من تاريخ وحضارة الأمة القبطية: عناصر وحدة الشعب القبطى:
بقلم نسيم عبيد عوض
تعتبر اللغة من أهم عناصر وحدة الشعوب , ولذلك نجد الشعب القبطى يتكلم بلغة واحدة منذ 3200 سنة قبل الميلاد وحتى اليوم , سواء كانت اللغة الفرعونية , أو اللغة القبطية والتى تعتبر الصورة المتطورة من اللغة الفرعونية واللغة اليونانية , أو اللغة العربية والتى طورها الأقباط مع لغتهم القبطية الى لغة خاصة بهم تسمى اللغة العامية ويتكلم بها كل أهل البلاد حتى اليوم وهى بالطبع بخلاف اللغة العربية الفصحى التى جاء بها العرب الى مصر عام 641م .
وقد ظل الأقباط يتحدثون باللغة القبطية الى زمن ليس ببعيد , حتى ان المؤرخ المصرى ( المقريزى تاج الدين أحمد بن على ) وهو مؤرخ من القرن الخامس عشر الميلادى , كتب فى كتابه –تاريخ الأقباط - يقول ان هناك قرى بأكملها فى الصعيد وكان قد زارها مثل ( درنكة فى أسيوط ) كانت اللغة القبطية هى لغة اهلها من الرجال والنساء والأطفال وهى ماتسمى باللهجة الصعيدية., بل وهناك بعض الآراء التى تفيد باستخدام اللغة القبطية كلغة الحديث اليومى للشعب القبطى حتى القرن السابع عشر الميلادى.
واللغة القبطية هى اللغة الأصلية للأقباط , وحيث انها الصورة النهائية للغة الفراعنة التى كانت مستخدمة منذ 3200 ق.م. لذا وجب علينا إلقاء الضوء على لغة أهل البلاد الأصلية وهى اللغة المصرية القديمة أى لغة الفراعنة أجدادنا العظماء..
كان المصريون يستخدمون فى كتابة لغتهم ثلاثة أقلام مختلفة هى:
1- الهيرغليفية.. وكانت تكتب على الأحجار والمسلات والمعابد.
2- الهيراطيقية.. وهى اللغة الخاصة بالكهنة.
3- الديموطيقية.. وكانت اللغة التى يستخدمها عامة الشعب فى كتابة عقودهم وخطاباتهم وكافة وثائقهم.
وكانت اللغة الديموطيقية هى الصورة النهائية للغة الأقباط , وقد استمر استخدامها بصورة شاملة حتى القرن الرابع قبل الميلاد , حتى جاء اليونان الى مصر بلغتهم , بعد استيلاء الإسكندر الاكبر على مصر عام 332 ق.م. واصبحت اللغة اليونانية تسود فى لغة التخاطب فى مصر , وبهذا قل استخدام اللغة الديموطيقية فى الكتابة , بل اصبح المصريون يكتبون لغتهم بحروف يونانية وكانت هى اللغة القبطية فى صورتها المعروفة لنا حتى اليوم.
ومنذ العصر المسيحى أصبح المصريون يتخاطبون ويكتبون ويصلون باللغة القبطية , بل كانت قمة إزدهار هذه اللغة فى القرنين الرابع والخامس الميلادى , وكما كانت اللغة المصرية القديمة متعددة اللهجات , كانت اللغة القبطية أيضا متعددة اللهجات بإعتبار أنها آخر تطور للغة فى مصر .
وتعددت اللهجات حسب المنطقة المنطوقة فيها كما يلى:
1- اللهجة البحيرية.. وكانت لغة الحديث المسموعة والمستخدمة فى مناطق الأسكندرية وما جاورها من الدلتا ووادى النطرون. وقد أصبحت اللهجة البحيرية هى اللغة الرسمية للكنيسة القبطية منذ أن نقل البابا " خريستوذولوس" البطريركية الى القاهرة فى أوائل القرن الحادى عشر.
2- اللهجة الصعيدية .. وكانت اللغة القبطية الأوسع إنتشارا فى مناطق مصر العليا والوسطى.
3- اللهجة الفيومية.. فى مناطق الفيوم وما جاورها.
4- اللهجة الأخميمية .. وهى التى كانت تستخدم فى منطقة أخميم.
ومع هذه اللهجات كانت هناك لهجات فرعية أخرى تسمع فى مناطق متعددة بخلاف اللهجات الرئيسية السابق ذكرها.
وفى بداية القرن الثالث الميلادى ظهرت محاولات فردية لكتابة اللغة المصرية فى ذلك الوقت بحروف اغريقية مع إستعارة سبعة حروف من الأبجدية الديموطيقية والتى ليس لها مقابل صوتى فى اللغة اليونانية.
ومع إنتشار المسيحية وسرعة إعتناقها بين المصريين وجدت محاولات فردية أخرى دفعت باللغة القبطية دفعات قوية تمثلت فى ترجمة الكتاب المقدس الى اللغة القبطية فى لهجتها البحيرية والصعيدية. ومع إزدياد مقاومة الأقباط للمستعمر البيزنطى نجد ان الكنيسة توقفت تماما عن إستخدام اللغة اليونانية فى الطقوس الكنسية , ثم بلغ النهوض باللغة القبطية قمته عندما قاد القديس شنودة الأتريبى أو الإخميمى فى الفترة من عام 451 الى 466 م نهضة قوية استهدفت تطهير اللغة القبطية من كل أثر إغريقى , حتى أصبحت اللهجة الصعيدية هى لغة الأدب فى مصر كلها , ولذلك يسمى القديس شنودة رئيس المتوحدين ببطل القومية المصرية.( وهذا رد على ماكتبه يوسف زيدان عن ان اللغة القبطية هى اللغة اليونانية وان الأقباط ليس لهم لغة خاصة بهم ) وطبعا لا يستحق الرد عليه لجهلة بما يكتبه.
وتحول المصريين من استخدام اللغة القبطية إلى اللغة العربية وتركهم لغة البلاد الأصلية , علامة إستفهام كبيرة وهو أمر مثار البحث والتقصى والدراسة حتى اليوم , لأنه أمر لم يسبق حدوثه لأى لغة من اللغات الحية ولم يحدث بهذه السهولة ان يترك أهل البلاد الأصليين لغتهم الى لغة أخرى مهما كان السبب , كما حدث بالنسبة للغة القبطية وتركها الى اللغة العربية , فعلى الرغم من كثرة المستعمرين لمصر على أيدى اليونان لأكثر من ثلاثة قرون ثم الرومان لستة قرون وحتى عام 641 م وهو تاريخ غزو العرب لمصر إلا ان المصريين ظلوا طوال هذه القرون محافظين على لغتهم الأصلية , إلا أنه مع بداية القرن الحادى عشر الميلادى أصبحت اللغة العربية موطدة قواعدها فى البلاد وعلى ألسنة كل شعب مصر, وإن كان الأقباط يتحدثون بلغتهم العامية التى هى خليط من القبطية والعربية
والسؤال المحير كيف تم استدراج المصريين إلى ذلك.. وهذا فى حد ذاته لغز محير يجب فك طلاسمه.. حيث ان العرب دخلوا بلاد كثيرة ولم يستطيعوا ان يغيروا من لغة أهل هذه البلاد على الرغم من إعتناقهم الإسلام..
وبعد استقرار العرب فى مصر ظل إستخدام اللغة القبطية فى الدواوين لمدة 65 عاما وحتى جاء الحاكم العربى عبد الله بن عبد الملك بن مروان(705-709م)واصدر مرسوم تعريب الدواوين عام 706م وأمر بتوقيع العقوبات على من لا يستخدم اللغة العربية فى الحديث ومنع تعيين غير المتعلمين للغة العربية , ومع ذلك ظلت اللغة القبطية مستخدمة ولم تتوارى عن الأنظار حتى القرن الخامس عشر كما شهد بذلك المؤرخ المقريزى والذى شهد انه رأى بلاد بأكملها تتحدث اللغة القبطية.
والحقيقة ان امر اللغة القبطية يستلزم بحثه فى مؤتمر لعلماء اللغات ليقدموا لنا التفسير العلمى لإندحار اللغة القبطية بهذه الصورة المزرية , ( وقد ناديت بعقد هذا المؤتمر منذ نحو 33 عاما ومازلت أطالب بعقده) وخصوصا وأن أصول اللغة القبطية ماتزال موجودة ومستخدمة فى الأديرة والكنائس , وهناك حركة تعليمية غزيرة فى بلاد الخارج وفى كنائسها وللعجب فان المولودين من أولادنا فى البلاد الخارجية يقبلون على تعلم اللغة القبطية , وقد شاهدت وسمعت بنفسى طفل عمرة ثلاث سنوات يتكلم ويقرأ القبطية فى احدى كنائسنا فى أميركا. ومع النهضة الكبيرة التى قادها البابا شنودة الثالث , فى الكلية الاكليريكية ومعهد الدراسات القبطية , وفتح فصول مجانية لتعليم اللغة , نأمل ان تستمر هذه الجهود لإحياء هذه اللغة الحية.
الأقباط واللغة العربية:
من الأخطاء الشائعة الربط بين اللغة العربية وبين الدين الإسلامى, وحقيقة هو لغة القرآن , ولكن انه من المعروف ان اللغة العربية هى إحدى مجموعات اللغات السامية بل ومن أقدمها , وقد كانت معروفة جيدا بآدابها المختلفة قبل ظهور الإسلام وفى الجزيرة العربية بعشرات القرون , وكان يتحدث بها كل شعوب العالم القديم وخصوصا شعوب الجزيرة العربية.. وفى النص الوارد بسفر أعمال الرسل نجد اللغة العربية واللغة المصرية " بعد حلول الروح القدس على التلاميذ .. اجتمع الجمهور وتحيروا لأن كل واحد كان يسمعهم يتكلمون بلغته. " وتساءلوا كيف نسمع نحن كل واحد منا لغته التى ولد فيها .. فرتيون و.. ومصر ونواحى ليبية.. كريتيون وعرب نسمعهم يتكلمون بألسنتنا بعظائم الله" أع 2: 5-11
وكان فى الجزيرة العربية من المسيحيين الفطاحل فى الأدب العربى شعرا ونثرا وقبل دخول الإسلام بقرون عديدة , وكلنا درسنا الشعر والنثر فى العصر الجاهلى .. ونذكر منهم على سبيل المثال وليس الحصر..
- الأخطل ( 640-708م) الشاعر العظيم ..وكان نصرانيا من بنى تغلب وكان شاعر الأمويين الخاص والجميع يعرف من هو الأخطل.
- قس بن ساعده( المتوفى عام 600 ميلادية ) كان أديبا فذا من نصارى نجران ومن أحبارها بل كان أسقفا على نجران , كان خطيب العرب المفوه , وشاعرهم وحكيمهم فى عصره , وكان قس بن ساعده من أركان سوق عكاظ الأدبية , وكان لا يبدأ سوق عكاظ فى التبارى الا بعد حضور قس بن ساعده , حيث كان يضرب به المثل فى البلاغة والحكمة والموعظة الحسنة , وقيل عنه انه أول من خطب على مرتفع فى الجزيرة العربية وأول من اتكأ على سيف أو عصا اثناء القائه الخطب والشعر.
- ورقة بن نوفل ( المتوفى عام 611م ) وهو من حكماء العصر الجاهلى , وكان نصرانيا أيضا وهو الذى ترجم الإنجيل الى اللغة العربية.
- حنين بن اسحق (808-873م ) وكان طبيبا نصرانيا من قبيلة عباد العربية ولد فى العراق , ودرس الطب فى بغداد , وتعلم اللغة اللاتينية , وعينه الخليفة المأمون على بيت الحكمة , انصرف الى الترجمة فنقل الى اللغة العربية العديد من كتب الفلسفة وخصوصا للفليسوف العظيم أفلاطون.
وهكذا كانت وحدة الشعب القبطى موثوقة ومؤيدة ومحوطة بالأرض –حيث يعيشون على كل شبر من أرض مصر – وبأصل عرقى ثابت على مدى الأزمان وبلغة واحدة يتحدثون بها. أخذوا البركة من الله العلي وينعمون بحياتهم وبتراب مصر , وفى ظل عقيدة وإيمان مسيحى ثابت ومستقيم , وفيما نلتقى فيكون حديثنا عن – دخول المسيحية مصر. ولنا لقاء . إذا شاء الرب وعشنا. |