CET 00:00:00 - 06/08/2010

مساحة رأي

 بقلم: سامي ابراهيم

تاريخ شعبي هو حاضري ووجودي، تاريخ شعبي هو مستقبلي، تاريخ شعبي هو المدرسة التي أتعلم فيها من أجل أن أصنع غدي، ومن أجل أن أصنع حياة تليق بأطفالي.
 لا نقرأ تاريخ شعبنا حتى ننساه، وبالتأكيد لا نقرأه حتى نتظاهر، ونقول: كل شيء على ما يُرام!. لا نقرأ ما حدث لشعبنا حتى نخفي الألم الذي يعترينا، ونتجاهل الحزن الذي يمزق قلبنا.
 لايمكن أن نقرأ مجزرة أُرتكبت بحق شعبنا، الشعب الكلداني السرياني الآشوري، دون أن تنتابنا مشاعر الغضب، وخاصةً أنه لم يغير أحفاد قاتلوا جدي نهجهم! لم يغيروا أسلوبهم! فما يزال حقدهم متوارثًا، وما يزال مستمرًا معه نزيف شعبنا. "سيميل"..بحق السماء إنها تتكرر الآن.
 
كيف يمكن لنا أن نقول لأطفالنا: انسوا "سيميل"، بينما في كل يوم نرى الشمس فيه هو "سيميل" جديدة لشعبنا؟! كيف يمكن لنا أن نقول لأطفالنا: انسوا "سيميل"، بينما "سيميل" مذبحة مستمرة تتكرر كل يوم لهذا الشعب؟! كيف نستطيع أن نمحو الوجه الأسود ليوم "سيميل"؟ وما تزال نفس السكين تغرز، وتنحر، وتهرق دماء المزيد من أبناء هذا الشعب؟!.
 كيف نستطيع أن نطمس الذاكرة، ونحن نعرف أن شعباً بدون ذاكرة هو شعبٌ بدون تاريخ؟!
 
في "سيميل" قتلوا الشعب الكلداني السرياني الآشوري جسديًا، أما الآن فإنهم يقتلونه جسدياً وفكريًا. توارث المجرمون ثقافة الكره، ورفض الآخر،  وطوروها؛ ليجعلوا من هذه الثقافة آلة القتل الأولى من دون منازع.
 
هل قدر الشعب الكلداني السرياني الآشوري أن يضعف ويحزن ويتألم؟! إن ما يتعرض له الشعب الكلداني السرياني الآشوري في أرض الرافدين هو إبادة شرسة تفتك به، وتدمّر حضارته، وتقتل روحه. إنها مجازر عنيفة من نفوس عنيدة وحقودة، داس بها من ارتكب المجازر على كل روابط العيش المشترك، وقتل فيها المجرمون الإنسانية، وهتكوا كل أواصر العلاقات الإجتماعية. إنها مجازر ستخلّف خلفها ميراثًا عظيمًا من الحقد والمرارة، يجعل من المستحيل نسيانه، ويجعل استمرار الحياة المشتركة عبئًا كبيرًا وألمًا لا يُحتمل، وقهرًا لا يُطاق.
 
في "سيميل" خدعونا، والألم الذي أوقعوه بنا يكبر ويتعاظم تأثيره، فهو مُلوّث بالخيانة. وها نحن نستذكر مجزرة "سيميل" في هذه الأيام بمزيد من مشاعر الأسى والغضب والخوف من الحاضر، والهلع من المستقبل. وهاجس السؤال الذي يقض مضاجعنا: هل ستستمر الجرائم بحق شعبنا؟ أم أنها ستنتهي؟! وعندما تنتهي كيف سنتعامل مع ميراثها ومع آثارها؟!.
 
عندما يرتكب المجرم جريمته فإنه يرسم حول نفسه من جريمته سياجًا يحيط به لا يستطيع أن يتجاوزه، وعندما لا يحاسب أحد هذا المجرم فإنه يستمر في الحياة مع هذا السياج الذي يشل عقله ويستحوذ على تفكيره، ومع استمرار حياة هذا المجرم فإنه سيحاول اجتيازه، وعندما يجتازه فإنه سيدخل في دوامة من الجنون، عندها سيصبح من المستحيل أن يتعامل هذا المجنون مع وسطه ومحيطه.
 
 وبما أن سيكولوجية المجرم تطلب إراقة الدماء، فإنه سيحاول أن يبرّر لنفسه قيامه بعملية القتل، فعقله الباطن (اللاوعي) يحتاج لأن يقتل ويطالب صاحبه بالقتل، لكن عقله الواعي يرفض عملية القتل منطقيًا، ولكي يضع حدًا للصراع النفسي المحتدم بين لاوعيه ووعيه، يصل لحل يرضي الأطراف جميعها، فيبحث عقله (وعيه) عن سبب يبرّر له عملية القتل؛  فيتهم الضحية بأنه كافر، ويتهمه بالعمالة والخيانة، فيحكم عليه بالموت، ويحاول أن يسكت عقله (وعيه) بأنه يستحق القتل بسبب الكفر، وبذلك يضمن عدم وجود رادع أخلاقي، فيقوم بعملية القتل، فالحقيقة أن المجرم لا يقتل لأن الضحية كافر، بل يقتل لأن لاوعيه (اللاشعور) يأمره بالقتل، فيقتل حتى يشبع نفسه الظامئة إلى إغماد النصل في قلب الضحية، ويقتل حتى يتلذذ برؤية إزهاقه للحياة، يقتل مكرسًا سيكولوجية المجرم التي تدفعه إلى قيام ما يقوم به، مشبعًا غريزة العدوان والقتل في جهازه النفسي.
 
كنت أتمنى أن أقول لمن قُتل في "سيميل" بعد سبعة وسبعون عامًا من المجزرة: طوبى لكل قطرة دم بذلتموها رخيصة على مذبح الكرامة والحرية من أجل أن يبقى الوطن حرًا كريمًا، ومن أجل أن تبقى الإبتسامة مرسومة على وجوه الأطفال! لكنني أقول لكم، وقلبي يعتصره الألم: ما تزال دمائنا تُهرق رخيصة على مذبح العنصرية والحقد، وموتكم ذهب هباءاً منثورًا؛ لأن الوطن الذين استشهدتم فيه ها هو يقتل أبناؤكم، والضحكة التي أردتم بموتكم أن ترسموها على أطفالكم لم تعرف سبيلها إلينا اليوم. 
 
يقولون بأن ثمن الحرية غالٍ وطرقها شائكة، ولابد أن تُمهَّد بالدم، وتفتدى بالروح! لكنني أرى بأنه لمجرد إنتمائنا للشعب الكلداني السرياني الآشوري، فإن هذا يكلفنا أرواحنا ويهرق دمائنا، كما أنه لا تبدو منارة الحرية في الأفق القريب. لقد أطفأ هؤلاء القتلة مشعل النور الذي كان يحمله أجدادنا..قتلوا آبائنا منذ أكثر من سبعين عامًا، وها هم الآن يقتلوننا ويهجروننا اليوم.
 منذ سبعين عامًا مضت كان الألماني يرفع يده ويقول: "سيغ هيل"، لكن الشعب الألماني لم يعترف بجرائم النازية فقط، بل استطاع أن ينتزع فكرة النازية من عقول الألمان، ويخلق عقلية جديدة..هذه العقلية ليست مفعمة بالإنسانية والحب والتواضع فحسب، بل هذه العقلية وحّدت أوروبا الغربية والشرقية! وأخرجتها من الدمار والبؤس والموت إلى القوة والحياة والإبداع، وجعلتها متوازية مع "أمريكا" في الثروة وعدد السكان.
 
هذا هو الفارق الحضاري الشاسع بين الغربي والشرقي. وهكذا استطاع الغربي أن يصنع الفارق باعترافه بما ارتكب محققًا إنسانيته متحملاً مسئولياته أمام التاريخ، مورثًا لأبنائه ثقافة الإعتذار، فبنى المجتمع الذي يحلم أي إنسان العيش في نعيمه، بينما جعل الشرقي من نفسه أضحوكة؛  بعدم اعترافه لمجازر مثبتة بالأدلة القاطعة؛ ليخلق مجتمعًا يكون مرتعًا للجريمة والجهل والتخلف والألم. فاليوم لم يعترف أحد بالجرائم ضد الشعب الكلداني السرياني الآشوري، لا في "تركيا" ولا في "العراق"، فكيف سيتمكن هؤلاء من بناء إنسانية لأوطانهم؟ وكيف سيتمكنون من بناء طريقة عيش جديدة إن كانوا جيلًا بعد جيل يورثون لأبنائهم فكرة أن أحداً لم يرتكب المجازر بحق أبناء الشعب الكلداني السرياني الآشوري؟ وكيف سنتمكن نحن من نسيان مآسي الماضي وأحداثه السوداء، إن كانت نفس العقلية والتربية التي أبادت شعبنا قبل عشرات السنين هي نفسها اليوم لم تتغير؟! كيف سنتمكن من طي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة، إن كانوا هم في كل صفحة جديدة نفتحها، يلوثونها بمجازرهم وإرهابهم وكذبهم وخيانتهم؟! كيف سيتمكن الشعب الكلداني السرياني الآشوري من طي صفحة الماضي إن كانت طريقة التفكير التي ينتهجها من ارتكب المجازر لا تزال تؤمن بنظرية المؤامرة، ولا تزال تعامل أبناء هذا الشعب على أنهم كفار وعملاء وخونة؟! كيف سنبني أواصر الأخوة وروابط العيش المشترك، إن لم يعترفوا بمجازرهم بحق آبائنا؟!
 
 يا من ارتكب هذه المجزرة، ستبقون وصمة عار أبدية في جبين البشرية إن لم تتحملوا مسئولياتكم تجاه ما اقترفت أيديكم تجاه التاريخ، وتجاه الحضارة البشرية. وعندما تعترفون بمجازركم، عندها ستخطون الخطوة الأولى نحو تحقيق الإنسانية، ونحو تحقيق الحياة التي تنشدها الشعوب المتصالحة مع ذواتها. وهي الطريقة الوحيدة التي تجعلكم تعيشون في سعادة دائمة.
 تولوّا مسئولية كل شي اقترفتموه؛ لأنكم أنتم المسئولون عن معاناتنا. إننا اليوم إذ نتذكر مجزرة "سيميل"، فإنه محاولة نتعلم فيها أي درس يمكننا تعلمه من خسارتنا تلك، ومن شأنه أن يخلق لدينا فارقًا. 
 
إننا اليوم إذ نتذكر مجزرة "سيميل"، فإننا من أجل أن ننقذ ما نستطيع إنقاذه. شعبنا لا يخاف الموت، فالموت ليس أمرًا غريبًا علينا، لكن العيش وقتًا طويلاً في حالة الإحتضار يحمل خبرة عظيمة، فالشعب الكلداني السرياني الآشوري الآن يعاشر الموت، فأصبح هذا الشعب عالمًا متفهمًا بأمور الحياة، فمن صميم الموت تتعرف عمق الحياة وغموضها. ولكن بما أننا لم نمت، فإننا نود أن نعيش أيامنا بملئها، نود أن نعيش شغف الحياة، نحلم أن يتحقق العدل، ونطلب أن يتم الإعتراف بمجزرة "سيميل"، ومجزرة "السيفو"، مثلها مثل بقية المجازر التي يعترف العالم بها، وتُصدر الأمم المتحدة بيانات إدانة بحق مركبيها.
 
 نتذكر مجزرة "سيميل" بمزيد من الإيمان والرجاء في أن يتم الإعتراف بها دوليًا، فايماننا هذا ورجائنا، هو الزاد الحقيقي في قضيتنا، وهو الأمل الذي يحملنا لنزرع الأزهار في الخريف لتتفتح في الربيع. كل هذه الجرائم والمجازر لم ولن تُرهبنا، بل تجعلنا أكثر شجاعةً وصمودًا ومقاومةً، وأكثر تماسكًا وترابطًا.
 
 في كل أرض تُزرع الأشجار، وتنبت الحقول. في كل أرض تتفجر الينابيع وتتفتح الأزهار، لكن في أرضنا فقط- أرض الشعب الكلداني السرياني الآشوري- ينبت معنى الحياة لتتفتح براعم الحياة، في أرضنا فقط تزرع نبتة اسمها الشهامة تتحدى الأهوال والسيول، لتضرب جذورها أعماق الأرض؛ لتزيد الشعب صمودًا وثباتًا وقوة، وترسّخ قدرته على الحب والعطاء. 
 
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٣ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق