CET 00:00:00 - 02/08/2010

مساحة رأي

بقلم : عبدالخالق حسين
من الطبيعة البشرية أن الإنسان غالباً يبحث عن كبش فداء ليلقي عليه أسباب فشله، وتبرئة الذات من التقصير و الخطأ. وقد وجد قادة الكتل السياسية العراقية ومعهم الإعلام العربي هذا الفداء في شخص السيد نوري المالكي ليعلقوا عليه أسباب فشلهم في تشكيل الحكومة العراقية الجديدة رغم مرور أكثر من أربعة أشهر على الانتخابات التشريعية. فالكل متفقون ويرددون بصوت واحد، أن "إصرار المالكي على التشبث بالمنصب" هو الذي عرقل تشكيل الحكومة!!! وراح هؤلاء يرددون هذه العبارة ليل نهار على طريقة غوبلز، حتى أصبحت في نظرهم حقيقة مطلقة لا تقبل الشك، والويل لمن يشك بها!!

ولو فكرنا ملياً من خارج الصندوق الأيديولوجي، لوجدنا أن هذه "الحقيقة" لا تختلف كثيراً عن حكاية ثياب الإمبراطور الجديدة التي كتبها العبقري الدنماركي Hans Christian Andersen ، يكشف بها النفاق الاجتماعي، ومدى تأثر الإنسان بذهنية القطيع. الحكاية مفادها أن إمبراطوراً عُرِف بولعه الشديد بالثياب، وتبذير أموال الدولة عليها، فجاءه حائكان محتالان، وقالا له أنهما خبيران في صنع أجمل الثياب من مادة عظيمة وجميلة إذا لبسها لا يراها الخونة والأغبياء، بل المخلصون الأذكياء من الرعية فقط، وبذلك يمكن التمييز بين المخلصين الأذكياء من الأعداء الأغبياء. ففرح بهم الإمبراطور أيما فرح، ورحب بالفكرة، خاصة وسيكون بإمكانه تمييز المخلصين له عن الحاقدين عليه!! ودفع لهما مبلغاً كبيراً، وباشرا بحركات متظاهرين بالنسج والحياكة وصنع البذلة الوهمية، إلى أن وصلا إلى المرحلة الأخيرة، حيث ألبسا الإمبراطور "ثيابه الجديدة"، ثم أخذاه إلى شوارع المدينة، وخرجت الناس وهي تصيح ما أجمل ثياب الإمبراطور، خوفاً من أن تلصق بهم تهمة الغباء والعداء للإمبراطور!!! ولكنهم كانوا يتهامسون فيما بينهم بخلاف ذلك، إلى أن جاء طفل لم يتلوث بعد بالكذب والنفاق والرياء، فما أن شاهد الإمبراطور على وضعه المضحك، حتى صرخ قائلاً (أنظروا... الإمبراطور عارياً). وعندها عرف الناس أنهم خدعوا واكتشفوا حيلة النصابين.

أيها السادة أنا لن أمانع أن أقوم بدور ذلك الطفل البريء لأقول الحقيقة العارية، أن الإدعاء بأن المالكي هو سبب عرقلة تشكيل الحكومة كذبة يحاول النصّابون تمريرها على الشعب المسكين، لا تقل عن كذبة ثياب الإمبراطور الجديدة. وفي حالتنا العراقية، فقد حشَّدت "كتلة العراقية" و"ائتلاف الحكيم" ومعهما الحكومات العربية وكل قواها الإعلامية لترديد هذه الكذبة، إلى أن نجحت في إدخالها، ليس في رؤوس الناس البسطاء  فحسب، بل وحتى في رؤوس عدد غير قليل من الكتاب الديمقراطيين واليساريين مع الأسف الشديد، إلى درجة أنه حتى الذين أدركوا أنها خدعة لا تقل عن خدعة رفع المصاحف في واقعة صفين والصراخ (الحكم لله) ليرفعوا اليوم شعار الحكم لـ(مرشح الأغلبية الانتخابية) والغرض منه إلغاء الديمقراطية وعودة حكم البعث "العلماني جداً"، ولذلك نرى حتى البعض من العارفين بالأمر إذا ما أراد تكذيبها، كتب مقالاته تحت اسم مستعار خوفاً من أن تناله التهم بالعمالة والطائفية والخيانة الوطنية وغيرها من التهم الجاهزة.

إنها حقاً "فزعة عربية" بكل امتياز، لا تختلف كثيراً عن فزعتهم في عهد ثورة 14 تموز حين ناصبوا العداء لرئيس حكومة الثورة، الزعيم الوطني عبدالكريم قاسم، لا لشيء إلا لأنه ركز على خدمة الشعب العراقي، وكانت التهمة آنذاك "الشيوعية والشعوبية، والعداء للأمة العربية"، لتطلع علينا اليوم نفس الجهات مع تغيير بسيط بعناوين الاتهامات، فاستبدلوا مثلاً تهمة الشيوعية، بتهمة (الطائفية، وعزل العراق عن محيطه العربي...الخ)، وأن المالكي مرفوض من الدول الإقليمية، ولا يمكن للعراق أن يسترد مكانته العربية والدولية ما لم يكن رئيس حكومته الجديدة مقبولاً من الحكومات العربية وعلى رأسها "الشقيقة الكبرى" السعودية!!

وإذا نشط بالأمس أعضاء حزب البعث وحلفاؤهم بتوزيع فتوى المرحوم السيد محسن الحكيم (الشيوعية كفر وإلحاد)، الفتوى التي مهدت لانقلاب 8 شباط  الدموي الأسود، وما تلاه من مجازر وكوارث إلى الآن، فإنهم اليوم ينشطون في توزيع تصريحات حفيده (السيد عمار الحكيم) واتهاماته ضد المالكي مثل قوله: «التصلب والتعنت والتشبث بالمواقع الذي تبديه بعض الأطراف» و«لماذا لا يتخلى الرجل الواحد ولا يعطي الفرصة لغيره حينما نجد كل هذه التحفظات الواسعة على شخصه؟» (راجع صحيفة الحياة السعودية، 24/7/2010)، إلى آخره من الأقوال التي سارعت الصحافة السعودية والخليجية وغيرها بترديدها، والتعليق عليها بمقالات وتقارير وكأنها نصوص دينية مقدسة. والمشكلة أنهم نجحوا في  بلبلة الأفكار إلى حد أنه حتى البعض من ضحايا 8 شباط من شيوعيي الأمس اصطفوا اليوم مع جلاديهم باسم العلمانية ومحاربة الإسلاموية والطائفية. ومثلما دفع آل الحكيم وآل الصدر ثمناً باهظاً  بعد أن نجحوا في ذبح ثورة تموز وزعامتها الوطنية، فلا بد وأن يدفعوا الثمن باهظاً مرة أخرى إذا نجحوا لا سامح الله، في مشروعهم الجهنمي الجديد لذبح الديمقراطية الوليدة وباسم الديمقراطية نفسها على غرار(وداوني بالتي كانت هي الداء)، بسبب المنافسة الشرسة على السلطة.

والسؤال الملح هو، هل حقاً أن (تشبُث المالكي بالمنصب) هو المعرقل لتشكيل الحكومة؟؟
وهل بإمكان رئيس الحكومة "المنتهية ولايته" أن يخالف الدستور، والبرلمان، وجميع الكتل السياسية، المدعومة من الحكومات العربية والإقليمية والولايات المتحدة (الدولة العظمى) كلها، وفي نظام ديمقراطي يقر بصناديق الاقتراع كوسيلة سلمية لتداول السلطة؟ فإذا كان السيد نوري المالكي بإمكانه أن يقف بوجوه كل هؤلاء والقوى الدولية، فلا شك أنه بحق هرقل الجبار لقرن الحادي والعشرين!!!؟
تفيد الحكمة: "حدِّث العاقل بما لا يليق، فإن صدَّق فلا عقل له". فهل حقاً هذا هو الواقع كما يصفون؟

يا عالَم الخير، وسادتي الأفاضل، تعالوا نناقش الموضوع بهدوء ووفق الدستور العراقي الجديد الذي ينص في مادته 73 بما يلي:
أولاً :- يكلف رئيس الجمهورية، مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، بتشكيل مجلس الوزراء، خلال خمسة عشرَ يوماً من تاريخ انتخاب رئيس الجمهورية.
ثانياً :ـ يتولى رئيس مجلس الوزراء المكلف، تسمية أعضاء وزارته، خلال مدةٍ أقصاها ثلاثون يوماً من تاريخ التكليف.
ثالثاً :ـ يُكلف رئيس الجمهورية، مرشحاً جديداً لرئاسة مجلس الوزراء، خلال خمسة عشر يوماً، عند إخفاق رئيس مجلس الوزراء المكلف في تشكيل الوزارة، خلال المدة المنصوص عليها في البند "ثانياً" من هذه المادة.
رابعاً :ـ يعرض رئيس مجلس الوزراء المكلف، أسماء أعضاء وزارته، والمنهاج الوزاري، على مجلس النواب، ويعد حائزاً ثقتها، عند الموافقة على الوزراء منفردين، والمنهاج الوزاري، بالأغلبية المطلقة.
خامساً :ـ يتولى رئيس الجمهورية تكليف مرشحٍ آخر بتشكيل الوزارة، خلال خمسة عشر يوماً، في حالة عدم نيل الوزارة الثقة.

لاحظ عزيزي القارئ أن الفقرة الأولى من المادة 73، تنص على (مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً)، وليس على (مرشح الكتلة الانتخابية الأكثر عدداً)، وهذه الكتلة النيابية يمكن أن تتشكل وتتغير تحت قبة البرلمان بعد الانتخابات وفي أي وقت، وهذا ما فسرته المحكمة الدستورية، أعلى سلطة قضائية.

وبالعودة إلى فقرات المادة 73 من الدستور الدائم، نرى إنه لكي يتمكن رئيس الجمهورية من دعوة  مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، لا بد من أن تسبقه الخطوات التالية:
1- أن يعقد البرلمان الجديد اجتماعه الأول، وبعد أداء اليمين، أن ينتخب النواب حسب المادة (53) من الدستور، رئيساً جديداً ونائبيه للبرلمان. هذه المهمة لم تنفذ لحد الآن، فهل منعهم السيد نوري المالكي من ذلك؟ وهل من الإنصاف تحميله مسؤولية هذا التقصير؟ الجواب: كلا!

2- بعد انتخاب رئيس البرلمان ونائبيه، يجب على البرلمان و(حسب المادة 67: أولاً)، انتخاب رئيس الجمهورية الجديد. ولحد الآن فشل البرلمان في تنفيذ هذه المادة. فهل المالكي هو المانع، وهل بإمكانه وصلاحياته الدستورية أن يعرقل ذلك؟ الجواب مرة أخرى، كلا!

3- وبما أنه لم تفلح لحد الآن أية قائمة انتخابية في الحصول على الأغلبية المطلقة من مقاعد البرلمان، لذلك لا يمكن لأية كتلة تشكيل الحكومة لوحدها، لذا يجب تشكيل تحالف بين بعض الكتل بحث يكون مجموع مقاعدها البرلمانية أكثر من النصف، قبل أن يوجه رئيس الجمهورية الجديد الدعوة إلى مرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً، لتشكيل الحكومة. وهذا التحالف لم يتشكل لحد الآن مع الأسف، فلماذا يحمل السيد المالكي وحده مسؤولية إخفاقات الآخرين في تشكيل تحالفاتهم، خاصة وهو لا سلطة له على البرلمان؟

4- ولو افترضنا جدلاً، أن السيد أياد علاوي، مرشح الكتلة الانتخابية الأكثر عدداً، نجح في عقد تحالف مع القوائم الأخرى، مثلاً "ائتلاف الوطني- بزعامة الحكيم" والتحالف الكردستاني، فهل كان بإمكان المالكي منع رئيس الجمهورية من توجيه الدعوة له؟؟ الجواب: ألف كلا.
بالمناسبة، يحكى أن يهودياً كان يأتي يومياً إلى حائط المبكى متضرعاً إلى الله أن يوفقه بالجائزة الأولى (Jackpot) في اليانصيب الوطني، حتى أثار عطف الناس وشفقتهم عليه، فذهبوا إلى الحاخام (القس) يرجونه أن يدعو الله لمساعدته عسى وأن يفوز. فأجابهم الحاخام أنه مستعد للدعاء إلى الله من أجله، ولكن أخبروه بأن يجب عليه ن يشتري البطاقة أولاً!! فكيف يمكن أن يفوز وهو يرفض شراء بطاقة اليانصيب!! هذه الحكاية تنطبق على زعيم "الكتلة العراقية" السيد علاوي الذي ملأ الدنيا بكاءً ونحيباً وضجيجاً بأنه الأحق والأولى والأجدر والأصلح من غيره برئاسة الوزارة. فيا أخانا الفاضل لا يمكنك أن تشكل الحكومة لوحدك من دون أن تقيم تحالفاً مع القوائم الأخرى أولاً، وإلا كيف يمكنك بالفوز بالجائزة الأولى!!

5- دستورياً، لا يجوز ولا يمكن لرئيس الوزراء المنتهية ولايته الاستقالة وترك البلاد بلا حكومة إلا بعد تشكيل الحكومة الجديدة ليسلِّم المسؤولية إلى الرئيس الجديد. لذلك فأي حديث عن "إصرار المالكي على التشبث بمنصبه" هو حديث هراء وهذيان فارغ.

لماذا فشل خصوم المالكي من تسمية الرئيس الجديد؟
من يتابع الصراع المحتدم بين قادة الائتلافات السياسية وكما بينا أعلاه، كلها تتفق على إلقاء اللوم على المالكي كمعرقل لتشكيل الحكومة، وإذا كان خصوم المالكي حقاً صادقين فيما يعلنون، ومنسجمين فيما بينهم، لاتفقوا وشكلوا تحالفاً وسمّوا واحداً من بينهم ليترأس الحكومة القادمة، وفي هذه الحالة ليس بإمكان المالكي مطلقاً عرقلة مشروعهم. ولكن الحقيقة التي يحاول خصوم المالكي إخفاءها هي أن العداء المستفحل بين هؤلاء السادة لا يقل ضراوة من عدائهم للمالكي. والأمر الوحيد الذي أبقاهم متماسكين ظاهرياً لحد الآن هو عداؤهم للمالكي (بغضاً لعلي وليس حباً بعثمان)، فما أن يزاح المالكي عن منافستهم في المنصب حتى وستنفجر العداوة فيما بينهم كما انفجر العداء بين القوميين والبعثيين بعد انقلاب 8 شباط 1963الأسود. والقوم يعرفون هذه الحقيقة جيداً، وهذا هو السبب الوحيد الذي جعلهم في حيص بيص، وهذه الوحدة المؤقتة والزائفة.

خلاصة القول وبيت القصيد، أن سبب عرقلة تشكيل الحكومة هو ليس "تشبث المالكي بالمنصب" كما تدعي جوقة "الفزعة العربية"، وإنما فشل الجميع في انتخاب رئيس جديد للبرلمان، ورئيس للجمهورية، وتشكيل تحالف بينهم. هذه الأمور الثلاثة يجب دستورياً أن يتم حسمها قبل أن يستطيع رئيس الجمهورية الجديد توجيه الدعوة لمرشح الكتلة النيابية الأكثر عدداً. وعندئذ ليس بإمكان المالكي منع رئيس الجمهورية من توجيه هذه الدعوة لأي مرشح يريد. ولذلك فالعيب أيها السادة، ليس في المالكي، كما تدعون، بل وكما قالت المرحومة أم كلثوم: "العيب فيكم وبحبايبكم"!!!

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق