بقلم: لطيف شاكر
اليوم إذا شئتم، يمكن لعيونكم أن تكون شاخصة إلى المُخلِّص، فحين توجِّه بالفعل نظرة قلبك الأعمق نحو تأمل المعرفة والحق وابن الله الوحيد؛ فإن عينيك سوف تعاينان الله.. إن نور وجهك مطبوع فينا يا رب.. المجد لك. (من شرح إنجيل لوقا 6:3 لأوريجانوس).
ذكرنا فى العدد السابق حكم الحرم الذى أوقعه الأنبا "ديمتريوس الكرام"- البطريرك الـ 12 - على العالم المصري "أوريجانوس"، وقد أدّى هذا الحكم إلى إشعال ثورة الإنقسام. إما مع أوريجانوس أو ضده، واستمر الجدال عليه في حياته وبعد مماته لأجيال متلاحقة، وقرون متعاقبة، وحتى تاريخه. وما زال هذا الحرم موضع إهتمام ومناقشة من كل الدارسين واللاهوتيين في العالم الشرقي والغربي بكل مذاهبه وطوائفه. ومنهم من اتهمه بأبشع الإتهامات كالهرطقة، والتحريف؛ حتى عدم صلاحيته للتعليم. والبعض حرم مؤلفاته دون شخصه، والبعض الآخر عظَّموه ورفعوا من شأنه، واعتبروه من أعظم علماء المسيحيين قاطبة في جيله وعلى مدار التاريخ الإنساني كله وحتى الآن. مقدِّرين كتبه ومؤلفاته، وروعة أطروحاته، وعمق فلسفته التي أصبحت منهجًا للاهوتيين، ودستور الفلاسفة والعلماء، وتُدرس في جميع جامعات العالم ومعاهدها العليا.
لقد احتار الجميع فيه، وتضاربت الأقوال عليه، واختلفت الآراء عنه..
ويقول المتنيح القس "منسى يوحنا": من يطالع أقوال آباء الكنيسة بشأنه، لا يستطيع أن يحكم عما إذا كان شخص "أوريجانوس" محرومًا أو غير محروم، فقط تعلم أن الكنيسة تشجب تلك الضلالات التى أذاعها الخصوم عنه.
ويؤكد الأنبا "غريغوريوس"- أسقف البحث العلمى "المتنيح" قائلاً: سيظل حرم "أوريجانوس" مشكلة معقدة لهذا الرجل العظيم ذو الصفات النبيلة..كما كتب نيافته عنه في موسوعته (الدراسات الفلسفية): الأمر الذي لا شك فيه، ولا جدال عليه، هو عبقرية "أوريجانوس"، وشخصيته الفذة التي جمعت فأوعت، روحانية عميقة، وعلمًا واسعًا، وعقلاً جبارًا، وأستاذية نادرة، ورجلاً مكملا بالفضائل الأخلاقية والذهنية والعلمية، بصورة يتيمة لا تتكرر في التاريخ، إلا في حقبة متباعدة يفصل بينها قرون وأجيال.
أسباب الحرم
تباينت أسباب الحرم على "أوريجانوس" بدون معرفة حيثيات الحكم الحقيقية لحرمه، فمنهم من خمّن أن السبب هو إقدامه على خصي نفسه، ويؤرخ "أرسانيوس" عن هذا السبب، إعجاب "ديمتريوس" بجرأته ومحبته له، وحثه على الإستمرار فى تعليم الشعب الإيمان الصحيح من خلال عظاته الجذابة. ويُضاف إلى هذا اختيار العناية الإلهية لـ"سمعان الخراز" الذى فقأ عينه عقابًا وتجنبًا للعثرة، في القيام بأهم معجزة حدثت في التاريخ الكنسي في نقل جبل المقطم. وأصبح "سمعان الخراز" ذو شهرة واسعة بل أكثر شهرة من "أوريجانوس" العالم العبقري.
وفي قول آخر، إن السبب قد يكون قبوله للكهنوت بعيدًا عن سلطة البطريرك التابع له.. وفي الحقيقة هذا إتهام سخيف؛ لإنه سُيم برتبة صغيرة مجرد كاهن متبتل لا حول له ولا قوة، وبيد تلاميذه وأساقفة أرثوذكس، وعلى علاقه وطيدة بكنيسة "الأسكندرية" ورئاستها، وكان يمكن إبطال كهنوته فقط، أو إعادة طقسه وفقًا لنظام الكنيسة التابع لها، أو عدم ترقيته أو حتى فرض قانون عقوبات عليه دون الحرم، وقطعه من جسد الكنيسة الأم، وهو عقاب قاسي جدًا لا يحمل رحمة أو محبة، بل حسد وغيرة وإنتقام، كما قال بعض المؤرخين في هذا الشأن.
بل وقد ذهب البعض إلى أن سبب الحرم، هو تعاليمه الخاطئة، والمخالفة لتعاليم الكنيسة، لدرجة اتهامه بسببها بالهرطقة، وإن صادف هذا القول قبولاً فلماذا لم يُرد على تعاليمه بالحجة والبيان، ودحض مؤلفاته بالبراهين والإثباتات، وتصحيح آرائه وتصويب أفكاره؛ تفاديًا للمشاكل التى نجمت عن هذه الخلافات؛ وتجنبًا للغط الكلام والتأويلات؟!!
ويقول أحد الآباء الكبار فى هذا الصدد: "إن الخطأ من شيم كبار الرجال، فلا نتشبث بزلات من لا نستطيع مجاراته في فضائله، ولاسيما بأن الصلاح والكمال لله فقط دون سواه."
المدافعون عنه، والمؤيدون له
قام بالدفاع عن "أوريجانوس" من جهة سلوكه وتعاليمه، كثير من علماء اللاهوت الكبار السابقين والحاليين، والذي تعتز بشهادتهم جميع الكنائس شرقًا وغربًا، وعلى سبيل المثال وليس الحصر:
- القديس "أثناسيوس الرسولي"- البطريرك الـ 20- فى تعداد البطاركة، الذي يقول عنه الآباء الكبار: عندما يتكلم "أثناسيوس" لابد أن يصمت الجميع، ولروعة وعظمة هذا القديس أطلق عليه جميع اللاهوتيين لقب الرسولي. قال هذا القديس واصفًا تعاليم وكتب العلامة "أوريجانوس" لاسيما كتاب "المبادئ" الذى يعتبر أساس المشاكل، وربما يكون السبب الأهم في حرمه؛ لخلطه الفلسفة الأفلاطونية بالفلسفة المسيحية، والذي رفع من شأنه البابا "أثناسيوس"، ودفع عنه كل التهم، وحَكم بقصر نظر من يرون فيه ضلالاً.. ولقد أشار قداسته على من يطالع هذا الكتاب، أن يفرِّق بين آراء "أوريجانوس"، وبين الآراء المناقضة التي أوردها هذا العلامة للرد عليها.
- وهذا ما ذكره "ساويرس بن المقفع" في مخطوطته من تاريخ البطاركة. ويذكر أيضًا شهادة "ديديموس" العالم عنه، إن كتاب المبادئ هو أرثوذكسي المبنى والمعنى، أما الذين يرون فيه هرطقة، قاصرون عن إدراك مكنون أسراره، وهم عديمو الفهم، ليست لهم قدرة على استيعاب الأفكار العالية والحكمة الغامضة، التي امتاز بها ذلك الرجل العظيم، الذي يُعد من النوابغ.
وهذه الشهادات غيض من فيض- كثير من العلماء اللاهوتيين، والذى لا يتسع المجال لذكرهم لكثرة عددهم، كالبطريرك "ديونيسيوس" رقم 14 لبطاركة الأسكندرية، والقديس "غريغوريوس العجايبي"، وأخوه الأسقف "أثيئودوروس"، والقديس "غريغوريوس النزينزي، وغيرهم الذين يُشار لهم بالإرثوذكسية الصحيحة، والتعاليم الصادقة. والذين حازوا احترام الجميع، ونهلوا من تعاليمهم الصافية.
وقد أسهب فى مدحه أيضًا المؤرخون الكبار، فيقول "يوسابيوس القيصرى" عنه: إن حياة هذا الرجل أفضل مفسِّر لعظاته.
وقال "موسيهم" المؤرخ عنه: إن بيانه الساحر، وعلمه الغزير، أعطته سطوة عظيمة، ولم يقم من زمن الرسل أكثر منه مناضلة وإجتهادًا في نشر المعرفة، وتفقيه المسيحيين، وتنويرهم، وتوقيرهم أمــام الجميع.
خصومه وأعدائه
أما خصومه- وهم قلة- منهم بعض أساقفة الشرق والغرب الذين لم يتفحصوا الأسباب أو الحيثيات التى أدت إلى حرم "أوريجانوس"، مكتفين بالموافقة على ما جاء بخطاب الأنبا "ديمتريوس" لهم. ومنهم من ناصبه العداء بدون معرفة أو فحص لتعاليمه مثل "أبيفانوس" الأسقف. ومنهم أيضًا من عاداه لأسباب شخصية كـ"جيروم" بالرغم من وصفه له بأنه أعظم المعلمين بعد الرسل. ومنهم أيضًا من تحوَّل من خصم عنيد إلى مؤيد شجاع مثل "ثبيوديوس"- أسقف أوليمبيا بـ"أثينا".
ومما يُؤسف له، أن البطريرك "ثاوفليس" الـ 23، الذى أوقع على "أوريجانوس" حرمًا ثانيًا بعد موته ونياحته بأكثر من (15) سنة، وكان فى أول الأمر من المؤيدين له، ويشهد بتعاليمه، ويسير على منهجه؛ إلا أنه انقلب عليه؛ ليس اقتناعًا، ولكن خوفًا وحرصًا على الكرسى؛ وتجنبًا لثورة بعض الرهبان الجهلاء الذين اتهموه بتأييد "أوريجانوس"، وله موقف عجيب الشأن فى هذا الخصوص سنذكره بإيضاح فى مكانه.
وبكل فخر وإعتزاز، يُذكر للقديس العظيم "يوحنا ذهبى الفم"، أنه مات منفيًا بسبب دفاعه المستميت على الفيلسوف "أوريجانوس" وتعاليمه وكتبه، الأمر الذى أوغل صدور بعض الأساقفة الكارهين لـ"أوريجانوس" بسبب شكاية ومؤامرة "ثاوفليس" البطريرك وسعوا لحرمه، إلا إنهم لم يفلحوا إلا بنفيه أخيرًا، وكان هذا بسبب الزود عن "أوريجانوس" المظلوم (حيث يوجد الحصي توجد اللالئ أيضًا)
وبعد أن أوردنا حكم البشر عليه، إن كان ظلمًا أو حقًا، فهو الآن بيدى الله الحاكم العادل، مصدر الحق ونبع الرحمة، عالم الغيوب وكاشف الخفايا، لا نستطيع إلا أن نقول: إن جهاد "أوريجانوس" الحسن، وسعيه الكامل، ومثابرته على العلم والتعليم، وإحتماله لشتى أنواع العذاب، يجعلنا ننحني بهاماتنا أمام هذه الشخصية الماسية بكل تقدير وإحترام؛ لأنه عالم جليل ومصري أصيل.
الروح المسيحية النبيلة لـ"أوريجانوس"
حينما صُدر قرار المجمع برئاسة الأنبا "ديمتريوس" بحرمه أثناء غيابه فى أول الأمر، وعدم حضوره المجمع المحلى المنعقد لحُرمه، ولم يُسمح له بالإعتراض أو الدفاع عن نفسه؛ إلا إنه تفاديًا لإنقسام الكنيسة وشقاقها، فضّل الصمت وهو في مقدوره تفنيد آرائهم ودحضها بشدة إزاء حيثيات الحكم، وسيكون هو الرابح الأكبر بلا شك، ولا مُنازع لكثرة تلاميذه ومؤيديه، ولعلاقته الوطيدة بالإمبراطور، ولقوة حجته وسلامة بيانه وغزارة علمه وفصاحة لسانه، إلا إنه آثر السكوت، تاركًا وطنه ومدرسته وكنيسته، وواضعًا هذا الأمر لصاحب الأمر والتدبير، بعد أن تنكَّر له البطريرك وبعض أصدقائه، وتجاهلوا عن عمد أفضاله، وتعبه المضني، وجهاده ضد البدع، وإعادة مجد المدرسة، وتعاليمه الرائعة، وتثبيته الإيمان للشعب.
كما يذكر له المؤرخون، إنه أثناء عظاته بأسقفية "أورشليم"، إذ كان يعظ عن الآيه 16 من المزمور الخمسين، والقائلة: و"للشرير قال الرب مالك تحدث بفرائضى وتحمل عهدي مع فمك"، لم ينته من قراءة هذه الآية حتى استشعر بإنها قد تؤّول على الأنبا "ديمتريوس"، وخشى أن يفهم السامعون إنه يقصد البطريرك، فأجهش بالبكاء بصوت عال، وانهالت دموعه بغزارة؛ مبينًا للشعب نيته الصادقة، وعدم قصده أحد حتى لم يقو على استكمال العظة. وقد شاركه الشعب بالبكاء متأثرًا بدموعه لفرط أحاسيسه، ونبل أخلاقه.
سأوافيكم بالمراجع المقال القادم نظرًا لطول هذا المقال..
ملحوظة: ارجو عدم التعليق إلا للإستفسار فقط حول العلامة أوريجانوس.. وأشكر السادة القراء والموقع. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|