء ... فهمت وأدركت سبب الزغاريد و فرحت لوفاء ... لكن حزنت وبدات غيرتي من بهاء ... لأنه سوف يأخذ مننا فاتن حمامة الحارة ... كان بهاء في السنة النهائية من الكلية , وتقدم لأهل وفاء , وفاز بها وفازت هي ايضا به ... وإلي هنا إنتهت مأمورية عم فوزي "ساعي البريد" . 

قضي بهاء مع وفاء اجمل شهرين لهما في المحافظة , بالرغم عدم وجود أماكن للترفيه أو التنزه إلا سينما يتيمة تعرض الفيلم لمدة شهر تقريبا ... غير هذا لا يوجد كازينوهات إلا كازينو بلكونة وفاء والتي كانت لا تطل علي الحارة , بل علي المَنْوَرْ الخلفي من البيت ... بعيدة عن عيون الحاسدين ... والذي منه ...!!! 

تخرج بهاء , وأتي لكي يتم الزواج , كان الإستعداد للزواج قائم علي ابناء الحارة , جمعنا كراسي الجيران , واكواب الجيران ونقلناهم إلي شقة خالتي أم بهاء , واخذناهم إلي الكنيسة بعربيات الحنطور المُزينة بالورود ... ورجعنا بهم إلي الحارة , وتبرعت البنات برقصات واغاني صعيدية جميلة ... خالية من البذاءة ... كانت الفرحة تنطلق من وفاء وبهاء , مما جعلنا نفرح نحن ايضا . وفجأة وفي وسط الزغاريد والرقص والإبتهاج , نري سيارة نقطة البوليس تأتي , وتقبض علي بهاء , وبسرعة أخذوه إلي محطة سكة الحديد حتي اتي قطار الساعة 12 لينتهي يوم مفرح , وليبدأ ايام تعيسة علي وفاء وعلي اهل الحارة . سافر معه كل من والده وخاله وأخيه الأصغر . 

عرفنا بعد حوالي 3 شهور أنه محبوس علي ذمة قضية سياسية ... اتضح انه كان ينتسب إلي ما كان يسمونهم بالشيوعيين ... سافرت وفاء إلي القاهرة , عند خالتها , واقامت هناك بجانب حبيبها وزوجها ... وكان الأمر ليس بيديها ولا بيد المحامي ... فقد تم إعلان الحكم عليه علي ما أتذكر سبع سنوات . داومت وفاء زياراتها له بصعوبة , فقد كانوا ينقلونهم من سجن إلي سجن بدون معرفتها , فكانت تبحث عنه من أول وجديد حتي تجده . 

مرت ثلاثة سنوات كانت وفاء قد وجدت وظيفة في أحدي المحلات المشهورة قبل التأميم , وإستاجرت شقة من حجرتين , وانتمت إلي إحدي الكنائس القريبة ... وفي إحدي زياراتها لزوجها الحبيب , وجدته ليس كعادته مبتسما ومتفائلا ... بل وجدت في عيونه اليأس والقنوط , كان والده ووالدته معها في هذه الزيارة ... سألته بلهفة ... مالك يابهاء ؟؟؟ قال لها : بصراحة أنا طلبت مجيء والدي ووالدتي لكي اقول لكي أمامهما.. انني أعطيكي السماح أن تتركيني , وتشوفي مستقبلك مع غيري ... انا اصبحت ميتا لا مستقبل لي ... حرام عليّ أن أدفنك معي في مستقبل مظلم ,وأخذ في البكاء ... قلت له : قصدك اطلب الطلاق رسمي لمجرد حبسك ؟؟ قال نعم وهذا حقك ....!!! قلت له ... صحيح انت لم تتزوجني جسديا ... بل نحن تزوجنا روحيا ... وما يجمعه الله (جسديا) لا يفرقه إنسان فكم بالحري ما يجمعه الله ( روحيا) ... مَدّتْ يداها من وراء القضبان وأمسكت بيديهِ وبكل قوتها البدنية والروحية قلت له : 
حبيبي : نهاية الزواج  بالموت الجسدي  ... وليس بالحبس حتي ولو كان أبدي!!

هذه القصة واقعية ... حدثت منذ خمسون عاما تقريبا ... في الزمن الذهبي لمصر ... حيث كنا لا نعرف كلمة الطلاق , ولا لعلة الزنا , ولا الزواج الثاني ... إلخ , كانت مثل هذه المواضيع مواضيع شخصية بين الشخص وكنيسته , او كاهنهُ , والأهم من كل هذا بين ضميره وإلهه.

خرج بهاء بعفو عام للمحبوسين تحت قضايا سياسية بعد ماقضي حوالي 5 سنوات في المعتقل ... وهاجر مع وفاء إلي كندا بمجرد خروجه من الحبس وكان نتاج هذا الوفاء البهي هو ابن يعمل الان في كندا . وقبل ما أختم هذه القصة إتصلت بقريب لهم , لكي أعرف أخبارهم ... وعرفت منه أن وفاء قد توفيت منذ 8 سنوات , ويعيش بهاء الآن في كنف إبنه في حالة زهايمر مستغرقا في ذكرياته الخاصة .  

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣٢ صوت عدد التعليقات: ٤٢ تعليق