بقلم: أنطوني ولسن
ثانيا: في أستراليا..4
ذكريات.. العمر اللي فات، هي محطة استراحة فكرية، أنزل فيها من قطار الحاضر محاولا الاسترخاء والتجوال في شوارع وحدائق حياتي. اثناء تجوالي أحكي للقارئ حكاية من هنا او من هناك.. اربطها بحكاية اخرى او حكايات. وإن إقتضي الأمر العودة إلى قطار الحاضر..
سأفعل ذلك لاستمرارية التفاعل مع الحاضر الذي سيصبح يوما.. ذكريات.. العمر اللي فات.
دعونا الآن نكمل الحكاية..
بعد إنتقالنا الى إيلاوارا رود، إلتحق الأولاد الثلاثة بمدرسة سانت بريدجز الكاثوليكية في شارع ليفينج ستون وهي قريبة من السكن الجديد ولم نعد في حاجة إلى من يذهب بهم إلى المدرسة، مثلما كان يحدث مع أول مدرسة ذهبوا اليها Public School Lewisham .
ومن الذكريات التي اتذكرها ايضا، تلك الأمسية التي جاءني فيها مدير عام المدرسة (وهو راهب كاثوليكي) وطلب مني الحديث خارج المنزل. وبالفعل توجهنا إلى السيارة التي إشتريتها بعد سنتين من وصولنا ..
جلسنا داخل السيارة وبعد مقدمة قصيرة أخبرني بان إبنتي تصاحب زميلة لها في المدرسة وسلوك زميلتها غير سليم. وإنه جاء ليحذرني.. شكرته على هذا الاهتمام والتحذير، وسألته كيف إكتشف هذا، وعرف أن إبنتي تسلك نفس السلوك؟ اخبرني أن إدارة المدرسة لاحظت ان ايام تغيب الفتاة عن المدرسة بعضا منها يتفق مع ايام تغيب إبنتي عن المدرسة أيضا. طلبت منه أن يدقق في تلك الأيام ويتأكد من عدم وجود خطاب مني يخبر إدارة المدرسة بتصريح لإبنتي بالتغيب عن الدراسة. بعدصمت قصير قال لي..
- إن كان هذا هو الواقع .. الحقيقة ستكون متغيرة جدا..
أكدت له كلامي وطلبت منه ان يستقصي الحقائق ووعدته بأنني لن اخبر زوجتي وابنتي بهذا الحديث الذي دار بيننا، بل سأنتظر مكالمة هاتفية تبلغني بها بالنتيجة، ورجوته ان يتصل بي بمكان عملي.
بعد فترة قصيرة إتصل بي وكان مبتهجا وأخبرني بوجود خطابات مني تؤكد تغيبها عن المدرسة بعلمنا والدتها وانا، وهذا امر مفروغ منه مع اولادنا لأننا نناقش سويا كل ما يتعلق بهم، بمعنى إذا أراد أحدهم التغيب عن المدرسة ماعليه أو عليها إلا إخبارنا بالسبب، وبكل صدق يخبروننا وبكل حب نناقش الاسباب ونتفق على عدم الذهاب او الذهاب إلى المدرسة. واشكر الرب على ذلك.
حديثي عن المدرسة جاء عفويا لأن هناك ذكريات اخرى سبقت ذلك الحدث، لكن كان الحديث بالحديث يذكر.
وجدت زوجتي في عملها راحة نفسية ما بعدها راحة، لم تغيب عن العمل يوما واحدا.. تعرفت على زميلات وزملاء عمل من دول اخرى غير عربية. توطدت علاقتها بشابة إيطالية مثلها حديثة عهد بأستراليا اسمها تينا وتعيش مع خالتها ام خطيبها.
في تلك الأيام أواخر 1971 وبداية عام 1972 وفي حي ماركفيل في مدينة سيدني كان عددنا كمصريين ليس بالكثير. وكانت علاقاتنا جميعا مسيحيين ومسلمين تجمعهما كلمة « الغربة». اصبح حي ماركفيل شبيه بحي شبرا في القاهرة. علل البعض ذلك لقرب ماركفيل من مطار سيدني وان وجدت بعض الاحياء اكثر قربا. والمعروف عن حي شبرا انه الاقرب الى محطة مصرللقطارات نقطة وصول ابناء مصر من اي مكان في مصر، بالإضافة إلى وجود مركز وصول (الباصات) القادمة من وجه بحري والدلتا في شارع شبرا وعلى ما أتذكر عند جامع الخازندار.
جمعتنا (الغربة) لدرجة ان احد شوارع الحي اطلق عليه (حارة العيش والملح) ومبنى باكمله سكنه مصريون. بل الاكثر من هذا تلك الثقة والمحبة بين جميع سكان العمارة وعند زيارتك لأي منهم إما ان تجده وعائلته عند آخرين أو أن تجد الآخرين عنده.
بداية جميلة ومشجعة وخففت من حدة الغربة وقسوتها لم يكن لنا كنيسة مصرية ارثوذكسية او كاثوليكية او حتى بروتستانتية ما عدا اجتماع (خلاص النفوس) والذي كان الأخ نبيل شاكر أحد الوعاظ الدائمين وما زال.. الرب يبارك خدماته.
ذات يوم زارنا مستر ديكسون راعي كنيسة المسيح الكائنة في نفس الشارع الذي نسكن فيه وتبعد عنا ببضعة أمتار. دعانا للصلاة عنده في الكنيسة، لبينا الدعوة . اسرته تتكون منه وزوجته Joy وثلاثة اولاد وبنتين.
اقول لكم الحق شعرت بإرتياح مع الرجل وعائلته وأعضاء الكنيسة الذين نظروا إلينا كمصريين نظرة احترام ، منهم من كان في مصر كجنود ومنهم من يحلم بزيارة ارض الفراعنة.
إستمر الحال في ذهابنا الى الكنيسة كل يوم احد وبدأ البعض من المصريين الذهاب معنا وصدقوني كان من بينهم مسلمين.
إتسعت خدمة مستر ديكسون مع القادمين الجدد من العرب وبدأنا نرى بعضا من الجاليات العربية الاخرى تأتي مساء كل يوم احد ومنهم ايضا مسلمين. لم يمنع مستر ديكسون أحدا من الحضور، ولم يفرض على احد الانضمام للكنيسة من المسيحيين او قبول المسيح والعمادة من المسلمين وان كانت عظاته دائما وأبدا لها صلة بأهمية قبول الرب يسوع كمخلص، طبيعي بعد القبول بالخلاص لا بد من العمادة.
توالت مجهودات المصريين لتكون لهم كنيسة قبطية ارثوذكسية في سيدني لأن البعض منهم كان يذهب الى كنيسة لبنانية في منطقة ردفرن.
صدقوا او لا تصدقوا أن من أهم الساعيين لوجود كنيسة قبطية في سيدني مسيحي ومسلم يدعمهما القنصل العام المصري في سيدني على ما اتذكر اسمه السفير كامل (عذرا لعدم تذكري الأسم بالكامل).. والمصريان كل من المرحوم الاستاذ امين صليب والاستاذ سمير حامد.
تم بالفعل التصريح لنا للصلاة في مبنى كنيسة أسترالية في حي (سيدنهام) والذي لا يبعد كثيراً عن حي (ماركفيل) ذا الكثافة العالية من المصريين الارثوذكس. وكان المتنيح قدس ابونا مينا نعمة الله اول كاهن مصري للكنيسة الارثوذكسية.
إستمر ذهابنا صباحا الى الكنيسة الارثوذكسية ومساء إلى كنيسة المسيح.
في ذلك الوقت كنت مستمرا في البحث عن طريق الوصول الى التدريس في أستراليا. وبدأ مستر ديكسون يفكر في تطوير كنيسته بإدخال ترجمة العظة الى لغات اخرى كانت اللغة العربية على رأس القائمة، تلتها اليونانية ثم الايطالية ثم الفرنسية.
نجح في الحصول على الموافقة علىمشروعه وانتقلت خدمته الى كنيسة اكبر في حي إنمور، يبعد قليلاًعن حي ماركفيل.
لكن قبل ذلك الانتقال بالنسبة لكنيسة المسيح.. ماذا حدث لنا؟!!
بالنسبة للعمل ما زلت اعمل في المصنع.. بالنسبة لزوجتي لم تستمر في العمل لإستغناء المصنع عنها وعن صديقتها الايطالية تينا.. أثر ذلك تأثيرا سلبيا عليها.. انهار حلمها وبدأت تبدو عصبية.. حاولت ان أهديء من عصبيتها، خاصة ان رفضها كان يوم الجمعة 14 ابريل/نيسان 1972.. والاشغال كثيرة في تلك الايام لمن يريد العمل.
أخبرتني زوجتي نعمة انها إتفقت مع صديقتها الإيطالية على البحث عن عمل وستكون بصحبتهما ماما صرافينا حماة تينا في المستقبل..
لم امانع وإن كنت عرضت عليها ان تستريح قليلاً لبضعة اسابيع.. لكنها لا تريد ان تنكس وعدها فقد اتفقت معهما على الذهاب يوم الاثنين 17 أبريل/نيسان 1972 الى مستشفى Lewisham وهي مستشفى خاص لربما يوجد عمل لهما هناك.
كنت قد التحقت بالكلية التقنية لدراسة اللغة الأنجليزية وقد الحقتني المديرة في فصل المتقدمين بعد ان اجرت لي إختبارا في اللغة الانجليزية. واظبت على الذهاب مرتين في الأسبوع و( الكورس) مدته 6 أشهر.
كل الامور تسير في طريقها سهلة وجميلة.. وزاد من بهجتها ان الكنيسة (كنيسة المسيح) اعطتني العمل ( بدون مرتب .. وسيأتي الحديث عن ذلك لاحقا ) كمترجم للكنيسة بالنسبة للجالية العربية عامة والمصرية خاصة مع القيام بترجمة عظة القس (مستر ديكسون) ترجمة فورية.. وقد تم بناء أربع غرف منفصلة للمترجمين.. ووضعت سماعات للمصلين الذين يرغبون الاستماع إلى العظة بلغتهم الاصلية. وكما قلت اللغات كانت العربية واليونانية والأيطالية والفرنسية.. يضع المصلي السماعات على اذنية ويدير (قرصا) به ارقام من 1 - 4 ليستمع الى العظة بلغته.. وكان الرقم 1 للغة العربية. شيء واحد أصريت عليه هو ان أعرف الآيات التي يسترشد بها القس في عظته لأقوم بإعدادها حرفيا من الكتاب المقدس باللغة العربية. كانت وجهة نظري انني لا اريد ان اخطئ في ترجمة آيات الانجيل.. اخطيء في ترجمة ما يعظه هو ليس بالشيء الهام مثل الخطأ في ترجمة نص الآية.. لأنني لا املك ملكة الحفظ (الصم).. أتذكر عندما كنا في الثانوي كنا نحفظ آبيات الشعر وآيات قرآنية ويطلب منا أن نسمعها للمدرس.. وكنت أعتمد في ذلك على زميلي المرحوم محمد عبدالله الخولي الذي يتابعني فإذا توقفت يعرف أنني في حاجة إلى (التلقين) فيسعفني بأول كلمات الشعر او الآية،وسبب لي ذلك تاثيرا كبيراً عند دراستي للحقوق. فقد اصر والدي على ان التحق بكلية الحقوق عام 1955 بعد حصولي على شهادة التوجيهية القسم العلمي بمجموع يتيح لي الإلتحاق بأي من كلية علوم القاهرة او طب الاسنان. لكن كان إختيار أبي الحقوق ، وبالفعل تم التحاقي بكلية حقوق جامعة القاهرة بناء على رغبة أبي الذي يريدني كما كان يردد (بحزام) ويقصد بذلك ما يلبسه القضاة وأعضاء النيابة من حزام يتلفح به على كتفه وحقيقة تسميته (الوشاح) على ما أعتقد. وأتذكر أيضا انه عندما تم العمل في أستراليا بوضع (حزام الأمان) لسائقي السيارات والركاب أنني كنت عندما اذهب لزيارة الأسرة في اميركا اضحك مع ابي (رحمه الله) وأقول له لقد حققت لك استراليا ما كنت تتمناه لولدك فقد أصبحت (بحزام)..
اردت ان اخفف عن زوجتي فلم اذهب الى العمل الإضافي يوم السبت وخرجنا والأولاد للنزهة.. لم تكن معنا سيارة فأخذنا القطار الى وسط المدينة (مدينة سيدني) وذهبنا الى حديقة (الهايدبارك) وحاولت إخراجها من «موود» الكآبة الذي أصبح واضحا عليها.
يوم الأحد كالعادة نستيقظ مبكرا، نتوجه الى محطة قطار ماركفيل ، نركب القطار إلى محطة (سيدنهام) لنذهب الى كنيسة العذراء مريم ومار مينا.. وفي المساء نذهب الى كنيسة المسيح الأسترالية.
في صباح يوم الأثنين 17 ابريل/نيسان 1972 خرجت الى العمل وقبل خروجي طلبت من زوجتي أن تأخذ الأمور بشيء من الهدوء وهي تبحث عن عمل هي وصديقتها تينا. إبتسمت وقالت اللي بعمله ربنا يمشي.
خرجت متجها إلى عملي (في المصنع).. سرت مسافة قصيرة، وإذ بزوجتي تناديني، رجعت اليها وكانت تطل من شباك غرفة الصالون.. لم تتكلم بل اخذت تتطلع إلَيَ وكأنها ترسم لي صورة تحتفظ بها في مخيلتها. تعجبت من نظراتها ومن طريقتها في النظر إلي وسألتها ما بها؟.. هزّت رأسها وقالت:
- خد بالك من نفسك وانتبه للعيال.
صُعقت وتسمرت قدماي في الأرض.. سألتها مرة ثانية ما بها؟.. بل طلبت منها في حدة أن لا تذهب للبحث عن عمل اليوم.. لكنها ردت علي قائلة:
- لا تقلق.. كل شيء مكتوب.. روح الرب معاك ويحافظ عليك.. روح احسن تتأخر..
لأول مرة في العمل وجدت نفسي أبكي.. شهقت شهقات عالية وأنا بين أحد ممرات المخزن، إنسابت دموعي غزيرة وكأنني أبكي على أيام مضت وأيام ستأتي. حمدت الله على عدم رؤية أحد لي وأنا ابكي هكذا مثل طفل أخذوه من حضن أمه..
في المنزل بعد عودتي من العمل، فوجئت بوجود ماما صارافينا وتينا في البيت مع الأولاد.. ولم تكن زوجتي معهم.. ظننت انها في المطبخ او إحدى الغرف..
وإلى لقاء.. وذكريات العمر اللي فات. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|