CET 00:00:00 - 16/07/2010

مساحة رأي

بقلم: سامي دياب
حينما تكشر الشعوب عن أنيابها لا يمكن أن تقف أي قوة في طريق مسيرتها، والدروس والعبر كثيرة، وسوف نتحدث عن تلك التجارب التي حدثت في بلاد تتشابه اقتصادياتها وطبيعتها مع مصر، ومن تلك التجارب تجربة الثورة الرومانية في 21 ديسمبر 1989م.

فقد بدأت هذه الثورة ضد النظام الحاكم في "رومانيا" من مدينة "تيميشوارا"، والتي تبعد مسافة 350 كيلومترًا شمال غربي العاصمة "بوخارست"، وقد اندلعت المظاهرات بعد صدور أمر ترحيل في 15 ديسمبر بحق "لازلو توكيس"، وهو قس إصلاحي من أصل مجري، وقامت عناصر الشرطه السريه بإخماد المظاهرات التي قام بها أنصاره بعنف، وقُتل في هذه المظاهرات قرابة الـ 150 شخصًا من المواطنين، فيما جُرح المئات وأُعتقل أكثر من 200 متظاهر.

حيث وقفت مدينة "تيميشوارا" وحدها تتحدى شرطة "تشاوشيسكو" طيلة خمسة أيام قبل أن تندلع شرارة الثورة في "بوخارست" وبقية أنحاء البلاد، وقد تسبب الغضب من قتل الأبرياء التي قامت به الشرطه السريه في "رومانيا" -وهو جهاز يشبه مباحث أمن الدولة في مصر- إلى إشعال فتيل الثورة، وكان الرئيس الروماني السابق "نيكولاي تشاوشيسكو" يلقي خطابـًا أمام جمع حاشد في 21 ديسمبر1989م، بالعاصمة الرومانية "بوخارست"، عندما حدثت مقاطعة لخطابه في إشارة إلى بدء معارك شرسة في الشوارع.

وقد بلغ عدد الموتى 10 آلاف شخص معظمهم من المدنيين، واندلعت معارك شرسة خارج "بوخارست" وفي مدن أخرى، بينما كانت قوات الأمن التي تحمي "تشاوشيسكو" تحارب مع الجيش لإحكام السيطرة على البلاد، وقد تمادت الشرطه السرية في إطلاق النار على المحتجين بلارحمة، وزاد إصرار الرومانيين على الخلاص من الطاغية، وشارك الجيش في قتل المواطنيين المحتجين، وكانت طائرة هليكوبتر تحلق فوق المواطنيين وهي تطلق الرصاص على طالبي الحرية والعدالة.

وقد استخدمت قوات الطاغية الأسلحه المُحرمه في ميدان المعارك، وهي إشارة إلى أن الطغاة يقاتلون شعوبهم بأسلحه أبشع من التي تُستخدم في ميادين المعارك، ودبّ التمرد والبلبله في صفوف الجيش بعد حمامات الدماء التي غطت شوارع رومانيا؛ فقد انتشرت الثورة في كل مكان، ورفض بعض الضباط في الجيش إطاعة الأوامر. واعتبروا أن مقاومة الثورة هي إصدار أمر بإعدام الناس بلا رحمة، وانتشر التمرد في معظم الوحدات العسكريه التي رأت جثث القتلى في الشوارع، ويوجد بينها ضحايا من أسر العسكريين أنفسهم.

وقد استنكر العالم ما يدور من قتل بلا رحمه للثوار في رومانيا، ومن أهم الأسباب التي ساعدت في نجاح الثورة المناخ الدولي المحيط؛ فمع سقوط جدار "برلين"، واقتراب الحرب الباردة من نهايتها، بدا واضحـًا أن الديكتاتور الروماني "نيكولاي تشاوشيسكو" أصبح يعيش خارج الزمن، وأن سقوط آخر صروح الشيوعية في أوروبا الشرقية لم يعد ببعيد.

لقد كان "تشاوشيسكو" مصابـًا بداء جنون العظمة بكل معنى الكلمة، وكان يصف نفسه بـ "دانوب الفكر"؛ نسبة إلى نهر الدانوب الشهير الذي يمر في رومانيا ويشكل أهم معالمها وشريان حياتها، وبالرغم من أن شعبه كان الأفقر في أوروبا الشرقية، إلا أنه كان يرى أنه نبي رومانيا الفاضلة، وأن الرومانيين من أسعد شعوب العالم!

وكان يفتخر بامتلاك 5 قصور، أحدها يضم ألف حجرة -وهو ما لا يملكه أحد الحكام في العالم الحر؛ وحتى "إليزابيث الثانية" ملكة بريطانيا العظمى!- هذا إلى جانب الطائرات الرئاسية والمتنقلة والقطارات الخاصة به، لكن رغم أهمية كل ذلك لا يُذكر "تشاوشيسكو" اليوم إلا لكونه أحد القادة الذين أعدمهم شعبه مع زوجته "إيلينا" على الملأ في أعقاب أسبوع من التمرد والعصيان الشعبيين في نهاية ديسمبر 1989م، وهو ما يصطلح على تسميته بـ "الثورة الرومانية 1989" التي أطاحت بنظام "تشاوشيسكو".

ورغم تأثره بـ "ستالين" لم تكن رومانيا في نهاية الحرب الباردة موالية لنظام موسكو، بل كان "تشاوشيسكو" يميل إلى نهج الزعيم اليوغوسلافي "تيتو" في عدم الانحياز في السياسة الخارجية، ويعشق نموذج "كيم إيل سونغ" والد الزعيم الحالي "كيم يونغ إيل" في كوريا الشمالية، ويطمح لتقديس أبناء شعبه له!

لم يكترث "تشاوشيسكو" بالتغيرات المحيطة ببلاده وتبني زعيم الاتحاد السوفييتي "ميخائيل جورباتشوف" "الـبيروسترويكا" -إعادة البناء الاقتصادي- و"الـجلاسنوست" -الانفتاح وحرية التعبير- ولم يعتقد أن نظامه سيكون الحلقة الأخيرة في مسلسل انفراط عقد الأنظمة الشيوعية في أوروبا الشرقية، بل على العكس كان يعمل على إعداد إبنه "نيكو" ليخلفه رغم المشاكل الأخلاقية وإدمانه الشرب والقمار وصيته الذائع في أوساط الشعب.

واستمرت التحركات الشعبية يومي 17و18 ديسمبر مترافقة مع دعوات إلى إضرابات شلت البلاد، وتطورت إلى احتلال الموظفين للدوائر والمقار الحكومية مع رفع شعار مثل نظام "تشاوشيسكو سيسقط.. ونحن الشعب".

"تشاوشيسكو" كان في تلك الأثناء بزيارة رسمية الى "إيران"؛ فطلب من زوجته معالجة الأمور، فأرسلت مندوبين لمفاوضة المتظاهرين وأبلغوهم بالموافقة على إطلاق السجناء، ولكنهم رفضوا المطالبات باستقالة "تشاوشيسكو".

وفي ظل هذه الأجواء انتقلت عدوى الاحتجاج إلى "بوخارست" التي عاد اليها "تشاوشيسكو"، حيث طلب مخاطبة الشعب، وخلال خطابه أمام 110 آلاف؛ إرتأى أن يمتدح "إنجازات الثورة الاشتراكية"، وما حققه نظامه منذ توليه الأمانة العامة للحزب الشيوعي عام 1965م، ثم الرئاسة عام 1974م، وحتى 1989م، وباستثناء وعده بزيادة الرواتب بـ 4 دولارات –نحو 5% من معدل الرواتب حينها- تركز كلامه على تخوين وإهانة المحتجين في مدينة "تيميشوارا".

كان الخطاب منقولاً مباشرة على الهواء، لكن البث انقطع وأُستبدل بكليبات تشيد بـ "تشاوشيسكو" وإنجازاته؛ ففهم سكان رومانيا الذين كان نحو 75% منهم يتابعون الخطاب أن شيئـًا ما غير طبيعي كان يحصل.

وبالفعل ردد الحضور -باستثناء الجالسين بالصفوف الأمامية- هتافات منددة بالرئيس دفعته إلى قطع خطابه والدخول إلى القصر، وحاول إكمال خطابه من شرفة القصر، لكن الصفير والتنديد وشعارات مثل: "ستسقط يا ديكتاتور.. والعقاب للقاتل".. أجبرته على وقف المحاولات.

أمر "تشاوشيسكو" رجال الشرطة بقمع المتظاهرين مما أدى إلى سقوط مزيد من الضحايا، وانتشر خبر هروب الرئيس، لكن المتظاهرين لم ييأسوا، بل عادوا إلى محاصرة القصر الرئاسي في اليوم التالي (22 ديسمبر) مرددين هتافات أرعبت "تشاوشيسكو"؛ فسارع إلى المغادرة مع زوجته عبر أحد الممرات السرية ليستقل مروحيته ويتوجه إلى خارج العاصمة "بوخارست"، ولكن في طريقه إلى مخبئه الخاص اكتشفه بعض الفلاحين الذين ألقوا القبض عليه وسلموه إلى الثوار، الذين كبلوا يديه ويدي زوجته وقاموا بإعدامهما رميـًا بالرصاص، في مشهد نُقل مباشرة على الهواء ليتابعه أبناء الشعب؛ ليراه الرومانيون ويقتنعوا بأنه قد قُضي على الديكتاتور فعلاً، وتبقى هذه التجربه حية للعيان على أن إرادة الشعوب هي الغالبة، وأن الطغاة مهما يعيشون فلابد من سقوطهم.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق

الكاتب

سامى دياب

فهرس مقالات الكاتب
راسل الكاتب

خيارات

فهرس القسم
اطبع الصفحة
ارسل لصديق
اضف للمفضلة

مواضيع أخرى للكاتب

الدروس المستفادة من سقوط طاغية

جديد الموقع