CET 00:00:00 - 02/08/2010

مساحة رأي

بقلم: أنطوني ولسن
اولا: في مصر:
  ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وان اقتضي الأمر العودة الى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..
  يصادف يوم الأربعاء 25 اغسطس/آب القادم لهذا العام 2010 مرور 39 سنة على وجودنا في أستراليا.
  مرت السنوات وكأنها الأمس القريب.. تجسدت امام عيني وأنا اكتب ذكرياتي حاليا، الدوافع التي جعلتني اتخذ قرار الهجر ليس لي وأسرتي فقط، بل لعائلتي كلها ابي وأمي وثماني أشقاء وشقيقات وعائلات من كان متزوجاً منهم في تلك الفترة.
  اتذكر ذلك الاعلان عن وظيفة شاغرة في هيئة (الينسكو)، اتذكر ايضا اصرار زملائي في العمل على التقدم لحصول على هذه الوظيفة. وأتذكر ايضاً عدم رغبتي في الدخول في تجربة قد تترك اثرا داميا في قلبي ووجداني. لكنهم اصروا، بل ملأ احدهم البيانات الموجودة في الطلب ووقعت عليه وقام هو بإرسال الطلب الى الجهات المختصة.
  نعم ما اتذكره عن ذلك الحدث هو يوم الإمتحان او المقابلة The Interview كنا خمسة أشخاص، 4 رجال وآنسة، جلسنا امام الممتحن الذي بادرنا بالقول:
- حتى أكون عادلاً معكم سوف تكون أسئلتي لكل منكم حسب دراسته الجامعية.
  بدأ الاختبار بقراءة في كتاب باللغة الانجليزية قامت به تلك الآنسة. تعثرت في قراءتها..     أتذكر جيدا ما قاله سيادته لها..
- ماذا أقول لشقيقك؟!
  وكان ردها..
- كوني حاصلة على بكالوريوس تجارة من جامعة الخرطوم لا يجعلني بالتالي اجيد اللغة الانجليزية واتقنها.
  عندما جاء دوري في القراءة.. ادار الرجل ظهره لي ونظر الى الشباك الذي خلفه.
أغاظني ذلك التصرف.. فأخذت أقرأ بسرعة. اتجه بوجهه ناحيتي وقال لي:
- لماذا تقرأ بهذه السرعة؟!
  أجبته دون تردد..
- حتى أشد انتباهك بعد ان ادرت لي ظهرك!!
  حدجني بعينيه ثم قال:
- لا انا كنت استمع لك جيدا.. وعلى العموم كفي وشكراً.
  توالت الاسئلة وفي كل مرة تكون فيها اجابة الآنسة خاطئة.. يردد ما سبق وقال لها في بداية المقابلة.. ماذا اقول لشقيقك.
- سألني:
- انت دارس تاريخ..
- نعم
- والتاريخ الاسلامي..
- (اجبته بنبرة تهكمية).. وكنت أحصل على تقدير إمتياز او جيد جداً على الأقل.
- جميل جدا.. هل لك ان تقول لي لماذا سمي سيدنا ابو بكر الصديق.. بالصديق؟!
- لأنه كان أول من صدق بالرسالة..
- (مقاطعا).. لا السيدة خديجة وسيدنا علي كانا ايضا اول من امنا بالرسالة.
- السيدة خديجة من السيدات وسيدنا علي من الشبان.. اما سيدنا ابو بكر فمن الشيوخ.
  هزّ رأسه وردّ علي بطريقة العالم العلامة قائلا:
-لا.. لا.. ليس لهذا السبب.. انه يرتبط بحدث حدث منذ ايام قليلة.
- اكون شاكرا لو اخبرتني.
  اشرأب بعنقه وهز رأسه ومصمص شفتيه متعجبا من جهلي أنا دارس التاريخ وقال:
- أ لم تقرأ عن حادث إلقاء الاسترالي المخبول بقنبلة على المسجد الاقصى بالقدس!
- سمعت وقرأت الخبر.
  كاد ان  يقول لي.. يا جاهل هذا هو السبب. لكنه امسك بنفسه وصمت قليلا وتكهرب جو الجوقة/الحاشية، المحيطة به وتخيلت انهم يريدون ضربي لجهلي. ومع ذلك فتح فاه متكلما برزانة كأستاذ يحاضر تلميذا غبياً.
- يا استاذ الا تعرف شيئا عن ليلة الاسراء والمعراج!!
  اومأت له برأسي مؤكدا له انني اعرف.. فاستمر في حديثه قائلاً..
- في تلك الليلة سيدنا ابو بكر لم يكن موجوداً.. وعندما عاد سأله الناس اذ لم يكن قد سمع ما قاله صاحبه الرسول (صلع).. فقال لهم سيدنا ابو بكر..
- لو قال انه رأى السما السابعة لصدقته.
ومن هنا نزلت الآية الكريمة ولقبت سيدنا ابو بكر بالصديق.
نظرت اليه وقلت:
- أشكر سيادتك على تعريفي ما كان ليس لي به علم.
  حدجني بنظرة اخرى كلها تحد واستاذية وسألني:
- هل درست تاريخ مصر الحديث!
- والقديم منه ايضا.. فقال:
- عال.. جميل.. هل لك ان تقول لي متى احتلت انجلترا مصر؟
  غلى الدم في عروقي.. انتابتني لحظة جنون وتمرد وكدت ان افقد اعصابي واقول له.. هل هذا سؤال يسأله مثلك من مدعي العلم والمعرفة؟!! لو سألته لطالب ابتدائي لاجابك. لكني تمالكت نفسي ونظرت مباشرة في عينيه وقلت له:
- انه في تمام الساعة السادسة من صباح يوم الثلاثاء الحادي عشر من شهر يوليو عام 1882.. أطلق الاسطول البريطاني بأول قذيفة على مدينة الاسكندرية وبعدها تم الاحتلال.
  فوجيء سيادته باجابتي هذه فسألني وبسرعة..
- طيب.. ولماذا احتلت انجلترا مصر؟
وكاد ان يقول لي «هه ان كنت شاطر وجدع رد علي بقى ووريني شطارتك»
  فتحت فمي لأتكلم وخرجت الكلمات الاولى من فمي.
- من أجل امبراطوريتها في الهند.. و..
لم اكمل حديثي وقاطعني شامتاً
- لا.. انا مش عايز السبب ده.
رددت عليه بكل تهكم وسخرية وقلت له:
- آه.. انت تقصد حكاية الملطي والحمار..
  ردّ كطفل
- آه.. انا اقصد هذا.. على العموم متشكر ين تقدر ترَوح دلوقتي.. واتفضلوا كلكم مع السلامة.
  نهضنا وخرجنا جميعا وكنت آخر الخارجين، وإذ به ينادي عليّ..
- ولسن.. يا ولسن.. تعال..
  توجهت اليه.. وإذ به يفتح جارور/درج مكتبه ومن علبة حلوى.. ملأ يده بالحلوى وقدمها الي قائلاً:
- خد دول علشانك..
 
  أخذت الحلوى من يده ووضعتهم في جيبي وأدرت ظهري وسرت في طريقي الى منزلي.
  عند العشاء من مساء ذلك اليوم من ايام شهر سبتمبر/أيلول 1969، وأنا جالس مع زوجتي وابنائي شعرت بضيق شديد في صدري. لم استطع التنفس.. صرخت زوجتي. هدأت من روعها ثم نهضت وسرت الى البلكون. وما زلت اتذكر انني دخنت ثلاث سجائر، بعدها عدت الىزوجتي التي كانت ترتجف خوفا. ربت على كتفها وقلت لها:
- لا مستقبل لأولادنا هنا.. علينا ان نتوكل على الله ونبحث عن بلد آخر.
  وبالفعل في اليوم التالي طلبت لقاء عاجل للأسرة كلها واتخذت قرار الهجرة لنا جميعا. الخلاف فقط كان اختاروا اميركا  واخترت انا أستراليا.
  عاد تفكيري الى استراليا.. ورتب الله لي الأمر.. فقد ظهر في الافق من ساعدني على اجراءات الهجرة. في عام 1956 كانت الهجرة إلى أستراليا بسيطة.. قمت بزيارة واحدة للسفارة وتم لقاء واحد مع المسؤولين وموافقة بعد ذلك بعد اجراءات روتينية بسيطة وحصلت على (فيزا) الهجرة إلى أستراليا.
  اما عام 1970 فالامر مختلف لا بد من وجود (ضامن) وكان الاستاذ نبيل شاكر موجود في القاهرة وهو احد المهاجرين الأوائل. التقيت به وتحدثنا وأبدى استعدادا هو والأخت الكريمة زوجته على مساعدتنا.
  هجرة فرد او اسرة واحدة ليست مثل هجرة عائلة كبيرة مثل عائلتي.. لذا كنت اشعر بثقل المسؤولية، لكن الجو العام في مصر الذي خيمت عليه خيبة أمل قاتلة جعل من موضوع التفكير في الهجرة حلاً لمشاكلنا.
  كلما تهيج بي الذكريات.. اجد نفسي في حالة من الشعور بالإحباط واشعر وكأنني وامثالي ممن هاجروا وتركوا مصر لعصابات الحكم الزائف قد تخلينا عن دورنا الوطني، الدور الوطني الذي كان يقوم به الجيل السابق لجيلنا والأجيال التي سبقته ووقوفها امام طغيان الاحتلال العثماني والاحتلال الانجليزي الذي حل محله.
  قامت الثورة وظننا انها ستقوم بما كان يجب على الشرفاء الوطنيين من اهل مصر ان يقوموا به. لكننا وجدنا الشرفاء مكبلة ايديهم ومكممة افواههم وبندقية الأخ فوق رأس أخيه.
لا مفر.. لا بد من الهجرة.. لا بد من ترك البلاد.. والحر الشريف يستطيع ان يخدم وطنه في اي مكان على الأرض وبأبسط الاساليب والطرق اقلها ان يكون سفيرا لوطنه.. سفيرا حقيقيا اعماله وافعاله تشهد له.. لا سفير يأتي لفترة وعليه ان ينفذ سياسة حكومته. وانما سفير يعرف قيمة مصر ومعنى كلمة مصري.
  وبدأنا التنفيذ.. هم إلى اميركا والدي ووالدتي وثلاثة اشقاء أحدهم بزوجته وولداه وابنته وثلاث شقيقات. وظل من الأسرة في القاهرة شقيقة مع زوجها واولادها.. وان لحقت بالاسرة بعد فترة زمنية. وشفيق كان يخدم في الجيش ولحق بهم ايضاً بعد انتهاء الخدمة الوطنية.
  شقيقي الاصغر مني على الرغم انه كان من اشد المتحمسين لفكرة الهجرة.. إلا انه عند التطبيق مر بفترة عصيبة لأنه رجل اعمال ناجح يملك محلاً «للمانيفانوره» بالجملة في اشهر احياء مصر التجارية.. فكيف يضحي بكل هذا ويذهب الى المجهول؟!
  تمر بي الذكريات الأن واتذكر يوم توقيعه على بيع المحل.. في ذلك اليوم أغلقنا المحل واستقلينا السيارة، وكان موعد اللقاء في ميدان سفير بمصر الجديدة إنطلق بالسيارة من شارع الأزهر إلى طريق صلاح سالم وهو شارد.. قدمه على دواسة البنزين ويداه ممسكتان بعجلة القيادة والسيارة لا تسير بل تطير من السرعة.. وانا جالس الى جواره صامت متحفز لأي خطر قد يداهمنا ويدي ممسكة (بفرامل) اليد الى أن وصلنا الى حيث الرجل الشاري الذي تبعنا إلى حيث يقطن شقيقي بشارع النزهة بحي النزهة بمصر الجديدة وصحب الشاري محاميه لتوقيع عقد الشراء.
  تم البيع وبدأت الاستعدادات للسفر. بالنسبة لي السفر اولاً إلى بيروت وقضاء وقت مع امي واخوتي وأخواتي والاطمئنان عليهم وعلى احوال معيشتهم. ومن بيروت الى سدني موطئ قدمي وراحة نفسي. وتم هذا في يوم الأربعاء 18 أغسطس/آب 1971. وتركنا بيروت في يوم القثلاثاء 24 أغسطس 1971 ووصلنا سيدني في تمام الساعة السادسة من صباح يوم الأربعاء 25 أغسطس 1971 حسب التوقيت المحلي لمدينة سيدني.
في الطائرة اصطحبت مع راكب هولندي يعيش في ولاية كوينزلاند.. وقرب دخول الطائرة المجال الجوي لمدينة سيدني طلب مني كابتن الطائرة عبر الميكرفون أن لا أغادر الطائرة وعائلتي عندما تهبط في مطار سيدني. تعجبت.. وتعجب الراكب الهولندي بعد سماعه ذلك الخبر. نظر إلي وعلامات الاستفهام والتعجب في عينيه. بادلته نفس النظرة وأشرت له بعدم معرفتي السبب.. لكنه فضل الصمت وعدم الكلام.
  ضربت اخماساً بأسداس لأعرف معنى لهذا الطلب.. فلم أجده، تذكرت انني في مطار بيروت اعطاني احد الموظفين سبعة خطابات على كل واحد منهم طابع بريد أسترالي وعناوين وأسماء المرسل اليهم وطلب مني ان اضعهم فقط في اي صندوق بريد حكومي في الشارع. سألت نفسي هل من المعقول ان تكون هذه الخطابات هي السبب؟!
  مرت الدقائق وكأنها دهر.. هبطت الطائرة ولم نتحرك من اماكننا.. غادر الراكب الهولندي بعد أن شدَ على يدي متمنيا لنا حظا سعيدا في وطننا الجديد.. جاء الكابتن بنفسه الينا ومعه مساعديه وكان ممسكا بورقة في يده عرفت بعدها انها «تلغراف» وشد على يدي مهنئاً بسلامة الوصول متمنيا لي ولأسرتي إقامة سعيدة في أستراليا. ناولني «التلغراف». كان مكتوبا باللغة الانجليزية.. قرأته فإذ به يحوي كلمات تهنئة بسلامة الوصول لنا جميعا.. قرأت توقيع الراسل فكان يحمل اسم بيتر نابل. لم اعرف احد بهذا الاسم لا في أستراليا ولا في مصر.. شكرت الكابتن وساعدتنا المضيفات في إنزال حجاتنا. هبطنا سلم الطائرة.. وما ان وطأت اقدامنا ارض مطار سدني حتى تقدمت الينا مضيفة ارضية كانت واقفة إلى جوار السلم، مدت يدها مصافحة مرحبة بنا، وأخبرتني انها هنا لإصطحابي وأسرتي.. دخلنا إلى الجمارك بعد إحضار كل الحقائب.. بدأ التفتيش السقيم الذي عرفت بعد ذلك انهم يفعلون هذا مع كل مهاجر جديد. لم تتركنا المضيفة.. بعد انتهاء التفتيش ساعدتنا في إغلاق الحقائب وتحميلها تمهيدا للخروج. فتح باب الخروج اتوماتيكياً وهي مازالت معنا.. كان في انتظارنا الأخ الحبيب نبيل شاكر..
  توجهت اليه المضيفة وحيته فشكرها على خدمتها.. حيتنا وربتت على رأس ابني طالبة لنا إقامة سعيدة. ولحظتها عرفت من هو بيتر نابل الذي أرسل إلينا التلغراف وطلب من شركة الطيران ان تبعث بمضيفة ارضية لمرافقتنا.
  على الرغم من مرور كل تلك السنين لا يمكن ان انسى أو أسرتي  له ولزوجته العزيزة تلك الخدمات وإستضافتهم لنا في منزلهم في ستراثفيلد إلى ان تم انتقالنا إلى المنزل الذي تم استئجاره في حي ماركفيل . Marrickville وبهذا اكون قد انتهيت من ذكريات.. العمر اللي فات والجزء الخاص بمصر..
  شيء واحد باق هو زيارتي السريعة  لمصر عام 1976. وزيارتي وزوجتي وابني وزوجته وابنتي الصغرى وابنتها لمصر عام 1991.. اي بعد ان مضى 20 سنة كاملة منذ هجرتنا.. والتي تركت اثرا سيئاً جدا في نفسي.. وكنت أبكي وصوت شادية يرن في إذني «يا حبيبتي يا مصر».
 لقد خربوا مصر وقضوا عليها.. لذا اقسمت يمينا ان لا أذهب إلى مصر تحت اي ظرف من الظروف. اريد ان احتفظ في قلبي وعقلي ووجداني بتلك الأيام الجميلة .. أيام مصر ما كانت ام الدنيا.. وليس كما حولها العسكر إلى جارية هي وأبناءها عند عرب النفط.
وإلى لقاء مع ذكريات.. العمر اللي فات.. هذه المرة في أستراليا.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٦ صوت عدد التعليقات: ٣ تعليق