CET 00:00:00 - 24/07/2010

مساحة رأي

بقلم: أنطوني ولسن

اولا: في مصر
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وان اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..
ما دمنا في شهر يونيو/حزيران لا شك ان له في ذاكرتنا نحن الذين عشنا وتعايشنا في مآساة ذلك الشهر وبالتحديد في الخامس منه عام 1967، وكان يوم (الاثنين)، كنت جالسا مع بقية طلبة السنة الثانية كلية آداب الاسكندرية في صالة الامتحانات، وفي تمام الساعة التاسعة صباحا وُزعت علينا ورقة الامتحان في تاريخ مصر الحديث والمعاصر الذي كان يدرسه لنا الدكتور السروجي اول الشجعان في مصر الذي رفض التعاون مع الاتحاد الاشتراكي ولم يكن يحترم الثورة ولا رجالها.. وضح ذلك جليا من السؤال الأول في ورقة الامتحان.. ما هي أسباب فشل ثورة 1952..، وكانت مفاجئة للجميع. وطبيعي فهمنا المقصود هو فشل ثورة 1919.
المسؤولون طلبوا منا البدء في اجابة الاسئلة الاخرى وقاموا بالاتصال بالدكتور السروحي الذي صحح الوضع.
لم تمض اكثر من خمسة عشر دقيقة على بدء الامتحان وإذ بصفارة الانذار تنطلق معلنة الهجوم الصهيوني علينا، خرجنا نختبئ وكل واحد منا يحدث نفسه فيما حدث.. السؤال.. فشل ثورة 1952» و»الهجوم الصهيوني» في نفس اليوم والفارق بينهما خمسة عشر دقيقة!!.

قطعت اجازتي وعدت الى العمل بالمصلحة «مصلحة الاحوال المدنية».
في الصباح الباكر وانا متجه الى مكتبي، اذ برئيسي المباشر العقيد محمد نصار خليل ينادي عليِ عندما رأني اسير امام مكتبه. دخلت عليه وكان في حالة من الغضب الشديد وهو يصيح..
-شفت الضباط اللي.. واللي.. من سباب لضباط الجيش..
-فما كان مني الا ان صحت فيه بصوت عال وغاضب..
-انت بتكلمني انا ليه.. انت ناسي انا مين.. مش انا سبب الهزيمة.. مش إحنا أقباط مصر سبب الهزيمة لأننا خونه.
صمت الرجل فجأة فلم يكن متوقعا مني هذا الرد.. سادت فترة صمت بيننا قطعها بعد ذلك بقوله..
-اجلس.. انا بندهلك علشان افش غلي وغليلي معاك تكلمني بالشكل ده. خد سيجارة وهدي نفسك.
حقيقة حتى ذلك اليوم وعلى الرغم من بوادر الفتنة الطائفية بشهور قليلة.. إلا اننا كنا نعرف ونؤمن بمعنى ابناء مصر اخوة يعيشون على ارض مصر أرضهم جميعا.
وما زلنا في شهر يونيو/حزيران وتتلاحق الصور وأهمها يوم الجمعة التاسع من الشهر الحزين عند الساعة الحادية عشرة صباحاً دق جرس الباب فتحت زوجتي، بعدها نادت عليّ تخبرني بوجود شخص يسال عني.. كان الشخص عضوا معنا في الاتحاد الاشتراكي بالمنطقة.. طلب مني بسرعة الذهاب الى مدرسة الترعة البولافية.. الامير فاروق الثانوية سابقا، وقد درست بها سنتين.. سنة اولى وسنة ثانية ثانوي لحضور اجتماع عاجل.
توجهت الى المدرسة وفي صالة الاجتماعات جلست الى جوار المهندس حسن المسؤول عن الدائرة.. اخذ يقرأ من ورقة بين يديه ويشدد على ضرورة التواجد قبل الساعة السادسة مساء، لأن الرئيس جمال عبد الناصر سيلقي خطاباً هاماً وعلينا ان نلتحم بالجماهير ونعرف ردة فعل الخطاب عليهم.
احظت انه ممسك الورقة التي يقرأ منها «مقلوبة».. بحركة لا شعورية أشرت باصبعي مشيرا اليه بما رأيت، فما كان منه إلا ان داس على قدمي بقدمه طالبا مني السكوت.

في المساء لم أذهب الى الاجتماع وفضلت استماع الخطاب في المنزل وكانت المفاجأة.. اسبوع مليئ بالمفاجأت.. يوم الاثنين السؤال الذي يريد منا الدكتور السروجي ان يعرف سبب فشل ثورة 1952، يوم الثلاثاء ورئيسي المباشر ضابط الشرطة الذي يريد ازالة الهم من على كاهله.. ويم الجمعة وخطاب التنحي ومطالبة اعضاء الاتحاد الاشتراكي بالخروج والالتحام بالجماهير.

ويكون ذلك اليوم من هذا الشهر قد مر على الاحداث ثلاث وأربعون عاما كاملة.. ولم يكتب التاريخ عن حقيقة تلك الحرب.. ولم يكتب التاريخ شيئاً عن حقيقة التاسع والعاشر من يونيو عام 1967.. ولم يعرف احد حقيقة النداء المفاجئ والتشدد على ضرورة الاجتماع بالمدرسة لسماع خطاب عبد الناصر. ولم يكتب التاريخ من الذي دعا الى ذلك الاجتماع هل هو علي صبري المسؤول عن الاتحاد الاشتراكي حتى يستطيع ان ينادي بسقوط عبد الناصر!!.. لان خروج الشعب كان منظما على مستوى الجمهورية ولم يكن عفويا.. لأن الشيء العفوي الوحيد في ذلك الخروج هو حالة الفزع والرعب التي اجتاحت الشعب المصري بعد سماعه خطاب التنحي !!..   ام انه عبد الناصر واعوانه هم الذين خططوا لذلك حتى يعملوا على اعادته للحكم مرة ثانية؟ لم يكتب التاريخ الحقائق على الرغم من مرور هذا الوقت الطويل..
ولا أظن ان في بلادنا من يؤرخ بالحق وللحق والتاريخ..

رجلان بيدهما كتابة التاريخ.. محمد حسنين هيكل ليخبرنا ان كان هو كاتب خطاب التنحي ام لا؟!! لان الخطاب انقذ عبد الناصر من محاكمة دولية.. والثاني البكباشي زكريا محي الدين الذي استخدمه عبد الناصر في خطابه كورقة يلوح بها لاميركا انه سيترك الحكم له فترضى عنه اميركا والغرب، وصمت زكريا محي الدين في ذلك الوقت وحتى الآن يضع علامات استفهام كثيرة.. فحتى بعد ان بلغت هذا العمر يا رجل ألا تريد أن تكتب لنا وتقول كما قال ابن عمك خالد محي الدين.. والآن اتكلم!!!

قبل ان اترك ليلة التنحي تذكرت زميلي بالجامعة عبد العزيز وليسامحني لذكر اسمه.. لم يكن يكره في حياته شيئاً سوى الثورة وعبد الناصر.. ثاني يوم التنحي العاشر من شهر يونيو فوجئت به يأتيني ويخبرني انه خرج مع الجماهير يخطب ويطالب عبد الناصر بالبقاء في الحكم.. سار على قدميه طوال الليل.. بعد أن تعب وعاد الى منزله.. جلس برهة ليستريح وطافت بمخيلته احداث تلك الليلة.. فإذ به يخلع فردة حذاءه ويضرب بها نفسه على ما فعله..
وصدقوني كثيرين من الذين هتفوا بعودته ندموا على ذلك لكن بعد فوات الأوان.
لأن كاتب الخطاب.. معلم  "ماجابتهوش ولَلاده " .
وما دمنا في شهر يونيو/حزيران.. ما دمنا قد تحدثنا عن الخامس والتاسع والعاشر منه في عام 1967، أجد الذاكرة تنشط وتتذكر بعضا من ذكريات ما بعد النكسة.

كانت القاهرة كما وصفها موشي ديان بعد حرب النصف  ساعة (لا اوافق على تسميتها حرب الأيام الستة). لانه بعد ان قضت اسرائيل على الطيران الحربي المصري في طول البلاد وعرضها، ما حدث بعد ذلك ما كان إلا تخبطا في السياسة والقيادة العسكرية مابين انسحاب 1956 او ما يمكن عمله. كانت القاهرة كإمرأة عارية عافته نفسه.. ويبدو ان المسؤولين قد شعروا بذلك قبل ان يكتبه ديان في مذكراته، فبدأوا بسترها وستر كل المدن المصرية، امروا بوضع سواتر (جمع ساتر) امام كل مدخل عمارة ومنزل من الطوب، فبات منظرها مثل الشواهد التي توضع في المقابر أمام القبور. كذلك صدرت الأوامر بضرورة دهان زجاج جميع النوافذ الزجاجية باللون الأزرق، واصبحنا نعيش في مقابر كبيرة وتلونت حياتنا باللون الأزرق.

العمل الوحيد الذي عملته كان في مصلحة الأحوال المدنية التابعة لوزارة الداخلية، مثلها مثل جميع المصالح والدواوين الحكومية صدرت اليها الأوامر بضرورة تواجد أحد الموظفين المدنيين في مبنى المصلحة كل ليلة على ان اليوم التالي اجازة (راحة).. ومع الموظف المدني احد ضباط الشرطة العاملين بالمصلحة.

تحيرنا في الأمر، لم نعرف الحكمة من وراء ذلك، رجل مدني (وكنا جميعاً تقريباً ليست لدينا أية خبرة في السلاح واستعماله).. لا سلاح معه وعليه ان يقضي ليلة بمفرده في هذا المبنى الضخم في حجرة منعزلة بعيدة عن قوة الحراسة الرسمية المتواجدة عند مدخل المبنى.. ما الذي يستطيع ان يفعله؟ وما هي الحكمة؟ هل كانت من اجل سرعة تقديم البيانات والاستفسارات اذا لزم الأمر؟ فإذا كانت تلك هي الحال.. ماذا عن الوقت ما بين انصراف الجميع في الساعة الثانية بعد الظهر الى تشريف الموظف في الساعة الثامنة مساء لو ارادت الجهات الرسمية معرفة بيانات عن اي انسان ولا يوجد بالمصلحة من يقوم بالعمل؟
حِكم وأحكام كانت وما زالت غامضة عن عقولنا الصغيرة والتي لا يهتمون بها ولا يعيرون المثقف أية أهمية، ولم تكن له حيال ما يرى ويعيش المقدرة على ابداء الرأي، فالسلطة العسكرية هي السلطة المفكرة الوحيدة وعقولهم فوق عقول كل البشر، ناهيك عن ما كنا عليه وما زلنا عليه.

جاءت ليلة مروان، ومروان زميل من الصعيد قصير القامة فكاهي، يتحدث اللهجة الصعيدية، يعمل معي في القسم الذي اشرف عليه. فكان حديثنا طوال الليل حول مبيته وحده في تلك الليلة، وكيف سيطلق عصاه الصعيدية على اي هجوم اسرائيلي سواء جوي او ارضي. انتهى يوم العمل وذهب كل واحد منا الى منزله، وكانت نوبتجيتي باللغة العسكرية اي ليلة تواجدي في المصلحة، الليلة التالية.

طبيعي لم يحضر مروان الى العمل لأنه يوم عطلة بعد قضاءه الليل في المصلحة لكننا سمعنا قصته مع العفريت والتي انتشرت في كل ركن من اركان المصلحة. والمفاجأة أنه جاء بنفسه ليقصها عليّ لأن الليلة ليلتي.

قال انه ذهب الى الغرفة المعدة للنوم لينام، وبعد ان تمدد على السرير وكادت عيناه تخبوان وتذهبان في نعاس وردي جميل، إذ به يسمع صوت حركة بين الأوراق مثل الصوت الذي يصدر من الفئران في الظلام. لم يهتم في بادئ الأمر فقد غلبه النوم. لكنه استيقظ على سرعة الحركة وعلى صوت غامض لم يتبينه في الظلمة الحالكة رأي عينان تحملقان فيه. إرتجف ونفض الغطاء عنه، جرى الى وحدة الأطفاء وقص على رجال الاطفاء ما شعر به ورأى، قضى ليلته معهم بعد ان ذهب أحدهم ليستطلع الأمر، فلم يجد شيئاً ومع ذلك ظل مروان المسكين معهم.

ذهبت في تلك الليلة الى المصلحة لانام الليلة هناك. كان الضابط النوبتجي الرائد فريد سلطان، رجل عسكري بكل معنى الكلمة ولا يتهاون في اداء عمله، فاذا كان هو النوبتجي، وهذا يعني انه لن ينام وسيظل ساهرا يمر على جميع اقسام المصلحة وعلى المكان المعد للنوم. وبكل تأكيد لا فرصة للتفكير في محاولة التفاهم مع الأونباشي النوبتجي المنوط به عهدة دفتر الحضور والانصراف.

ذهبت في موعدي.. شربت الشاي.. ارتديت «بيجامتي» أمسكت كتاب مائتي يوم حول العالم للاستاذ انيس منصور.. اخذت اقرأ وأقرأ.. نظرت الى ساعتي، قاربت الثانية عشر منتصف الليل.. عقلي يقول ما هذا الذي تفعله وتقبل على نفسك ان تفعل. وقلبي يقول ويلك فريد سلطان هو الضابط النوبتجي.

كان آخر موعد للباص من ميدان العباسية الساعة الثانية عشرة والربع ليلا. وفي سرعة عجيبة خلعت «بيجامتي» وارتديت ملابسي واخذت حقيبتي وجريت الى ميدان العباسية واستقليت الباص الى منزلي.
في الصباح توجهت الى المصلحة في الموعد المحدد للعمل، فنظر الي رئيسي المباشر العقيد محمد نصار خليل وقال ان الرائد فريد سلطان لم يجدك فكتب تقريراً بذلك وسيجري معك تحقيقاً، فكان ردي:

- أنا اعرف ذلك ومستعد له.
اثناء التحقيق نوهت الى ما حدث مع مروان في الليلة السابقة، وما قد يحدث مع اي موظف آخر، وسألت المحقق عن الهدف من وجود مدني في مبنى كبير مثل هذا، وعن الحكمة من وراء مثل هذه النوبتجية والتي ما هي إلا مضيعة للوقت والجهد والمال. وانا سأتقبل اي جزاء يقع علي واعدكم بانني سافعل نفس الشيء في كل نوبتجيه.

وكانت.. فقد صدر أمر بإلغاء النوبتجية بعدها باسبوع ولم يوقع علي اي جزاء لأنني اديت عملي في اليوم التالي ويرجع الفضل في ذلك الى مروان والعفريت. والرجل الذي كان يمثابة الملاك الحارس لي في المصلحة اللواء أنور حبيب وكيل عام المصلحة منذ اليوم الأول الذي بدأنا فيه العمل بقسم البطاقات الشخصية التابع لمصلحة تحقيق الشخصية، وبعد استقلالنا واصبحنا مصلحة مستقلة بذاتها اسمها مصلحة الأحوال المدنية.. اسم الرجل كاملا محمود أنور حبيب.
فهل يوجد في مصر الآن رجلا له صفات هذا الرجل العظيم؟!!
أذرف الدمع حزناعلى مصر والمصريين واقول.. لا أظن!!!
وإلى لقاء وذكريات العمر اللي فات.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٥ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق