CET 00:00:00 - 23/04/2009

مساحة رأي

بقلم: طلعت الصفدي
منذ أن نشأ العمال في أحشاء النظام الإقطاعي وتبلورت هويتهم الطبقية في أحضان النظام الرأسمالي احتدم الصراع بين العمل المأجور والرأسمال وكانت البدايات الأولى نضالاً عفوياً ضد الظلم والاستغلال لتغيير واقعهم المأساوي، وفي البداية صبوا جام غضبهم على الآلات ظنا منهم أنها مصدر مصائبهم ، لكن مع التجربة والممارسة،  فقد وعى العمال قضيتهم وأدركوا سبب بؤسهم وشقائهم في النظام الرأسمالي وفي علاقات الإنتاج الاستغلالية والاضطهادية وبرزت حاجة ضرورية إلى تجمع عمالي يعبر عن وجودهم، ويدافع عن مصالحهم فكانت أن نشأت النقابات العمالية واشتد عودها في المعارك الطبقية مع الرأسماليين والاحتكاريين الذين يملكون وسائل الإنتاج وخاضت النقابات العمالية معارك ضارية من أجل رفع مستوى معيشة العمال وتحسين ظروف عملهم وحياتهم.

لقد شكّلت النقابات العمالية تقدماً كبيراً في عملية  توحيد الشغيلة والعمال والإجراء وتحولت أداة لتنظيمهم بهدف تغيير واقعهم الاقتصادي والمطلبي في البداية وتعزز بالسياسي لاحقاً واعتبرت مدرسة كفاحية وفكرية وخاضت بالعمال نضالات حقيقية، وكانت جزءاً من القوى الثورية الثلاث في العالم ساهمت بفعالية في عملية النهوض الثوري وقد أحدثت انتصارات هائلة ونوعية في النضال ضد الامبريالية والرأسمالية  والعولمة المتوحشة وشكلت مع القوى الديمقراطية والمنظمات الشعبية في العالم حركة احتجاج واسعة ضد الرأسماليين الكبار في العالم واسعة المسئولين عن اضطهاد الشعوب وخرابها واغتصاب خيراتها مستخدمة مختلف أشكال وأساليب النضال الاقتصادي والسياسي والفكري.

إن النقابات العمالية هي منظمات جماهيرية تنظيم ديمقراطي طوعي للكفاح الجماعي للعمال ويجب أن تكون مستقلة محررة من كل القيود والوصاية تشكل هيئة أركان لجيش العاملين المنظم والمدرب الذي يكافح بضراوة من أجل حقوق كل العمال والشغيلة والكادحين الذين يبيعون قوة عملهم للرأسماليين وهي تعتبر القوة المحركة الأساسية في النضال الطبقي.

لقد دفعت الحركة العمالية العالمية وقادتها النقابيين والقوى التقدمية وفي مقدمتهم الشيوعيون ثمناً باهظاً في الدفاع عن حرية التنظيم النقابي والعمالي وعلى العمل على توحيدها وتصليب عودها في مواجهة عدوها القومي والطبقي وتعرضت بسبب موقفها هذا للملاحقة وللاعتقال وللمطاردة وللإقامة الجبرية والنفي وإصدار قوانين معادية لها... الخ للحد من نشاطاتها وفعالياتها.

لقد تنبهت العديد من الدول الرأسمالية والطغم العسكرية والديكتاتورية في العالم خطورة تهديد النقابات العمالية على مصالحها المالية وامتيازاتها السلطوية فعمدت لاستنزاف دمها والعمل على استبدالها بنقابات صفراء ومنظمات نقابية فئوية بهدف ضرب وحدة الطبقة العاملة عبر وسائل الرشوة والضغط والملاحقة وتحويل النقابات إلى نقابات سلطة، لكن النقابات العمالية صمدت في وجه هذا الصراع الدامي مع هذه النظم السياسية غير الديمقراطية وتضافرت كافة القوى الديمقراطية والتقدمية وسعت الأحزاب السياسية الماركسية إلى توحيد الحركة العمالية وتنشيط دورها في الدفاع عن قضاياها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية في كل أماكن تواجدها وأخذ العمل النقابي يكتسب طابعه النضالي في كل مكان على وجه المعمورة وخاضت النقابات مواجهات شرسة وانتزعت العديد من المكاسب ونجحت في فرض شروطها وفي تأمين الحقوق والحريات النقابية وضمان تشغيل الأيدي العاملة والضمان الاجتماعي وزيادة الأجور والأمن الصناعي والمساواة في الأجور بين الرجال والنساء وإصدار قوانين وتشريعات لحماية وعدم تشغيل الأطفال  وانتزعت الاحتفال بالأول من أيار عيداً للطبقة العاملة مدفوع الأجر..... الخ. 

ولقد أكدت المواثيق الدولية لحقوق الإنسان على أن الحق النقابي لا يتحقق إلا إذا توفرت فيه الاستقلالية وحرية التنظيم النقابي حتى يكون معبراً عن إرادة أعضائه وبعيداً عن أي وصاية وتدخل من أصحاب العمل أو الحكومات وحتى الأحزاب السياسية.

وفي فلسطين فقد تطورت الحركة العمالية العربية في أتون الصراع القومي ضد الاحتلال البريطاني والحركة الصهيونية وضد النظام الإقطاعي وشريحة البرجوازية التجارية التي كانت وثيقة الصلة بالانتداب البريطاني ومعتمدة عليه وجمعت بين النضال التحرري والنضال الاجتماعي والنقابي.. لقد ولدت الحركة العمالية الفلسطينية في أساسها كحركة وطنية تقدمية معادية للاستعمار والهجرة الصهيونية إلى فلسطين ،والقيادات الإقطاعية التقليدية وامتزج نضالها الوطني والطبقي منذ بداية تشكلها ضد مؤسسات الرأسمال الأجنبي.
وتحت شعار "الوحدة والتنظيم" دعت جمعية العمال العرب في حيفا إلى عقد المؤتمر العمالي العربي عام 1930 الذي اعتبر أول مؤتمر عمالي فلسطيني لانتخاب قيادته العمالية انتخاباً ديمقراطياً وحراً وكانت إحدى سماته الأساسية أنه جمع كل العمال الفلسطينيين بصرف النظر عن الانتماء الحزبي والرأي السياسي وتم انتخاب اللجنة المركزية بشكل ديمقراطي.

لقد فشلت كل محاولات القيادة التقليدية لاستخدام المؤتمر لتحقيق مصالح فئوية وخاصة في الصراعات  الدائرة والمنازعات العائلية وتم التأكيد في المؤتمر على وحدة الحركة العمالية والتمسك بالدفاع عن مصالح العمال، لقد كان المؤتمر على مستوى عالي من الوعي ومسترشداً بالتحليل الماركسي الطبقي في الهجوم على الانتداب البريطاني والحركة الصهيونية وقد قرر المؤتمر في أحد قراراته أن "العمال يعملون لصالح الوطن في كل الأشياء التي لا تتعارض مع مصالح العمال ومطالبهم".

لم تتأخر الطبقة العاملة ونقاباتها المختلفة عن دورها الباسل في ميادين الكفاح الوطنية والطبقية على امتداد  مراحل التاريخ الفلسطيني ونشوء القضية الفلسطينية وفي المواقع المختلفة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس وداخل إسرائيل وقدمت الشهداء والمعتقلين وتعرضت قياداتها إلى الملاحقة والطرد فكانت ضد مشاريع توطين اللاجئين وتهجيرهم خارج الوطن وضد الأحلاف العسكرية والنظم الرجعية العربية وعبرت عن مواقفها بالمسيرات والمظاهرات وبأشكال الكفاح المختلفة، وأكدت بفعالياتها المتنوعة على تمسكها بمنظمة التحرير الفلسطينية الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا وكان دورها مميزاً في إنجاح القوى الوطنية والتقدمية في الانتخابات البلدية في الضفة الغربية عام 1976 وفي إجراء أول انتخابات نقابية ديمقراطية في الأراضي الفلسطينية المحتلة وكان للكتلة العمالية التقدمية الإطار العمالي للحزب الشيوعي الفلسطيني (حزب الشعب الفلسطيني) شرف إجراء أول انتخابات ديمقراطية لنقابة النجارة والبناء في غزة  في 21/2/1987بمساعدة الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة رغم رفض السلطات الإسرائيلية إجراؤها التي  تمت تحت حراب جنود الاحتلال والطوق الأمني ومداهمة مقر الاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين لتعطيل الانتخابات، واعتقلت النقابيين الذين دافعوا عن حق النقابات العمالية بإجراء الانتخابات الديمقراطية.. 

ورغم دورها المميز وتاريخها المشرق ونضالاتها إلا أن النقابات العمالية والمهنية بقيت مجزأة أصابتها عدوى الفئوية والهيمنة والصراعات الحزبية والشللية وتكاثرت المصالح الخاصة وجرت محاولات لحرفها عن مهمتها الأساس وسعى العديد من الشخصيات المتنفذة إلى شق الحركة النقابية الفلسطينية ومحاولة شراء ذمم بعض النقابيين واستمالة بعضهم لهذا الفصيل أو ذاك، وبقيت مجرد دكاكين يرتزق منها أدعياء العمل النقابي وفقدت النقابات العمالية دورها الحقيقي ولم تعد تعبر تعبيراً حقيقياً عن مصالح العمال والشغيلة وحوّلت العمال إلى مجموعات من المنتسبين لها لأغراض فئوية أو للمساعدات الإغاثية وتركتهم بلا دعم أو نصير وفشلت الأطر النقابية المختلفة المرتبطة بشكل مباشر بتنظيماتها السياسية بتنشيط وتوحيد الحركة العمالية لتأخذ دورها في الصراع القومي والطبقي وبقيت الحركة النقابية مشلولة رغم الدعوات المتكررة لتوحيدها ووقعت النقابات العمالية ضحية العقلية الاستخدامية في العمل السياسي وكان لبعضها دوراً تخريبياً ومحاولة شطب دور النقابات العمالية كنقابات في الأساس تدافع عن قضايا العمال الاقتصادية والاجتماعية  وتعزيز دورها السياسي في المعركة الوطنية التحررية مما نتج عنه انقسام الاتحاد العام ونزوع بعض القوى السياسية لتأسيس اتحادات موازية وفرض هيمنة العمل السياسي على العمل النقابي ساهم بشكل كبير في المزيد من الانقسام وتفكيك التنظيم النقابي وتفاقم الصراعات داخل النقابات وحتى الكتل النقابية المختلفة.

لا شك أن الإطارات النقابية العمالية سواء اتحاد عمال فلسطين وأمينه العام حيدر إبراهيم، والاتحاد العام لنقابات عمال فلسطين وأمينه العام شاهر سعد، ونائب الأمين العام للاتحاد العام لعمال فلسطين راسم البياري المقيم بعد الانقلاب في رام الله وثلاثتهم من حركة فتح يسيطرون عليهما ويتنافسون فيما بينهم، ويتصارعون وهم من يقف حجر عثرة في توحيد الحركة النقابية وعائقاً أمام إجراء انتخابات ديمقراطية للحركة النقابية رغم قرارات منظمة التحرير الفلسطينية بإجراء الانتخابات للاتحادات الشعبية والعمالية والمهنية على قاعدة التمثيل النسبي الكامل وتصاعدت الخلافات فيما بينهم في الآونة الأخيرة واتخاذ قرارات تتعارض مع دستور الاتحاد ليعمق التشرذم والصراعات الداخلية على حساب الحركة النقابية والعمالية في فلسطين بالإضافة إلى تشكل اللجان العمالية المدعومة من المنظمات غير الحكومية Ngo;s.

لقد فقد العمل النقابي والنقابات العمالية دورها الحقيقي وباتت شبه معزولة عن العمال والشغيلة ولم تعد تعبر عن مصالح العُمّال السياسية والاقتصادية والفكرية وخصوصاً بعد أن تحوّل العديد من النقابيين إلى موظفي السلطة الوطنية الذي يتناقض في جوهره مع كون النقابات منظمات نقابية مستقلة وحرة وتواجه الحركة العمالية ونقاباتها العمالية وحتى المهنية إلى مأساة جديدة بعد استيلاء أجهزة الحكومة المقالة على مقرات الاتحاد في غزة والسيطرة عليها وإغلاقها ومنع العمل النقابي وتعريض النقابين للمساءلة والملاحقة من قبل الأمن الداخلي لحركة حماس.

لقد اتسعت الفجوة بين النقابات العمالية وقياداتها النقابية وجماهير العمال والشغيلة مما تسبب في فقدان الثقة بالعمل النقابي وبالقادة النقابيين، فالمصالح الفردية والفئوية والشللية والامتيازات الخاصة شكلت عقبة كبيرة  في إجراء أية انتخابات ديمقراطية حرة منذ فترة طويلة مع العلم أن العديد من هذه القيادات النقابية هم من كبار موظفي السلطة الوطنية سواء مدنيين أو عسكريين أو أمنيين مما يجعلهم غير مستقلين عن السلطة وتابعين لأجهزتها المختلفة وهذا يستدعى البحث عن وسائل وأدوات أولاً لتشكيل قوى ضاغطة عمالية ومؤسساتية وقوى وأحزاب سياسية ومنظمات مجتمع مدني من أجل  إنهاء حالة التفرد وتوحيد الحركة النقابية وتعديل مسارها لتأخذ دورها الحقيقي بإجراء انتخابات ديمقراطية حرة لأنها المخرج الحقيقي من هذه الأزمة.

إن العمال وكل الكادحين يعلنون عن سخطهم ونقدهم للسلطة الوطنية الفلسطينية وللنقابات العمالية والمهنية التي لم تهتم بمصالحهم وتركتهم نهبا للجوع والعوز والبطالة وحوّلتهم لمتسولين منذ أكثر من ست سنوات دون أن تقدم لهم مقومات الصمود والحياة الشريفة لأسرهم والحفاظ على كرامتهم الإنسانية ولأنها عاجزة عن ممارسة أي ضغط على قياديي النقابات العمالية من أجل تصحيح مسيرة الاتحاد ليكون معبراً حقيقياً عن مصالح العمال وخصوصاً أنهم يشكلون الشريحة الأكبر في المجتمع الفلسطيني الأكبر حجماً والأكثر تعرضاً للاستغلال والاضطهاد القومي والطبقي.

إن النضال من أجل تحقيق أهداف ومصالح الطبقة العاملة على طريق تحقيق العدالة الاجتماعية لا يمكن أن ينجح إن لم يرتبط النضال من أجل الحقوق الديمقراطية للعمال ولا يمكن أن تتحقق الديمقراطية الحقيقية في استمرار غياب المساواة الاجتماعية أي وجود المجتمع الطبقي ولا يمكن أن تتحقق العدالة الاجتماعية والديمقراطية الحقيقية  إلا بزوال الاحتلال الإسرائيلي عن كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967 وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، وحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة لديارهم طبقاً للقرار 194 ولا يمكن أن يكون هناك مخرجاً حقيقياً من الأزمة التي تمر بها الحركة النقابية الفلسطينية إلا بإجراء انتخابات للعمال في نقاباتهم العمالية والمهنية وعلى قاعدة التمثيل النسبي الكامل تطبيقاً لقرار منظمة التحرير الفلسطينية وللمؤتمرات العمالية التي أكدت على ذلك، وعلى الكتل النقابية والقوى الديمقراطية والتقدمية وجبهة اليسار الفلسطيني أن تعمل بكل جد وإخلاص على تحقيق الانتخابات الديمقراطية بعيداً عن المحاصصة والمصالح الضيقة فهي المؤهلة للدفاع عن مصالح العمال وتنظيمهم وتوحيد الحركة العمالية الفلسطينية ليعود دورها الحقيقي الذي فقدته طيلة الفترة السابقة ولتتحول النقابات العمالية لحصن منيع ومدافع حقيقي عن مصالح  كل العمال والشغيلة وتكون جزءاً من الحركة العمالية العالمية ولترفع الرايات الحمراء في عيد العمال العالمي.

طلعت الصفدي
غزة - فلسطين
talat_alsafadi@hotmail.com

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق