ما أكثر الحوادث والمواقف التي تمر على الإنسان، ويجب أن يتعلم منها الدروس، وقد وهب الله بعض الناس حسن الاستيعاب فتسلحوا بالحذر والجد وعدم العبث، فوصلوا إلى ما وصلوا إليه من الاحترام وارتفاع الشأن.
وبعكسهم تماما أناس ضرب الله على قلوبهم فوقعوا في مآزق متكررة، وهؤلاء الناس ليس شرطا أنهم سيئون أو أغبياء، بل بالعكس قد يكون الواحد منهم طيبا، غير أن طيبته مقترنة بشيء من السذاجة أحيانا، وهذه هي المشكلة التي قد تؤدي به إلى مطبّات غير متوقعة، وهو في غنى عنها.
ويبدو لي أنني من الفئة التي ضرب الله على قلوبها، ولست ممن وهبهم الله حسن الاستيعاب، وقد تأكد لي ذلك أخيرا من موقف ساهمت فيه، وكنت أريده (مزحة)، فتحول إلى (رزحة).
والحكاية وما فيها أنني قبل أيام قررت الذهاب إلى صلاة الجمعة، في المسجد المجاور لمنزلي، الذي أقطع المسافة سائرا إليه بمدة لا تزيد عن دقيقة ونصف بالتمام والكمال.
دخلت المسجد والإمام يقرأ الخطبة، وأديت تحية المسجد بركعتين، ثم جلست مستندا بظهري إلى الحائط أتابع الخطبة متجاوبا بالخشوع مع نبرات صوته التي ترتفع وتنخفض تبعا لمتطلبات المعاني، وما إن انتهى وأقام المؤذن الصلاة حتى نهضت وتقدمت ووقفت مع الواقفين، وكانت صلاة الإمام خفيفة كخطبته، جزاه الله خيرا.
وما إن سلمنا حتى مددت يدي للذي على يميني أصافحه، وكان أخا صوماليا، قائلا له: «تقبّل الله»، ثم مددت يدي للذي على شمالي أصافحه قائلا له أيضا: «تقبّل الله»، وما إن نظرت إليه حتى عرفته وهو عرفني كذلك، ورغم أن معرفة بعضنا ببعض سطحية جدا، فإنني من نشوة الخشوع والغبطة بعد أن أنهيت الصلاة، أردت أن أهاذره تحبّبا، فقلت له مبتسما: «ما رأيك أن تتناول القهوة عندي؟»، سألني: «متى؟»، قلت له: «الآن، فمنزلي على بعد خطوات من هنا». وما إن سمع كلامي هذا حتى فوجئت به يسحب يده من يدي بشدة ويقول لي غاضبا وهو يرفع صوته: «ماذا؟! هل تريدني أن أشرب معك قهوة في نهار رمضان؟! يا شيخ اتق الله».
الواقع أنني صدمت، حاولت أن أسكته وأسترضيه قائلا: «هل أنت بعقلك؟ هوّن عليك، هل صدقتني؟ إنني أمزح يا رجل»، قال: «هذه ما فيها مزح».
عندها طفح بي الكيل وقلت له: «الحق علي اللي تكلمت معك، وعليك أن تعلم أنني لم أعزمك سابقا في أيام الفطر حتى أعزمك في نهار رمضان، ولكن (صحيح إن العقل زينة)». فجاوبني مرددا الآية الكريمة: «وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا».
تجمع حولنا البعض، وتوجه إلينا أحدهم قائلا بصوت جهوري: «صوموا، صوموا».
أدار غريمي لي ظهره وهو يرفع كفيه قائلا: «ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا».
وقفت قليلا حائرا والدماء تغلي في رأسي، بعدها لم أملك إلا أن أردد: «لا حول ولا قوة إلاّ بالله، اللهم إني صائم».
وبينما كنت خارجا من الباب لأتناول حذائي، سمعت أحدهم وهو يهمس لصاحبه مشيرا بيده نحوي قائلا: «هذا هو الفاطر في رمضان».
بعدها قطعت المسافة من المسجد إلى بيتي في ربع ساعة كاملة.
m.asudairy@asharqalawsat.com
نقلا عن الشرق الأوسط |