CET 00:00:00 - 14/07/2010

مساحة رأي

بقلم :عبدالخالق حسين
تشكل شخصية الزعيم عبد الكريم قاسم، الوجه الآخر المكمل لثورة 14 تموز 1958، إذ غدا هو والثورة وجهين لعملة واحدة. وبمناسبة الذكرى 52 للثورة المجيدة، أقدم جوانبَ من هذه الشخصية الوطنية الفذة التي أصبحت رمزاً للوطنية العراقية والنزاهة والإخلاص للشعب والوطن والإنسانية.

لماذا شخصية قاسم مثيرة للجدل؟

لم تكن هناك شخصية في تاريخ العراق الحديث، أثارت من الجدل والاختلاف ونشرت عنها كتب ومقالات ودراسات كشخصية الزعيم عبدالكريم قاسم. فكأي شخص دخل التاريخ من أوسع أبوابه في مرحلة التحولات الثورية، له أعداء كثيرون ومحبون كثيرون. فتعرض قاسم إلى الكثير من التشويه ووجهت له تهم شتى منها مثلاً تهمة شق الشعب، وشق الأحزاب السياسية، وضرب بعضها ببعض متبعاً ما سمي ب "سياسة التوازنات". كما ووجهت له تهمة الشعوبية، والشيوعية، والعمالة لبريطانيا وأمريكا وروسيا، بل وحتى تهمة الجنون وغيرها. وبالمقابل بالغ محبوه في إضفاء المناقب، وإلصاق صفات أسطورية به من فرط حبهم له إلى حد أن البعض من الناس البسطاء لم يصدقوا بقتله لسنوات ما بعد مصرعه. أعتقد من المفيد مناقشة هذه الصفات والتهم التي ألصقت بقاسم لنرى مدى صحة أو خطأ هذه المثالب والمناقب.

موضوعة شق الشعب
يذكر الضابط سالم عبد القادر العباسي الذي نقل عبدالكريم قاسم وطه الشيخ أحمد بدبابته من قاعة محكمة الشعب قرب وزارة الدفاع إلى محطة الإذاعة يوم 9 شباط 1963 حيث أجريت تصفيته مع رفاقه الآخرين، بعد استسلام قاسم إلى الانقلابيين، وتحاشى حرب أهلية لمنع المزيد من سفك الدماء، وبعد أن أعطوه وعداً بالمحافظة على حياتهم، ليلقي مصيره المحتوم على أيدي الإنقلابيين فيقول: "… اتجهنا في شارع الرشيد إلى الباب الشرقي حيث الجسر الجمهوري. وكانت الشوارع خالية من أي بشر… وبعد لحظات قال لي عبدالكريم قاسم: "لماذا ثرتم عليَّ..؟ قلت له لأنك قسّمتَ البلد .. وماشيت الشيوعيين". 

لقد نسي هذا الضابط وآلاف غيره إن انقسام الشعب في مراحل التغيير ونقاط الإنعطافات في حياة الشعوب مسألة حتمية لا مفر منها ولم يسلم منها أي شعب أو أي قائد أو مصلح أو ثائر يقود عمليات التغيير في المنعطفات التاريخية الكبرى كعملية ثورة 14 تموز 1958. فالتحولات الاجتماعية الجارية من شأنها أن تثير الكثير من ردود الأفعال البالغة العنف أحيانا.

يخبرنا التاريخ أن الإمام علي بن أبي طالب (ع) كان أكثر الخلفاء الذين اختلف حوله المسلمون، وبسببه انشقوا إلى معسكرين متحاربين لأول مرة في تاريخ المسلمين. فيقول الدكتور علي الوردي في هذا الخصوص: "مشكلة (تفريق جماعة المسلمين) وهذه المشكلة هامة جداً. وهي في الواقع من أهم مشاكل المجتمع البشري بوجه عام. ويطلق عليها علماء الاجتماع اليوم مصطلح (المشكلة ذات حدين).

"ففي كل مجتمع متحرك نجد زمرة من الناس تدعو إلى مبدأ جديد فتفلق المجتمع به وتمزق شمله. وهذه الزمرة المفرِّقة تعد في أول الأمر ضالة عاصية وتكال لها التهم من كل جانب. إنها تمزق الجماعة وتشق عصا الطاعة حقاً. ولكنها في نفس الوقت تبعث في المجتمع روح التجدد والتطور. ولولاها لجمد المجتمع ولبقي في خمود متراكم قد يؤدي به إلى الفناء يوماً ما."

لذلك فمسألة شق الشعب مسألة حتمية ترافق مراحل الثورات والتحولات الاجتماعية الكبرى وهي ليست من صنع قادة الثورات، بل ملازمة لهذه التحولات. الانشقاق نتيجة الصراع بين فئة ضد التحولات الاجتماعية وفئة تناضل من أجل التغيير والعدالة الاجتماعية. ففي المجتمعات الديمقراطية الناضجة والمتحركة، تحصل هذه التحولات بصورة سلمية عن طريق صناديق الاقتراع، أما في المجتمعات المتخلفة الجامدة والمحكومة بالأنظمة الديكتاتورية، أو الديمقراطية المزيفة كما كان الوضع في العهد الملكي، فتحصل هذه التحولات عن طريق العنف والكفاح المسلح. 

وفي حالة ثورة 14 تموز، فإن أسباب شق الشعب عديدة ومعقدة ومتشابكة، منها عوامل داخلية: تمييز ومظالم واضطهادات عنصرية ودينية وطائفية وطبقية متراكمة عبر قرون، كانت تنتظر لحظة انفجار البركان، إضافة إلى العوامل الخارجية، العربية والإقليمية والدولية والشركات النفطية الاحتكارية التي كانت الثورة تهدد مصالحها. فرغم كون الظروف الموضوعية الداخلية كانت ناضجة لتفجير الثورة، إلا إن القوى السياسية وقياداتها من أصحاب المصلحة بالثورة، لم تكن ناضجة بمستوى المسئولية لحماية ثورتها من قوى الثورة المضادة التي كانت تتربص بهم جميعاَ.

تهمة الجنون
أول من اخترع هذه التهمة ضد الزعيم عبدالكريم قاسم هو الصحفي المصري المعروف محمد حسنين هيكل الذي أدعى أنه سأل صديق شنشل عن قادة الثورة فأجابه (أن عبدالكريم قاسم نصف مجنون وعبدالسلام عارف نصف عاقل.!!). ومن صياغة الجملة نعرف أنها جملة منحولة، صيغت بخبث ودهاء وخبرة صحفي محترف في التضليل والتلاعب بالألفاظ من أجل تمرير أغراضه. ومن معرفتنا بعلاقة شنشل بالزعيم قاسم نعرف أنه من المستحيل أن يصدر منه مثل هذا التصريح. وقد ظهر في الوثائق السرية البريطانية التي يسمح لها بالنشر بعد ثلاثين سنة، عن مقابلة السفير البريطاني لشنشل في داره في بغداد بعد استقالته من حكومة الثورة ضمن قائمة الوزراء القوميين الآخرين بالجملة، أنه حتى في تلك اللحظة، كان شنشل واضعاً صورة الزعيم قاسم على جهاز التلفزيون في غرفة الضيوف وأنه كان يكن احتراماً كبيراً له. وهذا ينفي ما ادعاه هيكل المعروف عنه في فبركة القصص الصحفية ودوره في تضليل الرأي العام العربي.

أما تهمة شق الأحزاب السياسية وضرب هذا الحزب بذاك، فهي الأخرى لم تصمد أمام أية مناقشة منصفة؟ إذ كيف يمكن لعسكري ومجنون أو نصف عاقل، على حد تعبير هيكل، أن يقنع القادة السياسيين المحترفين لهذه الأحزاب ويشقهم ويضرب بعضهم بالبعض ما لم يكن سياسياً محنكاً وداهية أين منها دهاء معاوية أو مكيافيلي!! أليس هذا إهانة لذكاء قادة تلك الأحزاب ناهيك عن الاستهانة بذكاء القراء؟

أما الحقيقة والواقع، وحسب خطابات الزعيم المدونة وتصريحاته ومقابلات الصحفيين والسياسيين له وتصريحات خصومه عنه فيما بعد، تؤكد أنه كان يتمتع بعقل متفتح وناضج ورباطة جأش وشجاعة وثقافة تجعله من أثقف ممن حكم العراق قبله وبعده. وفي معرض المقارنة بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف يقول إسماعيل العارف: "وكان متوقعاً أن ينفجر الخلاف بين عبدالكريم قاسم وعبدالسلام عارف في كل لحظة بعد الثورة لتناقض شخصيتيهما وتعارض مزاجيهما في السلوك والرغبات. وقد جمع بينهما هدف واحد هو تحقيق الثورة وإسقاط النظام الملكي.

فعبدالكريم قاسم يختلف عن عبدالسلام في إتزانه وقيمه الخلقية وعمقه وكتمانه وحذره، أما عبدالسلام عارف فقد كان متسرعاَ كثير الكلام متعجرفاً محدوداً ولكنه جسوراً مقداماً. وبالرغم من أن كليهما يتصفان بالشجاعة والإقدام إلا إن جرأة عبدالسلام تتميز بالتهور. أما عبدالكريم قاسم فكان ينفذ ما يريد بجرأة وتصميم بعد حساب دقيق للاحتمالات، ولا يندفع وراء المغريات المادية وحب الظهور. ولم يكن ذلك حال عبدالسلام عارف." 

تهمة الشعوبية
هذه إحدى التهم التي وجهت لقاسم من قبل القوميين العروبيين، وكانت في مقدمة البيان الأول لإنقلاب 8 شباط 1963. والمقصود بالشعوبية العداء للأمة العربية طبعاً. ولكن في المفهوم العروبي العراقي يقصد به الخروج على الموروث التركي الطائفي ضد الشيعة العرب وغيرهم. والمعروف عن قاسم أنه نبذ الطائفية في عهده حيث نشأ في بيئة عائلية مكونة من أب سني وأم شيعية، وأفراد الأسرة خليط من السنة والشيعة ولا يعرفون التمييز الطائفي. لذا كان من الطبيعي من رجل نشأ في مثل هذه البيئة السليمة أن ينبذ الطائفية وجميع أشكال التمييز بين أبناء الشعب الواحد، بل عاملهم حسب انتمائهم الوطني العراقي بغض النظر عن الانتماء العرقي أو الديني أو المذهبي الذي كان معمولاً به في العهود الغابرة. فاعتبرت هذه السياسة عملاً شعوبياُ معادياً للأمة العربية!!

فهل حقاً كان قاسم ضد الأمة العربية؟ إن تاريخه، سواءً قبل ثورة تموز، حيث خاض المعارك البطولية في حرب فلسطين الأولى عام 1947-1948، التي تعتبر القضية المركزية العربية الأولى، أو بعد الثورة وتبنيه المواقف القومية في الصميم وفي مقدمتها كفاح الشعب الفلسطيني والجزائري ونضال شعب عمان (مسقط) ودعم حركة التحرر الوطني العربية.

فمواقفه من الثورة الجزائرية ضد الاستعمار الفرنسي معروفة، وقد خصص مليوني دينار (2 مليون دينار) لدعم الثورة سنوياً، وهذا المبلغ كان كبيراً في ذلك العهد وكان يشكل نحو 2% من الموازنة السنوية، إلى حد أن أنتقده أحد قادة الأحزاب الوطنية متهماً إياه بالتفريط بأموال الشعب العراقي!! ولم يكتف قاسم بالدعم المالي للثورة الجزائرية بالمال فحسب، بل وكان يرسل للثوار كميات كبيرة من الأسلحة وتدريبهم.. الخ إذ يقول الزعيم قاسم بهذا الخصوص: "إنني أبشركم بأن الأسلحة التي خصصت للجزائر كانت بدرجة كافية. وقد خصصنا أسلحة أخرى، وسوف تخصص أسلحة أخرى حتى تتحرر الجزائر. وسوف ندعمها بكل ما أوتينا من قوة. فهذه معاهدنا ومدارسنا العسكرية ومعاهد العلم الأخرى مفتوحة أبوابها أمامهم فهم إخواننا وما عليهم إلا أن يحضروا هذا البلد ويدرسوا على حساب هذه الدولة وهي دولتهم" . فهل هذا الرجل شعوبي؟

أما موقفه من القضية الفلسطينية فلا يمكن حجب شمس الحقيقة بغربال، كما يقولون. فالكل يعرف بمن فيهم الخصوم ويذكرون دور قاسم  في حرب فلسطين عام 1947. وهناك حادثة جديرة بالذكر لما لها من دلالة على موقف الزعيم من القضية القومية ومفادها، أن نوري الدين محمود كان قائداً للقوات العراقية عندما وقع الجيش المصري في حصار الفالوجة فأحجم عن مساعدته مستخدماً شتى الذرائع، وكان عبد الكريم قاسم أحد أمراء الألوية الذين أصروا على التدخل لفك الحصار عن الجيش المصري، وبعد رفض نور الدين محمود، رتَّبَ قاسم أمره وأعد لواءه سراً للتحرك ليلاً لمساعدة الجيش المصري خلافاً لأوامر قيادته العسكرية، لكنه فوجئ عشية التحرك بتحقق اتفاق بين القيادتين العربية والإسرائيلية لفك الحصار. (راجع خليل إبراهيم حسين، موسوعة 14 تموز، عبد الكريم قاسم.)  والجدير بالذكر أن خليل إبراهيم حسين من الضباط القوميين العرب ومن ألد خصوم قاسم.

فمرحلة حكومة ثورة 14 تموز، كانت مرحلة الشعوبية في رأيي هؤلاء لأنها امتنعت عن التمييز بين المواطنين على أساس طائفي أو عرقي ولأن قاسم لم ينساق وراء العواطف في القبول بالوحدة الفورية وإلغاء الجمهورية العراقية.

كما إن عبدالكريم قاسم هو الذي أسس جيش التحرير الفلسطيني في العراق، وطالب بتأسيس الدولة الفلسطينية في الضفة الغربية قبل احتلالها من قبل الصهاينة. فهل من الإنصاف اعتبار هذا الرجل شعوبياً وحاقداً على القومية العربية؟
وهذا ما أشار إليه في أخر تصريح صحفي له رداً على سؤال الصحفي إدوارد صعب من صحيفة (اللوموند) الفرنسية، حول وجود مؤامرات تهدد النظام، فأجاب :
"هناك مؤامرة الأخطر، وهذه ليست موجهة ضد العراق ولا ضد سوريا، إنما ضد فلسطين بشكل خاص. فهناك مؤشرات في الأجواء توحي بوجود مؤامرة لتصفية المشكلة الفلسطينية تقودها الولايات المتحدة الأمريكية. وهم يدركون أن النجاح في تنفيذها يقتضي التخلص قبل كل شيء من الحركات التقدمية المناهضة لإسرائيل. والأمريكيون يتمتعون سلفاً بتواطؤ عدد من الدول العربية ولم يبق عليهم سوى خنق سوريا والعراق". 
ولم يكتف الزعيم بدعم حركات التحرر العربية فحسب بل وكان يدعم جميع حركات التحرر العالمية، ويقول بهذا الخصوص: " نحن لا نحارب فئة معينة من الاستعماريين وحسب، نحن نحارب كل قوى الاستعمار الغاشمة التي تقيد الشعوب وسنبذل العون لبقية الشعوب في كفاحها من أجل تحررها الوطني" 

أما على المستوى الداخلي فكان حريصاً على التراث العربي والإسلامي ولم يبدر منه أي شيء لكي تلصق به تهمة الشعوبية. ومن الجدير بالذكر أنه بعد نجاح ثورة تموز، أصدر الزعيم قاسم في اليوم الرابع من أيلول القانون رقم 23 لسنة  1958 وأطلق عليه قانون العفو العام عن الجرائم السياسية التي وقعت في المدة من أول أيلول 1939 إلى ما قبل 14 تموز 1958 ، والذي بموجبه أعاد المكانة إلى العقداء الأربعة القوميين قادة حركة مايس 1941 واعتبرهم شهداء الوطنية، كما شمل القانون يونس السبعاوي ورشيد عالي الكيلاني وغيرهم. كذلك شمل العفو الضباط الأكراد الذين التحقوا بالحركة الكردية عام 1945 وأُعدموا، بعد استسلامهم للسلطة الملكية، ومنهم محمد أمين در بندي.

كما أخذ الزعيم قاسم يرعى شخصياً عائلة المرحوم كامل شبيب بعد إعدامه في العهد الملكي، حتى أنه عيَّن ابنه الملازم عوض كامل في مقره في وزارة الدفاع وبقى ملازماً له حتى انقلاب شباط ، حيث أُحيل على التقاعد وكان برتبة ملازم أول. كما عيَّن عام 1961 محمد سلمان، وزيراً للنفط، تكريماً لأخيه العقيد محمود سلمان، وتم طرده من قبل انقلابي شباط وأودع السجن، لا لشيء إلا لكونه وافق أن يكون وزيراً في حكومة عبد الكريم قاسم.

تهمة شق الأحزاب وسياسة التوازنات
أما التهمة الثالثة وهي شق الأحزاب، فهي الأخرى لم تصمد أمام الزمن. لأن من الواضح أن الأحزاب هي التي بدأت تتصارع فيما بينها ولم تحتاج إلى تحريض من قاسم، وذلك بتفضيل مصالحها الذاتية على المصالح الوطنية وعدم إدراكها لما يحاك ضدها وضد الوطن. ويقول بهذا الصدد الأستاذ محمد أمين: "لا أجدني بحاجة إلى التحدث عما جرى بعد ذلك، فذلك ليس بمهمة هذه الكلمة، ولكني أؤكد على عظمة هذه الثورة وأهميتها في تاريخ العراق الحديث. هذه الثورة التي ظهر اليوم كثيرون مع الأسف ينددون بها ويشوهون وجهها لأنها لم تبلغ غايتها التي كنا نريدها لها، ولا يدرون أن التقصير لم يكن من جانبها وان النكسات الكثيرة المؤذية التي تعرضت لها ومن ورائها شعب العراق لحد اليوم جاءت من أن القوى الوطنية لم تكن في مستوى مهماتها الحقيقية إزاء حدث كبير مثلها، فانشغلت بالتناقضات الداخلية فيما بينها غير ملتفتة إلى أن العدو الأكبر للجميع يقف لها كلها بالمرصاد." 

كما ويشهد بنزاهة قاسم، الأستاذ مسعود البرازاني فيقول: "... . يُتَهَمّ عبدالكريم قاسم بالانحراف والديكتاتورية، أتساءل هل من الإنصاف تجاوز الحق والحقيقة؟ لقد قاد الرجل ثورة عملاقة غيَّرت موازين القوى في الشرق الأوسط وألهبت الجماهير التواقة للحرية والاستقلال وشكل أول وزارة في العهد الجمهوري من قادة وممثلي جبهة الاتحاد الوطني المعارضين للنظام الملكي ومارست الأحزاب نشاطاتها بكل حرية. ولكن لنكن منصفين ونسأل أيضاً من انقلب على من؟"

أما قاسم فكان يتوسل إلى الأحزاب وقادتها أن ينبذوا صراعاتهم وتوحيد صفوفهم لحماية الثورة من المؤامرات التي كانت تحيق بهم وبالوطن، وقال مرة في خطاب له في هذا الصدد: "يقول واحد: هذا قومي، ويقول الأخر هذا شيوعي وذاك بعثي والثالث ديمقراطي. وأنا أقول هذا وطني وابن هذا البلد". وكان أكثر عمقاً لفكرته عندما أفصح عنها بالقول: " قمت بالثورة لصالح كل الناس إني دوماً مع الناس كلهم. أني فوق الميول والاتجهات والتيارات دوماً، وليس لدي انحياز لأي جانب كما إني أنتمي إلى الشعب بأسره، وإني أهتم بمصالح الجميع، وأسير إلى الأمام معهم كلهم، كلهم أخوتي." كما وناشد القوى المتصارعة بالقول: "أيها الديمقراطيون، أيها الشيوعيون، أيها القوميون، أتوسل إليكم أن تنبذوا خلافاتكم ووحدوا قواكم في خدمة البلد" . فهل الذي تصدر منه هذه الأقوال هو مجنون وشعوبي وقليل الخبرة بالسياسة، ويعمل على شق الصفوف والأحزاب؟ عجبي!!!!!!!

فالصراعات بدأت منذ الأيام الأولى من الثورة عندما طرح القوميون وبتعليمات من ميشيل عفلق الأمين العام للقيادة القومية لحزب البعث العربي الاشتراكي والقيادة المصرية، وتبنته قوى القومية العربية الأخرى، شعار الوحدة العربية الفورية. علماً أن هذا الهدف لم يكن من أهداف الثورة. فالقوميون رفعوا شعار الوحدة العربية، واليساريون (الشيوعيون والوطنيون الديمقراطيون والمستقلون) رفعوا شعار الإتحاد الفيدرالي، وهو الأقرب للواقع والتنفيذ.

الواقع هو أن البلاد كانت تمر في مرحلة ثورة وطنية لو قدر لها البقاء، لكانت ثمارها عظيمة للجميع، ولكنها كانت مهددة بالأخطار. وقد توسل قاسم بالجادرجي أن يقبل منصب نائب رئيس الوزراء خلال المرحلة الانتقالية إلى أن تجرى الانتخابات البرلمانية فرفض الجادرجي ذلك كما رفض التعاون مع قاسم. أما وجهة نظر محمد حديد وأغلب أعضاء قيادة الحزب فكانت مع دعم الثورة والوقوف مع قاسم.

وعندما أجيزت الأحزاب للعمل العلني، رفض وزير الداخلية إجازة حزبين فقط وهما حزب التحرير الإسلامي والحزب الشيوعي العراقي الذي أجيز حزب داود الصائغ بدلاً عنه، ولكن اعترض حزب التحرير الإسلامي على قرار الوزير وقدم شكوى على الحكومة إلى محكمة التمييز، فأصدرت المحكمة قراراً بإجازة الحزب، ولم يتدخل قاسم بقرار المحكمة رغم أن هذا الحزب كان يجاهر بعدائه لقاسم وحكومته وانتهى دوره مباشرة بعد إسقاط حكومة الثورة في انقلاب 8 شباط 1963. لذلك كان على الحزب الشيوعي أن يحذو حذو حزب التحرير، فيقدم شكوى إلى محكمة التمييز للنظر في قرار إجازته، إلا إنه لم يعمل ذلك.

ثقافة قاسم

لم يتعرض كاتب سياسي أو ناقد إلى ثقافة أي حاكم، سواء في العراق أو في البلاد العربية، عدا التطرق إلى ثقافة عبدالكريم قاسم. فبعد أن فشلوا في الطعن بوطنية قاسم وإخلاصه ونزاهته وحبه للشعب والوطن، حاولوا الطعن في عروبته وإخلاصه للشعوب العربية، ووصموه بالشعوبية، ولما فشلوا في إثبات هذه التهم فلم يبق أمامهم سوى اللجوء إلى الطعن بثقافته. فهل حقاً كان قاسم غير مثقف؟

يؤكد الأستاذ حسن العلوي الذي كان يسكن مجاوراً ليبت الزعيم، عندما كان تلميذاً في المدرسة، فيقول: "كثيراً ما أسررت لأم حامد (أم عبدالكريم قاسم) رغبتي باستعارة كتاب…من خزانة قاسم فصحبتني إلى غرفته لأنتقي أحد الكتب، وهي حافلة بكتب الجغرافيا والتاريخ واللغة والأدب مع مجموعة من الكتب الأجنبية. وكنت كلما فتحت كتاباً وجدت الخطوط بالقلم وقد سودت ما بين السطور، فأريها ذلك كي لا تتهمني بالعبث بالكتب، فتولول قائلة (هذه عادة عبدالكريم). وقد أثار انتباهي كثرة قراءاته النحوية. وكنت بعد أن أخذ مكانه في زعامة العراق، وصرت صحفياً ومدرساً للغة العربية أتابع باهتمام -وكأي معلم- جملة إعرابية. فأشعر بارتياح لأنه لا يلحن باللغة العربية فأعود بذاكرتي إلى تلك الخطوط مرة أخرى."

ولكن مع ذلك يصر هؤلاء على أن عبد الكريم "غير مثقف". فما المقصود بالثقافة في هذه الحالة. فالرجل خريج الكلية العسكرية وكلية الأركان العراقيتين وسانت هيرز البريطانية. وكان يقرأ الكتب الأدبية والتاريخية وغيرها، وقارئ للصحف البريطانية. وكان يقرأ الصحف الوطنية وخاصة صحيفة الأهالي حتى اعتبر نفسه تلميذاً لجماعة الأهالي ومؤمن بمبادئها كما هو معروف.

ويقول وزير خارجيته هاشم جواد أنه كان يقرأ الكتب عندما يذهب لبيته أيام الجمعة. نعم لم يكن قاسم متأدلجاً في ثقافته. وفي رأيي هذه من الصفات الحميدة في السياسي في بلد متعدد الاتجاهات الفكرية والقومية والدينية والمذهبية كالعراق. فالآيديولوجية السياسية هي قوالب فكرية جامدة عصية على التغير، تفرض على المؤدلج تطبيقها بغض النظر عن ملاءمتها للواقع، إي فرضها على الواقع بالقوة في حياة متحركة أبداً وظروف متغيرة باستمرار. وقد أثبت الزمن صحة مواقف قاسم. ومن سوء الحظ أن قاسم جاء في وقت كان فيه التنافس والتصارع الآيديولوجي على أشده إلى حد الصراع الدموي، ولم يكن فيه مكان لخط الوسطية والاعتدال والعقلانية. فأراد قاسم أن يكون للجميع حسب شعاره الذي رفعه منذ البداية: "فوق الميول والاتجاهات". وقد أدركنا الآن أن فكرة قاسم كانت صحيحة وبذلك فكان قاسم الرجل المناسب لوقت غير مناسب، لم يعرفوا قدره إلا بعد فوات الأوان.

أما إذا كان المقصود بالمثقف بأن نقارن ثقافة قاسم ببرتراند راسل أو جان بول سارتر أو روجيه غارودي وغيرهم من محترفي الثقافة، نعم فثقافة عبد الكريم قاسم دون ثقافة هؤلاء بكثير لأنه لم يكن فيلسوفاً وربما هذه الصفة في صالح الشعب. إذ كما يقول علي الوردي، وأنقل من الذاكرة، (ليس من صالح الشعب أن يصير الفيلسوف حاكماً، كما طالب إفلاطون، لأن الحاكم الفيلسوف يحمِّل شعبه فوق طاقته.) ولكن لو قارنا ثقافة قاسم بمن حكم العراق من قبله ومن بعده لتبيَّن لنا أنه كان أثقفهم.

فكما يقول الدكتور علاء الدين الظاهر: "فتقافة الملك فيصل الأول عثمانية، وثقافة ابنه غازي شبه معدومة، وعبدالإله لم ينه الدراسة الثانوية. وثقافة نوري السعيد، كمعظم السياسيين الملكيين، عسكرية عثمانية. والرجل عاش ومات من دون أن نعرف هل نجح أو فشل في دورة الأركان العثمانية. وثقافة عبد السلام عارف لا تستحق الذكر وثقافة أخيه عبدالرحمن أقل منها كما هي ثقافة أحمد حسن البكر وطاهر يحيى. وثقافة عبدالناصر عسكرية مصرية. قارن هذا بذاك .. وإذا أخرجنا الهذر العفلقي من رأس علي صالح السعدي لما بقي لديه غير السكر والعربدة." 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٤ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق