اتخذت نقابة المحامين قرار الاضراب عن العمل في المحاكم كورقة ضغط ترسخ عبرها دفاعا يصون كرامة المهنة وتمسكت بموقفها, لم يرق قلب أعضاء مجلس النقابة للحظة واحدة .
ولم يضع في اعتباره مصالح آخرين سيلحق بهم ضرر بالغ إثر استمرار الاضراب.
قضايا عديدة تحتوي ملفاتها مصير متهمين لا تقوي عدالة المحكمة علي اتخاذ قرار بشأنها دون دفاع يقف أمام منصتها يوضح الحقائق ويقطع الطريق للوصول لعدالة ناجزة ووجد المتقاضون أنفسهم محاصرين بين جناحي العدالة, وبات مصيرهم متعلقا بانهاء المحامين اضرابهم والعودة لمقاعدهم في محراب العدالة.
ورغم حرص قاعدة المحامين العريضة علي التمسك بالاضراب صونا لكرامة زملائهم, إلا أن كثيرا منهم اضيروا علي خلفية الاضراب. حتي أقدم أحدهم علي الانتحار في القليوبية لمروره بضائقة مالية.
وحصدت أيضا وزارة العدل ثمار الاضراب ولحق بخزائنها خسائر مالية فادحة, نتيجة احجام المحامين عن تسديد رسوم الدعاوي القضائية المختلفة.
الحظر المحدق في القضية تطرحه أسئلة جادة تتعلق بمشروعية استمرار الاضراب علي النحو السائد وموقف القانون تجاهه والاثار المترتبة عليه والخسائر التي لحقت بفترة التقاضي وكيف يكون الموقف تجاه الأزمة في ظل تعرض حقوق المتقاضين للخطر؟!!
في محاكم كثيرة علي امتداد ربوع مصر.. قصص ومآس مؤلمة ساعد إضراب المحامين في تعميق آثارها السيئة في صور مختلفة, ووجد القضاة أنفسهم عاجزين عن تحقيق عدالة ناجزة تضمد جراحا مؤلمة ـ لأصحاب القضايا الذين ينتظرون لحظة تقرير المصير..
ففي محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ في محافظة قنا تم تأجيل محاكمة المتهمين في حادث نجع حمادي ومحكمة جنايات السويس أجلت محاكمة المتهمين بالاستيلاء علي700 فدان بطريق السويس الصحراوي. كما تم تأجيل محاكمة التنظيم الإرهابي المعروف بخلية الزيتون, وأرجأت محكمة جنايات أمن الدولة طوارئ بجنوب القاهرة محاكمة المتهمين في تفجيرات الأزهر, وفي محكمة جنايات الأقصر تم تأجيل قضية الذهب الكبري.
وأجلت محكمة جنايات قنا محاكمة المتهم باغتصاب طفلة فرشوط.
كما أجلت محكمة جنايات الجيزة محاكمة تشكيل عصابي شكل خطرا كبيرا علي المجتمع, وقررت محكمة جنايات أمن الدولة العليا طوارئ بالجيزة تأجيل محاكمة المتهمين في قضية التنظيم الدولي للإخوان, وكذلك تأجيل قضية الرشوة الكبري بالبنك الأهلي وغيرها من القضايا مما عطل الوصول إلي أحكام رادعة وسريعة تعيد الحق لأصحابه وقضايا أخري وضعت المتهمين وذويهم تحت ضغوط نفسية قاسية نتيجة تأخر اعلان براءتهم أمام المجتمع.
وزارة العدل ذاتها لم تكن بمنأي عن خطر الاضراب فقد لحقها ضرر حسب ما أكد مصدر قضائي حيث تراجعت عائدات المحاكم خلال أيام اضراب المحامين الماضية بنحو15 مليون جنيه و250 ألفا نتيجة احجام المحامين عن حضور الجلسات وايقاف قيد الدعاوي وعمليات التوثيق والاشهار في الشهر العقاري.. اضافة الي المعارضات والكفالات.
ولم تتمكن معظم المحاكم من الفصل في القضايا المهمة المصيرية التي تتعرض لمصير متهمين علي اعتبار ان المحكمة لم تستطع اتخاذ قرار بشأنها خوفا من ضياع حقوق أطراف القضية.
وبحسب قول المصدر القضائي إن الفصل النهائي في القضايا المنظورة أمام المحاكم لم يكن علي مايرام حسب المعدلات المعتادة.. حيث تأثر بشكل كبير وصلت نسبته الي50%.
يرصد مجدي عبدالحليم رئيس حركة محامون بلا قيود تأثيرات مالية أحدثها الاضراب علي كثير من المحامين بقوله: كثير من المحامين تضرروا جراء الاضراب في وقت يحملون فوق عاتقهم مسئوليات اجتماعية والتزامات عالية والمحامي عندما يتوقف عن العمل تجف بالتالي مصادر دخله.
وفي تصوري ان الأكثر ضررا المحامون الصغار الذين يحصلون علي القضايا في ظل ظروف معينة والاضراب يفوت عليهم الفرصة في الحصول علي القضايا التي اعتادوا عليها, ورغم ذلك يتمسك المحامون بالحفاظ علي كرامتهم معبرين عن ذلك بالاضراب.
ولم يبد مصطفي محمود المحامي بالنقض تضرره من قرار الاضراب كونه عملا مشروعا لجأ اليه المحامون للتعبير عن غضبهم تجاه ماحدث لزملائهم, وإذا لم يكن هناك وقفة حقيقية علي خلفية ماحدث فلن يستطيع المحامون الوقوف امام منصة القضاء مدافعين عن حقوق موكليهم وكيف يستطيعون ذلك وحقهم قد سلب عنوة.
نعترف ان هناك ضررا لحق بأطراف الأزمة جميعا بما فيها وزارة العدل التي انخفض فيها معدل الأموال المتدفقة علي خزانتها إثر توقف سداد الرسوم القضائية في المحاكم.
وإذا كان علي حد قوله ـ قد ترك الاضراب اثرا علي بعض القضايا الهامة ـ فإن ذلك يصب في مصلحة المتقاضين كون ذلك يرسخ هيبة القضاء الواقف.
عبث
وصف المستشار عادل عبدالحميد رئيس مجلس القضاء الأعلي ورئيس محكمة النقض السابق, استمرار اضراب المحامين وتقاعسهم عن أداء دورهم في الدفاع عن حقوق موكليهم, بنوع من العبث قائلا: لا يوجد علي ظهر الأرض قانون أو منطق يقضي بضياع حقوق المتقاضين في المحاكم نتيجة اضراب المحامين عن العمل علي خلفية أزمة وكيل نيابة طنطا.
كان يتعين علي المحامين البحث عن طرق أخري بديلة تجعلهم يعبرون عن أفكارهم الخاصة تجاه الأزمة دون المساس بحقوق المتقاضين, كون مافعلوه ليس بحق أو عدل ولجوء المحامين الي الاضراب عن العمل في المحاكم كوسيلة ضغط لايجاد حلول للأزمة وفق المدة الزمنية المحددة وبحسب قوله.. لا جدال ان الاضراب ترك اثرا سيئا علي مناخ العمل في المحاكم ودفع مصالح المتقاضين الي حافة الهاوية وضيق عليهم الخناق وهذا في تصوري يعد خرقا للقانون وتكديرا للعدالة وعبثا بتحقيق عدالة ناجزة.
رغم تأثير اضراب المحامين علي حركة العمل داخل المحاكم بجميع مستوياتها.. إلا أن المستشار عادل عبدالحميد يري واقعا مختلفا في محكمة النقض بقوله لم يترك الاضراب آثارا تذكر علي حركة سير العمل داخل دوائر المحكمة كون محامي النقض علي قدر من الوعي والبصيرة ويملكون من الخبرة والمعرفة بأهمية تحقيق العدالة وسرعة انجازها, مايعينهم أداء دورهم علي النحو الأكمل دون الخوض في مواقف تؤدي لضياع حقوق المتقاضين.
يطلق رئيس محكمة النقض السابق صرخات تحذيرية من استمرار اضراب المحامين عن العمل في المحاكم قائلا سيترك ذلك اثارا سلبية علي حركة سير العمل داخل المحاكم لفترة من الوقت.. حتي يتسني إدراك ماخلفه الاضراب, وتعيد المحاكم تنظيم أوضاعها تجاه اصدار أحكام في القضايا المنظورة أمامها.
لايزال حمدي خليفة نقيب المحامين يتمسك بمنطقية الحفاظ علي هيبة وكرامة المحامين, بغض النظر عن اثار خلفتها عملية اضراب المحامين عن العمل في المحاكم.. حيث يقول: نحن أمام أزمة ضاعت في ثناياها الحقيقة وداستها الاقدام وكيف تطلب من المحامي الوقوف امام منصة العدالة يدافع عن حقوق موكليه وقضيته مهانة ولا يقوي علي إعادة حقه المسلوب عنوة.
الاكرم والأفضل للمحامين الاحجام والامتناع عن العمل حتي نجد صيغة ملائمة تضمن لاطراف الخلاف تطبيقا عادلا للقانون دون شبه مجاملة.
أقر واعترف بان الاضراب ترك أثرا سلبيا علي نظام التقاضي داخل المحاكم وألحق ضررا بمصالح الموكلين.. لكن نحن أمام خيارين كلاهما مر ولا جدال في أن المحامي عندما يفشل في الحصول علي حقوقه الضائعة فإنه بيقين لن يستطيع اقتناص حقوق موكليه.
طريق مشروع
يستطرد نقيب المحامين.. نحن لا نستخدم الاضراب كوسيلة ضغط لتحقيق العدالة, ولكن كطريق مشروع ومهما كانت الخسائر المترتبة علي الاضراب لن تثنينا عن الاستمرار فيه وإذا كان هناك من يعترض عليه.. فليعتبر أيامه استكمالا لتأخر انجاز القضايا في المحاكم واعتقد أنه ضمانة لحقوق الموكلين.
رفض نقيب المحامين الاعتراف بحقيقة مايردده البعض بشأن تداعيات الاضراب علي جوانب الأزمة قائلا ـ لن يتأثر المحامين ماليا بفترة الاضراب وما يعمل علي ترويجه البعض إثر حادث انتحار احد المحامين بالقليوبية علي خلفية الاضراب وعدم قدرته الحصول علي اتعابه من موكله لا يعرف وجه الحقيقة فهناك خلفيات للواقعة لا يتسع المجال لذكرها, وكذلك لن تتأثر عملية انجاز الفصل في القضايا علي نحو واسع علي اعتبار انه إذا لم تتحل العدالة بتطبيق القانون فلن تصب في مصلحة الموكلين.
قد يكون هناك قضايا ذات طبيعة خاصة, لكن لن تفتح الباب لاستثناءات تصبح بابا خلفيا تضيع علي أثرها هيبة وتأثير الاضراب وتعصف بما اتفق عليه أعضاء مجلس النقابة والنقابات الفرعية.
تمسك حمدي خليفة بالاضراب أمام جميع المحاكم وبحسب قوله لن يسمح لأعضاء النقابة بأي تجاوزات وسيطبق القانون علي من يخالفه بتحويله الي التأديب ووقفه عن العمل ستة أشهر.
نحن لسنا بصدد قياس خسائر الاضراب ـ التي قد يمكن تداركها فيما بعد.. لكن ماحدث لا يمكن تداركه علي طول السنين.
احترام الحقوق
في تقدير المستشار أحمد الزند رئيس نادي القضاة رؤية محددة في مسألة استمرار اضراب المحامين عن العمل في المحاكم يطرحها في قوله كل مهنة لها أطر وقواعد عمل تحتم علي من ينتمون اليها عدم الخروج عليها حتي لا تتعرض مصالح الاخرين للخطر, ومع الأسف لم يضع المحامون في تقديرهم قبل الاقدام علي اتخاذ قرار الاضراب الاثار السلبية التي يحصدها المتقاضون عندما يعطل مرفق العدالة وكثيرا من الناس لديهم مسئوليات والتزامات ورغبة جامحة في ضرورة انجاز مصالحهم والحصول علي حقوقهم.
وماحدث دفع الي تعطيل سير عجلة العدالة داخل المحاكم وأثر بصورة أو بأخري علي حقوق الموكلين, خاصة الحالات الانسانية التي تتعلق بأهداب الأمل في الحصول علي حقوقها في أسرع وقت ممكن, وقد نتخيل وسط هذا الأداء المترهل ـ الحياة بدون مياه لبعض الوقت ـ لكن لا يمكن تصور الحياة بدون عدالة ناجزة وما يفعله المحامون تعطيلا للعدالة وجورا علي حقوق المتقاضين.
وبرغم شيوع مناخ الاضراب والكلام لرئيس نادي القضاة لكني استطيع القول بأن القاعدة العريضة من المحامين تشعر بالمسئولية تجاه موكليهم وخطر الاضراب علي حقوقهم العادلة ولذلك يحركهم وازع من ضمير نحو التمسك بعدم التخلي عن دورهم تجاه قضايا انسانية لا تحتمل التأجيل أو الارجاء.
وحذر المستشار أحمد الزند من تداعيات استمرار اضراب المحامين عن العمل في المحاكم واكتسابه صفة العمومية كونه يوغل في العصف بحقوق المتقاضين ويدفع بمرفق العدالة نحو جفاف دوره.
ان مايحدث يخالف القانون كون الاضراب يعد امتناعا عن عمل يؤدي الي ضرر والضرر جريمة في نظر القانون ولا يمكن استمراره الي مالا نهاية في حصار المتقاضين والقاء أعباء جسيمة علي كاهلهم, وكما ان القضاة ووكلاء النيابة يؤدون عملهم علي نحو جاد, وفعال فعلي المحامين أيضا العودة الي طابور الحياة.
عجز القانون
يلقي الدكتور يحيي الجمل استاذ القانون العام بحقوق القاهرة مسئولية تعرض حقوق المتقاضين للخطر علي كاهل المحامين, قائلا: علينا التخلص سريعا من لحظات انفعالية احدثت نتائج سلبية وتأثيرا بالغا علي مرفق العدالة وأدت الي أثار غير سوية لحقت بأطراف الأزمة.
وعلي القضاه الواقف التمسك بدوره في الدفاع عن حقوق موكليه والتخلي عن موقفه السلبي الذي يتخذه تجاه أزمة كان علاجها في وقتها أسهل مايكون.. لكن ماذا نفعل تجاه انفعالات وقتية تغيب عنها البصيرة والحكمة في التصرف ومايفعله المحامون الآن بشأن الاضراب يفتقد كثيرا من الحكمة.
ودعني أتساءل ـ والسؤال يأتي علي لسان الدكتور يحيي الجمل ـ ما الجدوي من استمرار الاضراب علي هذا النحو الذي أضر بحقوق المتقاضين؟! خصوصا أن هناك قضايا ذات صبغة انسانية لا تحتمل حصد ثمار الاضراب فالمضار الوحيد فيها هم أصحاب المظالم.
قد لا تتأثر القضايا المدنية بمسألة الاضراب كون ذلك يعتمد علي مسئولية يتحملها المحامي وحده ووفائه بالتزاماته امام موكله.. لكن الأمر يختلف برمته أمام محاكم الجنايات التي لا يمكن لها تجاهل حقوق المتهمين في اختيار دفاع مناسب لهم ولذلك اضيرت هذه النوعية من القضايا ضررا بالغا.
اضراب المحامين عن العمل في المحاكم يقع دون شك تحت طائلة القانون والتصور يطرحه الدكتور يحيي الجمل في قوله.. القضاء مرفق عام يتعين علي الجميع احترام دوره وعدم الوقوف في وجه انطلاقه نحو تحقيق عدالة ناجزة وما يقوم به المحامون لا يخرج عن كونه تعطيلا لمرفق العدالة عن أداء واجب منوط به.
لكن تبقي المعضلة الأساسية في الأزمة كيف يطبق القانون في مثل هذه الحالات المتشابكة والمعقدة؟!.. الموقف يختلط فيه الحابل بالنابل ويحتاج لرؤية آخري مغايرة يسيطر علي مناخها الحوار وليس الاضراب.
kh-Raouf@hotmail.com |