بقلم:مأمون فندي |
«أترى حين أفقأ عينيك ثم أثبت جوهرتين مكانهما... هل ترى؟ هي أشياء لا تشترى».. هكذا قال أمل دنقل في قصيدته المشهورة «لا تصالح»، لكن المقال ليس عن أمل دنقل ولا عن الصلح ولا عن الجوهرتين. حديثي هنا عن الأماكن التي يستطيع العرب شراءها ولكنهم لا يستطيعون خلق مثيلات لها في بلدانهم. بالأمس، كنت أتمشى في الهايد بارك، تلك الحديقة الشاسعة في قلب لندن، ولفت نظري أن معظم من يتمشون في تلك المساحة الخضراء الجميلة كانوا من العرب، عرب في كل مكان في الحديقة، عرب على عربات أطفال، وعرب على كراس متحركة، وعرب شباب، وعرب نساء، وعرب شيوخ.. والسؤال الذي أطرحه هو: لماذا يأتي العرب إلى لندن لكي يستمتعوا بالمشي في الهايد بارك؟ فالهايد بارك في النهاية حديقة للاسترخاء وليس معلما سياحيا، ألا تستطيع أموال العرب أن تبني لنفسها حدائق في قلب العواصم العربية تشبه الهايد بارك ليسترخي الناس هناك ويتمشوا براحتهم متنعمين بالماء والخضرة والوجه الحسن كما يفعلون في الهايد بارك تماما؟ المشكلة تكمن في أنه حتى لو كانت لدى العرب الرغبة أو النية في أن يكون في وسط مدنهم حديقة مثل الهايد بارك فلن يستطيعوا، لأن الهايد بارك concept أو مفهوم متكامل. ما يجعل الهايد بارك هو النظام، تلك القوانين الحامية للحريات التي تجعلك وأسرتك تتحرك بحرية وأمان من دون أن يزعجك أحد، فترى الذين يمشون بالشورت إلى جوار الماشية بالنقاب أو العباءة، والذين يمشون بالجلباب المغربي إلى جانب لابسات الساري الهندي والباكستاني، كلٌّ يرفل في لباسه سعيدا بما هو فيه، لا يتوقعون إزعاجا من أحد، هم في عالم آمن من التدخلات الخارجية. ذلك لأن الكل مطمئن إلى أن هناك قانونا يحمي الجميع من التطفل والاعتداء على الحريات الشخصية. إذن، لا يكفى أن تكون لدينا أموال أو أراض خضراء أو حتى صحراء شاسعة لكي تكون لدينا مساحات نمشي فيها بحرية وأمان.. فالقضية «مش مجرد فلوس». الإخوة في قطر، مثلا، اشتروا متجر هارودز الشهير في لندن، وكان يمتلكه قبلهم المصري محمد الفايد، ولكن لا الفايد ولا القطريون يستطيعون خلق هارودز في مدنهم. فهارودز لا يكون هارودز إلا في لندن، لن تستطيع الفلوس أن تأخذ هارودز إلى بلداننا، لأنه ساعة نقله من مكانه ومن سياقه ومن النظام القانوني الذي يحميه لن يكون هارودز، بل سيصبح مجرد «مول» من جملة «المولات» التي أصبحت تملأ عواصمنا.. فهارودز أيضا «مش مجرد فلوس». مثال آخر، الشاطئ الأزرق لجنوب فرنسا، في «كان» أو سنتروبيه، تجد الممشى الطويل الذي يملأه العرب عن آخره. لدينا طبعا في عالمنا العربي شواطئ ربما تفوق الشاطئ الأزرق لجنوب فرنسا في جمالها وصفاء مياهها ورمالها، وقد أنجز المصريون شيئا شبيها في شرم الشيخ، ولكن شرم الشيخ أو الساحل الشمالي ليس جنوب فرنسا. فجنوب فرنسا ليس شاطئا جميلا فقط، بل هو نظام قانوني ومؤسسات قديمة تحمي الحريات الشخصية والأموال الشخصية، هي ليست مجرد أماكن للمتعة والاسترخاء أو الجو الجميل. هذه الأماكن مفاهيم كاملة وأنظمة كاملة، فلا متعة في دولة إلا إذا كان القانون يحمي حرية الفرد وحرية الجماعة. نستطيع أن يكون لدينا هايد بارك وهارودز وكوت دي زور، ولكن يلزمنا طريقة جديدة في الإصلاح، وحزمة من القوانين تؤصل لحرية الفرد وأمنه وسلامته وسلامة أسرته. لدينا الأموال التي تستطيع بناء هذا المتنزه أو ذاك، ولكن ليس لدينا الرغبة ولا النية في إصلاح القوانين الحاكمة في مجتمعاتنا. هايد بارك ليس هو المتنزه الوحيد في عاصمة كبيرة مثل لندن، فهناك العشرات من المساحات الخضراء الشاسعة في قلب المدينة. في مدننا القديمة والجديدة من القاهرة إلى دبي، حتى عندما يكون هناك متنفس أو اثنان فإنك لا تستطيع أن تمشي فيه مع أسرتك من دون أن تلاحقك عيون المتطفلين أو إزعاجات المتسولين أو إلحاح الباعة الجوالين أو التعليقات المزعجة. فلا قانون يحكم السلوك ولا حماية للحريات الشخصية.. هذا الأمر لا تجده في مدن الغرب التي تتفهم متطلبات الفرد، وأولها احترام خصوصيته وخصوصية أهله، ولا تحتاج لأن تغلق عليك باب بيتك كي تتمتع بهذه الخصوصية. فالخصوصية محفوظة حتى في أكثر الأماكن انفتاحا مثل الحدائق العامة. لهذا، أقول إنه بلا شك لدى العرب أموال قادرة على بناء حدائق مثل الهايد بارك وغيرها من المتنزهات. لكن المتنزهات ليست فقط الأرض والأشجار الخضراء والبحيرات والبط الذي يسبح بها، المتنزهات أساسها الحرية والنظام الحامي للحريات الشخصية، وهذا أمر من صميم سياق قانوني ثقافي حضاري لا يشترى، بكل تأكيد، بمال.. قد يكون لدينا المال، ولكننا نحتاج إلى التطور القانوني والقيمي كي يكون عندنا هايد بارك في القاهرة أو في دبي أو في الرياض أو في دمشق. في بعض العواصم العربية القديمة، نجد المستثمرين العرب يشترون المساحات الخضراء في قلب المدينة (رغم ندرتها وقلتها) لبناء فندق كبير يدر على المستثمر دخلا ويدر على الوسيط المحلي الفاسد عمولة. ليس المهم أن يسد الفندق رئة المدينة التي لا تكاد تكفيها للتنفس وسط غابة الإسمنت، المهم هو أن يقال إن لدينا استثمارات عربية وأجنبية وأن يتغنوا بتنمية الاستثمار وبالنهضة العمرانية التي تشهدها البلاد، كما نسمع ونرى في المدن العربية التي أصابت أصحابها حالة من الإفلاس، فبدأوا ببيع كل شيء. المهم أن سيادة وزير الاستثمار قد أثبت لرئيسه أنه قد حصل على أموال لوزارته حتى ولو باع البلد. وأن يُحسَب له في التعيينات الوزارية الجديدة بأنه قد أنجز في فترة وجيزة «وجاب لنا فلوس».. «جابها منين مش مهم». وزراء التنمية والاستثمار الجدد عندنا مثل فقراء الهند، يبيعون كل أولادهم وبناتهم حتى يحصلوا على الأموال، وها هم بعض وزرائنا «التنمويين» يبيعون رئات المدن من أجل أموال يذهب معظمها إلى جيوبهم ومن أجل إنجازات كاذبة. ولدينا في العالم العربي أيضا، ظاهرة السيدة الأولى التي تتصدى لمشاريع خيرية الأساس فيها راحة الطفل والأسرة، ومع ذلك لم نر سيدة أولى واحدة تضغط من أجل تغيير القوانين لكي تصبح مجتمعاتنا صديقة للأمن العائلي ولراحة البنين والبنات إذا ما قرروا الخروج للنزهة. بعض السيدات الأُوَل في عالمنا لا تتعدى إنجازاتهن صفحة الاجتماعيات والأعمال الخيرية في صحيفة ما. على السادة والسيدات الأول أن يجيبوا عن سؤالين بسيطين جدا، ألا وهما: هل المطلوب أن نترك أوطاننا ونسافر إلى بلدان أخرى من أجل الراحة أو البحث عن مساحة هدوء وأمان؟ إذن، لماذا الأوطان من أصلها إن لم تكن مريحة لأهلها؟ |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |