بقلم: نذير الماجد
للتحديث في "السعودية" حكاية تتسم بالخصوصية، شأن هذا الكل المركب الذي ولد عشية أول احتكاك فعلي للوعي بسؤال الحداثة؛ فتحت هذا السؤال وُلدت صياغات عديدة أنتجت سردًا سعوديًا للحكاية، السرد الذي ستنجم عنه الرواية التي تحيط الذات بأسيجة التغاير والإختلاف.
فالحداثة التي هي كلٌ "شمولي"، يحيلها السرد السعودي إلى فتات مجزأ، إلى ممارسة إنتقائية تبرّر ذاتها في سلسلة من التشوهات لما بعد الحداثة التي هي أساسًا عقلنة للتعدد، ومحاولة لدمج واستيعاب المختلف والآخر، لتصبح هنا تبريرًا لهيمنة تراثية تعود بما بعد الحداثة، إلى ما قبلها؛ حيث إلغاء المختلف ونفي الآخر.
ما بعد الحداثة ليست هي ما قبلها، حيث العقل لم يعد جوهرًا كما هو في اللوغوس، وإنما أصبح فعالية، لم يعد عقلاً محضًا كما يراه "كانط"، وإنما عقل هلامي يعيد تشكيل ذاته باستمرار. إنه مشروع مفتوح، فعالية إتصالية كما بشّر بها "هابرماس"، حداثة لم تكتمل بعد.
لكن التصور السعودي يحيلها إلى مجرد تبرير لعقل تراثي كلي وثابت، يتسم بصلاحية مطلقة. فإستعادة الروح التراثية في التوحيد هي ما تشكل تصورًا محليًا للحداثة كما تتبدى عند قامة فكرية شامخة لها قيمتها المعرفية العالية، وأدواتها النقدية المعاصرة، لكنها ساهمت في مزيد من التتريث، إن لم يكن تشويها مضاعفًا.
إن "حكاية الحداثة" عند الدكتور "الغدامي"، تتسم بسرد إشكالي للمفهوم، فالحداثة هي وعي بالزمن وتجاوز الماضي. إنها إدراك بتحديات المعاصرة، لكنها في ذات الوقت يجب أن تكون تمثيلاً أو إنجازًا للذات نفسها، وليست إسقاطًا وتماهيًا إلى حد الإغتراب بالآخر المختلف..من هنا كانت محاولة "الغدامي" في تصوره للذات، وهي تخوض معترك الحداثة.
الحداثة عند "الغدامي" ليست استعارة، بل يجب أن تكون جهدًا ذاتيًا، فهي بوصفها نشاطًا يرتبط عضويًا بالهوية، تمّثل تحولاً ثقافيًا يتموضع في السياق التاريخي. إنها في مفهوم الغدامي تمثل امتدادًا للذات، وليس قفزًا عليها، أو تأكيدًا للهوية وليس نفيًا لها.
حتى هنا لا يتجلى البعد الإشكالي. فما هو موضع تساؤل ليس في المفهوم أو التصور في حد ذاته، بقدر ما يكمن في التطبيقات. إن معالجة "الغدامي" لسؤال الحداثة في "السعودية" لا تخلو- رغم متانتها النقدية وقيمتها المعرفية- من انتقاء وتبعيض في المفهوم ذاته؛ بحيث لا تتسم بأي وحدة موضوعية أو اتساق منهجي.
المعالجة في شقها الفلسفي، وكل انعكاساته على الأدب والفكر، ليست هي نفسها في شقها السياسي، كأن رقيبًا داخليًا أمعن في تفتيت القراءة وشطرها. فالحداثة في بعديها التقني والفلسفي، هي وافد مرحّب به من نفس الرقيب الذي شطب بعدها السياسي، هذا ما نجده متجليًا بوضوح في الجولة الشيقة لـ"الغدامي" في كتابه "حكاية الحداثة".
المملكة لها خصوصيتها، هكذا يريد أن يقول "الغدامي"، وبما أنها كذلك فإن مفهومًا سياسيًا للتوحيد الميتافيزيقي، هو بحد ذاته حداثة، فولادة هذا المركب الإصطناعي في زمن التفتت السياسي للكيانات التاريخية، هي فعل جدير بوصفه بالحداثة لمجرد مغايرته للماضي المحلي، ودمج المجزأ إلى كل. هو الشكل السياسي للحداثة حتى وإن كان هذا الكل إعادة إنتاج لذات تراثية..ولكن تحويل القبائل إلى قبيلة واحدة، هو إنجاز يرضي الطموح في القرن السابع الميلادي، وليس في القرن العشرين، مع ذلك يمثل إنجازًا بمستوى عقل متفتق ونقدي، يقود إلى ما يمكنني أن أسميه: "سعودة الحداثة".
سعودة الحداثة تعني الخصوصية، وتعني ترجمةً فريدةً لمنجزات الحداثة تحيلها إلى حداثة شكلانية: استدعاء التقنية وبعضًا من المنجزات المعرفية والفلسفية والعلمية، وإهمال البعد السياسي بكل ما يحمل من نزعات صدامية، تحد من التضخم السلطوي لهذا المركب السياسي الوليد والفريد في آن معًا.
ومع أن هذه الترجمة لا يمكن- كما يؤكد الكثير من الباحثين- تبريرها معرفيًا؛ لما تتسم به هذه الأبعاد من ترابط عضوي؛ إلا أن الدكتور "الغدامي" ومعه الكثير من المثقفين السعوديين، يجد فيها تجسيدًا أمثلاً للتحديات المعاصرة.
أن تستبدل الجمل بطائرة، أو القصيدة العمودية بقصيدة نثر، يعني أنك قد أحرزت تقدمًا باتجاه الحداثة؛ حتى وإن كان الإطار السياسي هو شكل قبيلة. فلا تعارض بين أن تشيّد جامعة أو أن تقيم ناديًا أدبيًا يمجد القطيعة مع الذات التراثية، ويحيي أمسيات القصائد النثرية؛ وبين أن تعيد إنتاج هذه الذات وموضعتها في الحداثة بكل ما تحمل من مفاهيم تراثية؛ لأن تجاوز القصائد العمودية لا يستدعي وفقًا للعقل السعودي تجاوز مفاهيم تراثية عالقة كالبيعة، والشورى، والطاعة المطلقة لولي الأمر.
هذا الشكل الهجين "سعودة الحداثة"، يستدعي سلسلة من التشوهات لمفاهيم تمت سعودتها هي الأخرى، بعد أن تسللت داخل هذا المنظومة الفريدة التي تجتزئ الحداثة كما التراث، لكي تتوافق مع اللازمة التي لا يكف العقل السعودي عن ترديدها: الخصوصية السعودية.
الأشد تشوهًا من بين كل تلك المفاهيم، هو مفهوم المواطنة، فهي تمثل هنا نفيًا كليًا لصالح التجلي الراهن للسلطة السياسية، أو شكلاً من أشكال التوحد، أو إمتثالاً كاملاً لتوجه سياسي يحظى بمباركة السلطة، أو التبعية التي تلغي البعد السياسي؛ فيتحول المواطن إلى مكلَّف، مما يعني أن مفهوم المواطن ليس سوى إستعادة تراثية لمفهوم المكلف الذي يدور حول الواجب دون الحق.
إن إفراغ الشخص البشري من الصفة السياسية، هو جوهر المواطنة السعودية التي هي في الآن ذاته نوع من العبودية تلغي الذات أو الفرد لحساب المجموع المصادر لصالح مكون من مكوناته. تتضمن المواطنة المسعودة هيمنة سلطوية لا تتيح إمكانية للحياة السياسية التي هي أساسًا حُبلى بالتعدد والتنوع في الخيارات والتوجهات. إن المواطن هو فرد مستعبَد يتوهم الحرية، يعرف بوصفه مكلفًا كيف يتعاطى مع الواجب الوطني كمفهوم حديث للولاء للجماعة، وللحيز المكاني؛ لكنه لا يدرك أن ثمة بعدًا آخر للعلاقة السياسية يتمثل في الحقوق. ولأنه وعي زائف بالمواطنة؛ فإن من السهولة أن نشهد مجزرة في الحقوق لا تبقي ولا تذر.
لكن اللغة كائن متطور، هكذا يقول اللغويون، فالمواطنة التي هي مصطلح سياسي مستورد، ليست هي نفسها المواطنة في "أثينا"، حيث شهدت أول صياغة سياسية للكائن البشري. المواطن حينذاك هو الشخص الحر القادر على المشاركة والتأثير على الواقع السياسي..هذا المفهوم استمر حاضرًا في الفكر السياسي الغربي حتى عصر الأنوار، لكنه الآن لم يعد هو نفسه، خاصة بعد إلغاء الرق. مع ذلك، وبفرض حدوث التحول، فإن الخلفية الفكرية للمفهوم قادرة على كشف الصفة السياسية لعلاقة المواطنة، فالمواطن هو المشارك في الحياة السياسية، وليس الممتثل والذي عليه قائمة من الواجبات.
المواطنة هنا تعني تمردًا، تعني استقلالاً فرديًا ناتجًا عن فعل مشاركة، مما يعني اشتمالها على سلوك معارض. وكما أن المواطن هو كما رأينا ذلك الشخص الحر والقادر على المشاركة والمبادرة، كذلك فإن المواطنة- كثقافة- لا تنجم عن نزعة احتكارية أو مصادرة، وإنما يجب أن تكون ثقافة عمومية، ثقافة تستوعب في داخلها كل المكونات، إنها كالفسيفساء تتشكَّل من كل الهويات الثقافية، عبارة عن مجموع قيم عابرة للخصوصيات، وهي بوصفها كذلك، ستعنى قبل كل شيء بالحرية كقيمة مركزية، مما يعني إننا بإزاء ناظم أو شكل ثقافي، أكثر منه مضمون أو مادة ثقافية.
بيد أن الوطنية والمواطنة كأحد مفاهيم الحداثة المسعودة، تؤدي في مقابل كل ذلك إلى احتكار ثقافي واسع. فالسعودة هي استراتيجية ثقافية تسعى إلى النفي والإلغاء الممنهج للتمظهرات الثقافية الأخرى. يلاحظ الكثير من الباحثين هذه الظاهرة فيما يسمى بالتنجيد، وهو ما يشكل غزوًا ثقافيًا داخليًا، أو كما يسميه البعض: استعمارًا داخليًا. كما أن ربط المواطنة الصالحة بالمذهب السلفي، ليس سوى إعلان صارخ لممارسة التوحد التي تنتشر مفهوميًا وسلوكيًا على كل المستويات.
هذا التوحُّد الذي هو امتداد لمفهوم ميتافيزيقي للتوحيد، أو هو ترجمة أمينة له يترافق مع تشويه آخر يطال مفهومًا حداثيًا مفصليًا هو مفهوم الحق. فعلى مستوى المفهوم ليس الحق السعودي إلا تشويهًا لفكرة الحقوق التي أنجزتها الحداثة، أو في أحسن الأحوال تبعيضًا إنتقائيا لها. فالحق السياسي، والحق المدني، ليس بذي بال، أو لا يحتل أولوية في قائمة الحقوق التي أُختزلت تحت مباركة الرقيب إلى حقوق أسرية أو اجتماعية. وعلى ذلك جرى تحويل المنظمات الشكلية المعنية بحقوق الإنسان إلى جمعيات خيرية مهمتها إصلاح ذي البين، وغايتها الأساسية هي تلميع الواقع السياسي عبر حجب أي محاولة جادة لبناء مؤسسات مجتمع مدني يفترض بها أن تكون موازية للسلطة .
التشكيلات الحالية أو المفترضة للمجتمع المدني في المنظور السعودي، ستؤدي إلى حلقة إضافية من التشوهات، بحيث يصبح المجتمع المدني في المحصلة وهميًا أو مزورًا. فالمنظمات والمؤسسات التي تحول دون الإستفراد بالسلطة، تتحول إلى أداة للجم أي محاولة للتغيير. وبدل أن تكون مدعاة لضمان قدر من الإستقلالية، تذوب وتتوحد بالسلطة، بل تتحول إلى سوط أو بوق في مواجهة أي نية للإختلاف. إنها بدل أن تعزز النضج، تجعل المجتمع في حالة طفلية دائمة؛ ليتسول المطالب السياسية على طريقة العرائض والعمل الوجاهي.
إن الهيمنة الشاملة، والتضخم السلطوي، كفيل بخلق شعب من الشحاذين والمتسولين الذين يمجدون المعطي، ويدعون له بطول العمر ليل نهار؛ لأن فتاتًا من موائده كان من نصيبهم..فالحياة بحدها الأدنى، تمثل مدعاة للشكر ولحس الأحذية .
كل هذه التشوهات والتوظيفات الإنتهازية لمفاهيم الحداثة، تستهدف إضافة إلى التأجيل الدائم لإحتمالات الإحتجاج والرفض، تشكيل نوع زائف من الشرعية. الشرعية التي لا يستقر وضع سياسي من دونها، هي في الخطاب السياسي السعودي، ليست أكثر من مساومة في علاقة استعبادية.
وبما أن السياسة هي بمعنى ما مفهوم للسيطرة، فإن تبريرها يستوجب نوعًا من الشرعية، فما هي هذه الشرعية؟ يجيبنا "هابرماس": "إنها تعني الإعتقاد بأن بنى وإجراءات وأعمال وقرارات وسياسات وموظفين أو رجال دولة، يمتلكون مزايا الصحة، والملائمة، والإصلاح الأخلاقي. وبأن هذه المزايا تجعلهم جديرين بأن يتم الإعتراف بهم"
إنها وفقًا لـ"هابرماس"، تقوم على أساس الرضا والقبول في مناخ حر تواصلي، وإلا لن تكون شرعية. والشرعية ترتبط في عصر الحداثة بالسيادة، والسيادة "تشكل العقيدة المركزية التي تميز الحداثة السياسية. وقد أصبحت الدولة هي السيدة "من سيادة" وليس السلطان القابض على مفاتيحها".
هذا التصور للشرعية، يستدعي مفهومًا مركزيًا في الفكر السياسي الحديث، هو مفهوم العدالة. والعدالة تقوم بحسب "رولز" على مبدأين أساسين: مبدأ الحرية، فكل إنسان يجب أن يتمتع بنفس الحق في الحريات الواسعة جدًا المطابقة لحريات الآخرين. ومبدأ توزيع الأرباح: وهو التوزيع العادل للخيرات المادية. وقد أكد "رولز" على أن المبدأ الثاني للعدالة، يجب أن يكون متطابقًا كليا مع المبدأ الأول، أي في تطابق مع الحرية والفرص المتساوية لجميع المواطنين" (الأخلاق والتواصل، هابرماس)
إلا أن العدالة في العقل السعودي، لازالت في برجها العاجي: مجرد تصور ميتافيزيقي ليس أكثر. هكذا تفرغ كل المفاهيم من محتوياتها وصولاً لإفقار كامل للحداثة السياسية التي يجب- لغاية في نفس الرقيب الداخلي والخارجي- أن تُستبعد من كل نقاش فكري أو سياسي حول الإصلاح والتحديث. فمثل هذه النقاشات هي الأخرى تبدو زائفة ومشوَّهة. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|