بقلم: راندا الحمامصي
إن توحيد الجنس البشري كان الهدف الذي تقترب إليه الهيئة الاجتماعية. ولقد نجحت التجربة واستقرت في تحقيق الوحدة في العائلة وفي القبيلة، وفي الولاية، وفي الوطن، وصارت الوحدة العالمية غاية تناضل من أجلها إنسانية معذبة. فبناء الوطن بلغ نهايته، والفوضى الكامنة في الأداة الحكومية وصلت إلى أقصاها، وصار لزاماً على عالم يسير في طريق البلوغ أن يطرح عنه هذه المظاهر ويجرب الأداة التي تقدم له القاعدة الأساسية للحياة مجسمة. وها إن كلمات حضرة بهاءالله تكشف لنا عن هذه الحقيقة بقوله الأعز: "في هذا العصر تتموج شعوب الأرض بحياة جديدة ولكن لم يكتشف أحدٌ علتها ولم يدرك قوتها." ثم يخاطب جيله بقوله الأحلى: "يا بني الإنسان إن المقصد الأساسي للإيمان بالله والإقرار بدينه هو المحافظة على مصالح الجنس البشري وترويج اتحاده … هذا هو الصراط المستقيم والأساس الثابت القويم. كل ما يرتفع فوق هذا الأساس لن تضعضعه تغيرات العالم ولا حوادثه ولن تقوض أركانه ثورة القرون الأولى التي لا عدد لها." ثم يعلن بقوله عز اسمه: "لا يمكن الوصول إلى راحة البشر وسلامه واطمئنانه إلا بأن تتأسس وحدته تأسيساً قوياً.
" وشهادة لهذا يتفضل ويقول: "إن نور الاتحاد قوي على شأن يستطيع أن ينور الأرض جميعها يشهد بذلك الواحد الحق من عنده علم كل الأشياء، هذه غاية دونها كل غاية، وهذا الأمل سلطان كل الآمال." ثم يتفضل ويقول: "والذي هو ربك الرحمن إنه يحمل في قلبه الرغبة أن يرى جميع أفراد الجنس البشري كنفسٍ واحدة وجسم واحد، أسرع لتفوز بنصيبك من فضل الله ورحمته في هذا اليوم الذي تضاءلت أمامه الأيام." إن وحدة البشر كما رسمها حضرة بهاءالله تعني تأسيس حكومة عالمية تتحد فيها اتحاداً ثابتاً وثيقاً كافة الأمم والمذاهب والأجناس والطبقات، وفيها تكون الحقوق الذاتية للحكومات المكونة لأعضائها مكفولة تماماً، والحرية الشخصية لممثلي هذه الحكومة العالمية وتوقيعاتهم تكون محترمة نافذة.
هذه الحكومة العالمية، بقدر ما نستطيع تصويرها يجب أن تشتمل على هيئة تشريعية عالمية يكون أعضاؤها وكلاء عن جميع الجنس البشري وأن يكون لها الإشراف التام على موارد كافة الأمم التي تتكون منها، وأن تشرّع من القوانين ما تتطلبه نواحي الإصلاح وسد مطالب الأجناس والشعوب وتصحيح العلاقات فيما بينها، وعلى هيئة تنفيذية مؤيدة بقوة عالمية وظيفتها تنفيذ القرارات وتطبيق القوانين التي تضعها الهيأة التشريعية والمحافظة على هيكل وحدة الحكومة العالمية، وعلى محكمة عالمية تتولى الفصل والحكم النافذ البات في كل نزاع ينشأ بين العناصر المختلفة المكونة لهذا النظام العام.
وبجانب هذا يجب تنظيم مركز مواصلات عالمي وتخصيص جهاز للتخاطب مع كل جزء من أجزاء الأرض ويكون بعيداً عن كل تأثير وقيد قومي ويعمل بسرعة وكفاية تامة، وإعداد مقرٍ عام يكون المركز النابض لمدنية عالمية تتركز حوله كل عناصر التوحيد في الحياة ومنه تنبعث أنوار آثاره المنشطة، والاتفاق على لغة عامة تبتكر أو تختار من بين اللغات الحالية تدرس في جميع مدارس الأمم المتحدة وتكون بمثابة لغة مساعدة بجانب اللغات القومية، ونوع عالمي من حروف الطباعة والأدبيات، وشكل ونظام عالمي للعملة والموازين والمكاييل والمقاييس، كلّ ذلك من شأنه أن يسهل أسباب التعامل والتفاهم بين شعوب العالم وأجناسه. في مثل هذه الجامعة يتفق ويتعاون كلٌ من العلم والدين واللذَين هما القوتان الهائلتان في حياة البشر ويعمل كلٌ منهما في وفاق مع الآخر.
أما الصحافة في مثل هذا النظام، فبينما تعطي العالم صورة حقيقية واضحة عن الآراء المختلفة والميول والعقائد البشرية لا يجوز أن يكون لعملها صبغة التحيّز أو المنفعة الخاصة، ويجب أن تكون بعيدة عن تأثيرات الحكومات والشعوب المتنازعة. وكذلك يتعين تنظيم موارد العالم الاقتصادية باستثمار الخامات وتنظيم أسواقها وتوزيعها توزيعاً عادلاً. أما الثورات القومية والعداوات والفتن فإنها تتوقف، ويتبدل العداء العنصري والتعصب بالوفاق والتفاهم والتعاون، وتنعدم نهائياً أسباب المشاحنات الدينية وترتفع الحواجز والقيود الاقتصادية، ويختفي التمييز بين الطبقات ويجب أن يختفي الفقر المدقع من جهة، والغنى المترف من جهة أخرى، كما أن الاعتمادات الهائلة من أجل الحرب سواءً أكانت حرباً اقتصادية، أو سياسية، يجب أن تخصص لاتساع دائرة الاختراعات وتقدم الفنون، وازدياد النسل، واستئصال جراثيم الأمراض واتساع الأبحاث العلمية، والعناية بصحة الأجسام، وتنمية العقل البشري وصقله، واكتشاف ما لم يعرف بعد من ثروة الأرض وامتداد عمر الإنسان، والأخذ بكل عامل من العوامل الأخرى التي تساعد على تدعيم الحياة العقلية والأخلاقية والروحية في جميع الجنس البشري.
فنظام الاتحاد الذي يحكم على الأرض ويسيطر على ما لا يمكن تصوره من الموارد الهائلة، والذي يربط بين الشرق والغرب ويوصل بين آمالهما ويكون بعيداً عن الحرب وكوارثها، والذي يقوم على اكتشاف الموارد الإمكانية والنشاط المنتج على وجه البسيطة، نظام تكون القوة خاضعة في ظله لمبدأ العدالة، وحياته مستمدة من الإقرار العام بإلهٍ واحد والانضواء تحت لواء دين عام، لهو الهدف الذي تسير إليه الإنسانية مدفوعة بقوّة عناصر التوحيد في الحياة، وتأييداً لهذا يتفضّل حضرة عبدالبهاء بقوله الأحلى: "مِن الحوادث العظيمة المُزمع حصولُها في يوم ظهور ذلك الغصن الذي لا مثيل له، ارتفاع عَلَم الله بين جميع الشعوب يعني أن جميع الشعوب والأجناس تجتمع مع بعضها بعضاً في ظلّ هذا العَلَم الإلهي، ألا وهو الغصن الرباني ويُصبحون شعباً واحداً وينعدم العداء الديني والمذهبي وتزول البغضاء الجنسية والقوميّة وترتفع الاختلافات مِن بين الأمم ويدين كل الناس بدينٍ واحد، ويؤمنون بإيمان واحد، ويندمجون في شكل جنس واحد، ويصبحون أمّةً واحدة، يسكنون وطناً واحداً وهو الكرة الأرضية.
" وإيضاحاً لهذا يتفضل ويقول: "الآن قد وضعت يد القدرة الإلهية، في عالم الكون أساس هذا الفيض الأرفع والموهبة البديعة وسوف يظهر وينكشف بالتدريج كل ما هو مكنون في خزائن هذا الدور المقدس لأن اليوم هو بداية النمو وربيع ظهور العلامات، وعند تمام هذا القرن ونهاية هذا العصر يتضح ويتبين كم كان عجيباً ذلك الربيع ومقدساً تلك الموهبة." وإلى هذا المقام تشير رؤيا أشعياء أعظم أنبياء بني إسرائيل وفيها تنبأ -لألفين وخمسمائة سنة خلت- بما قدر للعالم أن يبلغه في مقام بلوغه بقوله: "فيقضي بين الأمم وينصف لشعوب كثيرين فيطبعون سيوفهم سككاً ورماحهم مناجل لا ترفع أمة على أمة سيفاً ولا يتعلمون الحرب فيما بعد." ثم يقول: "ويخرج قضيب من جذع يسى وينبت غصن من أصوله ويحل عليه روح الرب، روح الحكمة والفهم روح المشورة والقوة روح المعرفة ومخافة الرب، ويضرب الأرض بقضيب فمه ويميت المنافق بنفخة شفتيه." وفي الرؤيا يشير إلى المجد الألفي الذي سوف تشهد الإنسانية يوبيله بقوله: "ورأيت سماءً جديدة وأرضاً جديدة.
" فمن ذا الذي عساه يرتاب في أن تلك النتيجة -مقام البلوغ البشري- يجب أن ترمز بدورها إلى افتتاح عهدٍ للمدنية العالمية لم تر عين مثلها ولم يصل عقل لإدراكها؟ مَن ذا الذي يستطيع أن يتصور اليوم ذلك المقام الأرفع الذي سوف تبلغه تلك المدنية عندما ينكشف القناع عن وجهها؟ مَن ذا الذي يستطيع أن يقيس ذلك الأوج الرفيع الذي سوف يحلق فيه العقل الإنساني عندما يتحرر من قفصه؟ ومَن ذا الذي يستطيع أن يتصور تلك الحقائق التي سوف يكتشفها روح الإنسان عندما يتنور بنور حضرة بهاءالله الساطع بنهاية الجلوة والجلال؟
وأي اختتام أليق بذاك المقام من كلمات حضرة بهاءالله إذ يشيد بذكر عصر دينه الذهبي، وهو العصر الذي فيه يتلألأ وجه الأرض من أقصاها إلى أقصاها بأنوار جنة الأبهى إذ يتفضل عز بيانه: "هذا يوم لا يُرى فيه إلا سناء النور المشرق من وجه ربك الكريم الفضّال، قد انصعق كلّ نفسٍ بسلطاننا الغالب القاهر، ثم خلقنا خلقاً جديداً فضلاً مِن لَدّنا على الناس وأنا الفضال القديم. هذا يومٌ يصيح فيه العالم الأخفى طوبى لكِ يا أرض بما جُعلتِ كرسيّ ربك واختاركِ مقرّ عرشه العزيز. وينادي جبروت العزة نفسي لك الفداء بما استقرّ عليك سلطان محبوب الرحمن بقوة اسمه موعود كل الأشياء ما كان منها وما يكون." |