عرض: جرجس بشرى
الكتاب الذي نتناوله بالعرض هذه المرة، وهو "الصهاينة في مصر .. من الكوليرا إلى المُطبعين" يعتبر واحدًا من أهم الكتب الوثائقية التي توثّق تاريخ تواجد الحركة الصهيونية في "مصر"، وكيف استغلت الحركة الصهوينة بعض اليهود المصريين ووظفتها لخدمة مصالحها، وكذلك النشاط الصهيوني في "مصر".
الكتاب المذكور من إصدار "مركز يافا للدراسات"، وقام بتحريره الأستاذ "عبد القادر ياسين"، ويتكون من خمسة فصول؛ يتناول كل فصل الصهيونية في مصر من ناحية موضوع معين، وهذا الكتاب عبارة عن بحوث مُوثّقة لعدد من الكتاب والباحثين.
ويرى الكاتب أن محاولات صهيونية محمومة قد تمت للإيقاع بثورة 1952 م، وأن الرئيس الراحل "جمال عبد الناصر" لم يحبط محاولات الصهيونية فحسب، بل شق طريقه للقومية التقدمية منذ ربيع 1955م، موجهًا لطمات متتالية للإمبريالية والصهيونية وكيانها، وأما الرئيس الراحل "محمد أنور السادات" فهوــ بحسب رأي محرر الكتاب ــ الذي ارتد بالثورة ــ يقصد ثورة يوليو 1952 م ــ وأنه في سياق إلتحاقه بالمعسكر الرأسمالي جاء صلحه مع "إسرائيل".
الصهيونية فى مصر حتى ثورة يوليو
الفصل الأول من الكتاب، والذي جاء بعنوان "الصهاينة في مصر حتى ثورة يوليو" يرصد الباحث "سيد عبد المنعم عبد الرحمن"، والذى أوضح أنه قد لا يبدو غريبًا أن تكون "مصر" في النصف الأول من القرن العشرين، مجالاً خصبًا للحركة الصهيونية، تحت نير الإحتلال البريطاني، الذي كان صاحب الفضل في دعم تلك الحركة، ولكن الذي يبدو غريبًا بعض الشئ، ذلك الموقف الداعم للنشاط الصهيوني، والذي تبنته بعض النخب السياسية والفكرية المصرية. وأن هذا الموقف أضاف نوعًا من الشرعية على ذلك النشاط، بحيث أصبح النشاط الصهيوني في "مصر" مباحًا، أما مكافحة الصهيونية فأمر مخل بالأمن العام!!
ورصد الباحث عدم اهتمام الحركة الوطنية المصرية فى تلك الفترة بالقضية الفلسطينية، ومخاطر المشروع الصهيوني على الأمن القومي المصري بشكل واضح، كما أن القضية الفلسطينية لم تصبح محورًا أساسيًا في الحياة السياسية المصرية إلا بعد الحرب العالمية الثانية، بعد أن اتضحت مخاطر قيام دولة استعمارية على الحدود الشمالية الشرقية لـ"مصر"، بما يهدد أمنها، مما دفع المصريين إلى إدراك حقيقة أن الحفاظ على أمن "مصر" لا تكفله القومية المصرية وحدها، وأن درء الخطر لا يكفله إلا الإنتماء إلى جامعة سياسية أعم.
موقف "مصر" من الكيان الصهيوني
وهنا- بحسب رأي الباحث- بدأت "مصر" تكتشف انتماءها العربي، مما بلور موقفًا واضحًا من الكيان الصهيوني، تأسس على عدم الإعتراف بشرعية وجود هذا الكيان وضرورة فنائه، لكن هذا الموقف الواضح بدأ يتراجع بعد أن أخذ النظام الحاكم في مصر- في منتصف سبعينات القرن الماضي- يتعامل مع "إسرائيل" باعتبارها دولة يجب الإعتراف بها، ولا ضرر في التعاون معها، وبدأ يصوِّر المشكلة على أنها في الأساس "حاجز نفسي" قائم بين شعبين، وفي الوقت ذاته تم إحياء المفهوم الضيق للقومية العربية في مقابل انتماء "مصر" للأمة العربية؛ حتى تتراجع القضية الفلسطينية من موقع القضية المحورية في عقل ووجدان المواطن المصري، إلى قضية خارجية ثانوية.
التعاون مع الحركة الصهيونية
كما تناول الفصل الأول من الكتاب، تعاون بعض المصريين مع الحركة الصهيونية قبل قيام حركة الجيش في 23 يوليو 1952م. وهذا الموضوع- بحسب رأي الباحث- له ارتباط وثيق بالنشاط الصهيوني الذي تم ترويجه في أوساط اليهود في "مصر" منذ 1897 وحتى عام 1948. كما تناول أيضًُا وضع اليهود في "مصر" قبل 1952، والنشاط الصهيوني في "مصر" ما بين سنتي 1897 ــ 1948. كما استعرض أيضًا نماذج لتعاون بعض النخبة السياسية المصرية مع الحركة الصهيونية في "مصر"، وإتصالات ذات البعض بالقيادات الصهيونية في الخارج. بالإضافة إلى موقف بعض الشخصيات المصرية من القضية الفلسطينية عمومًا، ومن حرب 1948 على وجه الخصوص.
التعاون الإقتصادي مع "إسرائيل"
كما وثّق الفصل الفصل الأول من الكتاب لأوجه التعاون الإقتصادي لشريحة من أصحاب التوكيلات التجارية مع دولة "إسرائيل" بعد انتهاء حرب 1948؛ بهدف تعظيم أرباحهم بغض النظر عن مصلحة الوطن. مشيرًا إلى أن "إسماعيل صدقي" يُعد خير معبّر عن تعاون بعض صناع القرار السياسي في "مصر" مع الحركة الصهيونية، وأن وزارت "صدقي" كانت أكثر موالاةً للقصر وأكثر تعاونًا مع قوات الإحتلال البريطاني، وإن هذه الوزارات تأتي إلى السلطة في الغالب لضرب الحركة الوطنية بيد من حديد، حيث أنه عندما تولى "صدقي" رئاسة الوزراء سنة 1930 صادر وأغلق الكثير من الصحف الوطنية، ومارس الإرهاب والبطش تجاه الحركة الوطنية المصرية، كما أغلق جريدة الشورى، وهي الصحيفة الفلسطينية التي كان يصدرها "محمد على الطاهر"، حدث هذا في الوقت الذي أبقى فيه "صدقي" على صحيفة "إسرائيل" التي كان يصدرها "ألبير موصيري"، أحد أبرز قادة الحركة الصهيونية في "مصر". كما اشتركت حكومة "صدقي باشا" في معرض "تل أبيب" الصهيوني الذي أُقيم في ربيع 1932، متجاهلةً جميع التحذيرات والنداءات التي وجهتها إليها الأوساط الوطنية في "فلسطين".
موقف الحكومة المصرية من حرب 1948م
وعن موقف الحكومة المصرية من حرب 1948، أوضح الكتاب الذي نتناوله بالعرض الآن في الفصل الأول منه أيضًا أن الحكومة المصرية لم تكن راغبة في دخول حرب 1948، حيث صرّح رئيس الوزراء "محمود فهمي النقراشي" وقتها- في اجتماع مجلس الجامعة العربية في مطلع اكتوبر من نفس العام- أن "مصر" لو قُدِّر لها أن تحارب في "فلسطين" ستشارك فقط بمظاهرة عسكرية..وأنه يجب أن تعلم الدول العربية مقدمًا أن الجيش المصري لن يشترك في القتال، وذلك لأسباب داخلية بحتة، وأن الجيوش العربية يجب أن تعمل حسابها على هذا الأساس.
أما الفصل الثاني من الكتاب فهو عبارة عن بحث لمحرر الكتاب بعنوان "اسرائيل تحاول مع يوليو"..
مصر والمشروع الصهيونى من 1973 وحتى 1981
والفصل الثالث من الكتاب عبارة عن بحث موثق للباحث "محمد سيف الدولة" بعنوان "مصر والمشروع الصهيوني من 1973 ـ 1981". ويتناول فيه التغيرات التي حدثت في مواقف "مصر" الرسمية من الصراع العربي الصهيوني بعد حرب 1973.
وأشار الفصل الثالث إلى نتيجة مؤداها أنه قد حدث إنقلاب كامل في الموقف المصري على المستويين المبدئي والإستراتيجي: فعلى المستوى المبدئي، نجح العدوان الأمريكي الصهيوني في تحقيق نصر مبدئي عقائدي تمثل في إنتزاع اعتراف مصري رسمي بمشروعية الإغتصاب الصهيوني لـ"فلسطين"، ومن ثم اعتراف بشرعية دولة "إسرائيل". وعلى المستوى الثاني فقد نجح الأعداء في تحقيق نصر استراتيجي تمثّل في خلع "مصر" من الصراع؛ لينفردوا بمواجهة وتصفية باقي أطراف المقاومة العربية وعلى رأسها المقاومة الفلسطينية.
مسيرة التطبيع العربى الإسرائيلي
وجاء الفصل الرابع من الكتاب بعنوان "مسيرة التطبيع العربي الإسرائيلي" للباحث والكاتب "أكرم خميس"، مشيرًا إلى نماذج متعددة رآها الباحث تعد نوعًا من التطبيع ومنها على سبيل المثال لا الحصر:
ـ في 28 أغسطس 1994: وفد من رجال الأعمال المصريين يقوم بزيارة إلى الكيان الصهيوني، ويلتقي بوزير الخارجية "شيمون بيريز".
- فى يناير 1995: وزارة الخارجية الدانماركية توجّه الدعوة إلى "لطفي الخولي"، و"أحمد فخر"، و"محمد سيد أحمد"، ود. "منى مكرم عبيد"، لإجراء حوار مع مجموعة من الإسرائيليين هم: "ديفيد كمحي"، و"آموس آلون"، و"آشر ساسر" ــ مدير معهد ديان في تل آبيب ـ و"آفيشاي مارجيليت".
- لقاء جديد بين المثقفين المصريين والإسرائيليين في "كوبنهاجن"، واتفاق بين الحضور على أهمية التطبيع الشعبي لإقامة السلام في المنطقة.
- في ديسمبر 1997 : شيخ الأزهر الدكتور "محمد سيد طنطاوي" يستقبل حاخام إسرائيلي في مبنى مشيخة الأزهر، ويعلن أن ذلك لا يتعارض مع الإسلام الذي أمر المسلمين بالحوار والتسامح خصوصًا مع أهل الكتاب، مدللاً على ذلك بأن القرآن أجاز مؤاكلتهم، وأباح مصاهرتهم.
- شيخ الازهر يبيح زواج الفلسطيني من اليهودية الإسرائيلية، ويؤكد أنه لا يستطيع تحريم ما أحله الله "الراية القطرية 6 يناير 1998".
- الرئيس المصري "حسني مبارك" يستقبل عددًا من أعضاء تحالف "كوبنهاجن"، و"لطفي الخولي" يقول- بعد اللقاء: إن التحالف يسعى للضغط على الحكومات العربية و"إسرائيل" من أجل تحقيق السلام.
ـ تحالف "كوبنهاجن" يعقد مؤتمرًا بـ"القاهرة" بمشاركة أعضائه الإسرائيليين والفلسطينيين والأردنيين إضافةً إلى المصريين.
- بدء أعمال الندوة العربية لمقاومة التطبيع، والتي نظمتها "لجنة مقاومة التطبيع النقابية"، التابعة لمجلس النقباء للنقابات المهنية بـ"الأردن" بمشاركة عدد من السياسيين من العالمين العربي والإسلامي، وعلى رأسهم البابا "شنودة"ـ بابا اقباط مصر الأرثوذكس ــ و د. "أحمد الكبيسي"، والمفكر الفرنسي المسلم "روجيه جارودي".
- جمعية مفاومة التطبيع البحرينية تنتقد استمرار عمل المكتب الصهيوني في الدوحة.
- شيخ الجامع الأزهر الدكتور "محمد سيد طنطاوي" يدعو المسلمين لزيارة المسجد الاقصى؛ دعمًا للإنتفاضة الفلسطينية. ولقيت الدعوة تأييدًا على الفور من جميع أركان المؤسسة الأزهرية، بما فيها رئيس الجامعة، والأمين العام لمجمع البحوث الإسلامية، ووزير الأوقاف المصري، ومن السلطة الفلسطينية نفسها
ذرائع المطبِّعين فى زمن العولمة
أما الفصل الخامس من الكتاب فجاء بعنوان "ذرائع المطبعين في زمن العولمة" للباحثة "إيمان بسيوني أحمد"، وتنقل فيه الذرائع التي ينادي بها المؤيدين للتطبيع مع "أسرائيل"، مثل "وإن جنحوا للسلم فاجنح لها"، و"حتى نفهم اسرائيل من الداخل"، و"لا نلغي الآخر"، و"ننقل التناقضات إلى صفوف الإسرائيليين"، و"توظيف التناقضات في صفوف الإسرائيليين"، و"العرب أحوج للسلام من "إسرائيل"، و"قوى التطرف العربي هي التي تقوم باستفزاز المجتمع الإسرائيلي، وإثارة مخاوفه وتشكيكه في جدية مساعي العرب السلمية. الدولة الصهيونية ومواطنوها الإسرائيليون جيران لنا، وشركاء في الوطن والحضارة ولا مجال لتجاهلهم. ولا ينبغي للعداء السياسي أن يتحول لعداء عرقي.
ويرى محرر الكتاب أن "مصر" لا تزال بخير، رغم بعض البثور العارضة على الوجه. وليس أدل على ذلك من هذا التصدي الشعبي المجيد للتطبيع والمطبعين في أرض الكنانة.
وبرغم ما أثاره الكتاب من قضايا- وخاصة قضية مقاومة التطبيع مع إسرائيل- إلا أنه وثّق حوادث تاريخية غائبة عن البعض، ومن الممكن أن يستعين بها الدارسين لتفهم الفترة التاريخية التي تناولها الكتاب بالرصد. كما أن فكرة الرفض المُطلق للتطبيع مع "إسرائيل" تتطلب، بل وتجعل من الأهمية بمكان، عمل دراسة تحليلية سياسية بشأن التطبيع مع "إسرائيل" (ما له وما عليه)؛ لأن مساوئ العزلة- في رأيي- أكثر من منافعها، خاصة ونحن في زمن العولمة. |