لم يبق الدين فى أى زمان ومكان على حاله، بل طرأت عليه تغيرات متفاوتة الدرجة، وأصابه من شرور النفس البشرية وأهوائها الكثير، فتحول إلى صيغ عدة، نظرية وعملية، لكن هذه التحولات لا يمكن ولا يجب أن تعمينا عن الأصل أو الصراط المستقيم، لأنه يظل دوماً المرجعية والإطار الحاكم، وحائط الصد الأخير، ومكمن إنتاج الحجة والبرهان، والمظلة التى تحتمى بها طائفة ستستمر على الحق، لن يضرها من يخالفها إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها.
لكن علينا ابتداء أن نعى الفروق الواسعة بين الدين والتدين وعلوم الدين من فقه وتفسير وحديث وسيرة، فالأول يتجلى فى النص الإلهى لحظة نزوله وإثباته، والثانى ينتج من تفاعل الناس مع النص عبر تأويله والوقوف على معانيه ومراميه. وتحت ظلال التدين الذى يجد تفسيراً له أو تبريراً فى علوم الدين، تتحول الأديان إلى خمسة أشكال يمكن ذكرها على النحو التالى:
١- تحول التدين إلى أيديولوجيا: يصير الدين مجرد أيديولوجية حين يرتبط بالسلطة لدى جماعات «الإسلام السياسى»، والتى تبدأ بالمؤتلف مع الجماعة الوطنية تماماً والمستظل بأطر وأدوات الدولة الحديثة مثل «الأحزاب السياسية الإسلامية»، وتنتهى بالتنظيمات الموغلة فى الخروج والعداء مثل تنظيم «القاعدة». وحالة التوظيف الأيديولوجى للدين، طافحة فى السياسة العالمية المعاصرة، وقد ظهرت فى تصريحات بابا الفاتيكان حول الإسلام والرسول الكريم، التى تبدو جزءاً من الدور الجديد، الذى يمكن أن تلعبه الكنيسة الكاثوليكية لخدمة مشروع استعمار غربى جديد، فى إعادة محفوظة ومكشوفة لما جرى فى القرون الوسطى،
٢- تحول التدين إلى فولكلور: تصير الأديان لدى البعض نوعاً من الفولكلور، حين تتماهى فى الموروث الشعبى، فينجرح جوهرها، وتستبدل طقوسها التى تفرضها الشريعة، وتحدد طريقة أدائها فى صيغة تفصيلية، بطقوس أخرى تتعارف عليها الجماعة، وتتبناها وتدافع عنها، وتصل بها أحياناً إلى حد من القطيعة مع الطقس الأصلى، متخلية فى تفضيلها «الحقيقة» على «الشريعة» عن الالتزام التام بالفرائض. ولعل ما يحدث بالموالد يقدم دليلا ناصعا على هذا.
٣- تحول التدين إلى أسطورة: ويحدث هذا حين تختلط «أساطير الأولين» بـالعقائد والتصورات. وهذه المسألة قديمة قدم الدين والإنسان معاً، فأديان مصر القديمة والميثولوجيا اليونانية طالما زحفت إلى التأويلات المسيحية واليهودية، فعمقت الهوة بين ما أنزل على موسى وعيسى عليهما السلام وبين ما يعتقد فيه أتباع الديانتين. وفى الإسلام توسع البعض فى الاعتقاد فى كرامات الأولياء، وخلعوا عليهم خوارق الأعمال والصفات، واستسلم الشيعة لفكرة «الإمام الغائب» ولم يراجعوها إلا مراجعة جزئية ومؤقتة على يد الخمينى من خلال فرض مبدأ «ولاية الفقيه»، وتسربت الأساطير إلى علم الكلام وبعض السِّير والتصورات والأفكار الغنوصية عن الدين.
٤- تحول التدين إلى تجارة: حيث يطوع البعض النص لخدمة المسار الرأسمالى، ويبالغ فى الحديث عن الملكية الخاصة، متناسياً أو مقللاً من شأن ضرورة توافر «حد الكفاية» لكل البشر، ويغالى فى التنعم بالملذات المادية، متغافلًا عن أن الزهد من الجواهر الروحية للدين. ولم يقف الأمر عند حد الخدمة النظرية لهذا المسار، بل تجسد بطريقة مخيفة فى اتساع ظاهرة الاسترزاق بالدين، عبر تحويل علومه إلى سلعة تعرض باستمرار، سواء من خلال المطابع أو الشاشات الزرقاء.
وأدى هذا إلى تحول بعض منتجى الفقه والفتوى والدعوة إلى أصحاب ملايين، واتجهت رؤوس أموال طائلة للاستثمار فى هذا المجال، فانطلق عبر الأثير العديد من القنوات الفضائية الدينية، وتمكنت من جذب الإعلانات. وبمرور الوقت تبدأ آليات السوق تأدية دورها فى هذا النوع من الإنتاج، فينفصل تباعاً عن منشئه وجوهره وأصله، وفى هذا خطر داهم على الدين.
٥- تحول التدين إلى خطاب ثقافى سائد: حيث يتفاعل الدين مع التقاليد والعادات المتوارثة فيصبح جزءاً من الثقافة العامة للمجتمع، وتصير بعض طقوسه وتعاليمه وشفراته ولغته وكلماته وتعبيراته أمراً متعارفاً عليه حتى لدى غير المتدينين والملحدين، ويتصرف كثيرون على هذا الأساس من دون أن يدروا أو يحيطوا علماً بالجذور الدينية لهذه التصرفات.
ومن هنا نقول إن المسيحيين فى العالم العربى هم جزء من الحضارة الإسلامية، لأن مفرداتها تغلغلت فى نفوسهم وعقولهم إلى درجة يصعب عليهم التخلص منها، مهما أوتيت للبعض منهم رغبة فى الانعزال أو القطيعة أو التمرد على الرؤية الحضارية للإسلام. والأمر نفسه ينطبق على الأقليات المسلمة، التى تعيش فى كنف حضارات وديانات أخرى فى أوروبا وآسيا.
لكن هذه الطرق الخمس للعبث بالدين لا يمكنها أن تمحو أصوله وجواهره، وليس بوسعها أن تجفف المعين الصافى الذى ينهل منه أولئك الباحثون دوماً عن الدين المكتمل بنعمته التامة وصورته التى ظهر عليه لحظة البداية. والله حافظ لذكره إلى قيام الساعة.
نقلا عن المصري اليوم
|