بقلم: د. محمد مسلم الحسيني
الإخلاص في المهنة عُرفٌ أدركه الناس ودعوا إليه منذ أن وعى الإنسان على نفسه وتعايش مع بعضه، وذلك من أجل مصلحة عامة وفائدة أكيدة تعود على المجتمع.
الإخلاص في الواجب وحسن أداء الخدمة لا يقتصرا على مهنة دون أخرى، أو عمل دون غيره، إلاّ أن التركيز على التفاني والإخلاص قد يكون مطلوبـًا بإلحاح في مهنة قبل غيرها؛ فالطبابة مثلاً تعتبر من المهن الإنسانية الحساسة؛ لأنها تتعامل مع حال الإنسان وتهتم بسلامة أعضائه، وهذا ما دعى المشرّع إلى وضع قيم وأصول يجب أن يتحلى بها الطبيب ويتبعها.
فعلى الطبيب، مثلاً، أن يتعامل مع مرضاه برفق وشفقة ويعالج عدوه كما يعالج صديقه، ويسعى بكل معرفته وقدرته على إنقاذ مريضه، ولا يمس زملاءه وأقرانه بانتقاد أو تجريح أمام الملأ، وغير ذلك من سُننٍ عامة على الطبيب أن ينصاع لها ويلتزم فيها، وعلى عكس ذلك؛ فالعقوبات المترتبة عليه تتراوح بين التوبيخ والإقصاء عن مزاولة المهنة.
ومهما كانت ممارسة مهنة الطب مهمة في المجتمع، فإن حجم أهمية العمل السياسي وتأثيراته على الناس أكبر وأعم وأشمل؛ فخطأ الطبيب لا يتجاوز مريضه، وإن حصل هذا الخطأ فهو في أغلب الأحيان ناتج عن السهو أو الاشتباه، أما أخطاء السياسيين فإنها تنال المجتمع برمته، ولا تنحصر في شخص أو شخصين أو عدة أشخاص.
ورغم هذه الحقيقة وحساسية وخطورة العمل السياسي وتأثيراته على المجتمع؛ فنحن لم نسمع بوجود ضوابط ومستلزمات للعمل السياسي، أو شروط ومميزات تحدد صلاحية شخصية السياسي لممارسة عمله؛ فالضابط في الجيش، على سبيل المثال لا الحصر، قبل أن يلتحق بالكلية العسكرية عليه أن يجتاز اختبار صلاحية ممارسة الخدمة، وكذلك الحال بالنسبة للطبيب أو الحاكم أو غير ذلك من المهن الحساسة في المجتمع، كلّها تتطلب فحص صلاحية ممارسة المهنة.
السياسيون فقط يمارسون مهنتهم في الهواء الطلق بلا رقابة وبلا ضوابط! وهكذا نرى من هبّ ودبّ وقد امتطى جواد السياسة وطارد في ثناياها! رغم خطورة المهنة ومضاعفات أخطائها.
فحص شخصية السياسي ودراسة حالته النفسية والتربوية والاجتماعية والعلمية أمور ضرورية وهامة، لأن من خلالها تتحدد صلاحية السياسي في ممارسة العمل والاستمرار فيه؛ فتصرفات السياسي ومفاهيمه وأفعاله تنعكس في تأثيراتها على المصلحة الوطنية العامة بشكل مباشر أو غير مباشر، وعلى أفراد المجتمع ومصالحهم بشكل عام.
من العناصر الهامة في مركب الشخصية عند الإنسان هو ثالوثها المتمثل بالإدراك والإحساس والاستجابة، وفحص هذه الجوانب الهامة عند السياسيين أمر لابد منه لما له من فائدة تشخيصية هامة؛ لطبيعة شخصية السياسي ومعرفة حقيقة تصرفاته.
الإنسان السوي هو مَن يتسم بصحة الإدراك وسلامة الإحساس وحسن الاستجابة، والإنسان المعتل هو مَن يشكو من ضبابية الإدراك واضطراب الإحساس وتلكؤ الاستجابة؛ فالذي لا يستطيع إدراك نسب الحقيقة وتحليل أبعادها سوف لن يستطع تحسّس نوع الحاجة أو الاستجابة إليها.
أسباب اضطرابات مركب الشخصية عند الإنسان كثيرة ومتعددة، فقد تعود هذه الأسباب لدواعي تربوية أو اجتماعية أو اقتصادية أو عقائدية أو نفسية أو جينية أو عقلية أو غيرها.
الحرمان من متطلبات الحياة ولوازمها، المعاناة المستمرة والحياة الصعبة، العوز والفاقة، انخفاض مستوى الوعي، غياب الثقافة التربوية الصحيحة، الوسط الاجتماعي المعتل، الاضطهاد السياسي والنفسي، الأمراض الجسدية والنفسية المستشرية، التخلف العلمي والحضاري وغيرها من الأمور تجعل الإصابة بفيروسات خلل الشخصية سهلة ومتفشية في بلدان العالم الثالث بشكل عام.
رغم أن للخلل الفسيولوجي والجيني دورًا في صنع علل الشخصيّة، إلاّ أن الأمراض الاجتماعية والنفسيّة وتدني الحالة التربوية والوعي الحضاري لها القدح المعلّى في مجتمعاتنا في صناعة خلل الشخصيّة وعقدها.
أمراض الشخصية واضطراباتها قد تصيب السياسيين كما قد تصيب غيرهم، وتشخيص ميكانيكية هذه الأمراض عند السياسيين من خلال علاماتها وأعراضها تعتبر عملية مهمة وضرورية.
الخلل الحاصل في مركب الشخصية قد يكون في مستوى الإدراك، أو على مستوى الإحساس، أو قد ينحصر بمستوى الاستجابة فقط؛ فعندما يكون الخلل في مستوى الإدراك فهذا يعني بأن المرء لا يدرك كنه الحقيقة، أو أنه غير قادر على حلّ ألغازها وخباياها، وهكذا ستكون تحليلاته ومفاهيمه على هامش الحقيقة وليس في صلبها، فهو لا يميّز بين القشر والجوهر وبين الصالح والطالح، ولا يشعر بمتطلبات الحاجة الحقيقية ولا يستجيب إليها.
قد يتفاوت الخلل الحاصل في الإدراك في الدرجة والشدة بين شخص وآخر، فمن الناس مَن يعاني من ضبابية في الإدراك والمفهوم، ومنهم مَن يشكو من عتمة شديدة فيه قد تصل إلى درجة الوهم والضلالة، أي قد لا يدرك المرء ما قد يدركه الناس، أو قد يعتقد بأمور ليس لها وجود أو حقيقة على الإطلاق.
أما الخلل الحاصل في منطقة الإحساس في مركب الشخصيّة فقد يكون نتيجة حتميّة لخلل الإدراك أو حالة مستقلة بذاتها، وأعني بخلل الإحساس فقدان روح التفاعل أو هبوطها، حيث لا تتناسب مشاعر الإنسان مع طبيعة الحدث، ويكون هذا نتيجة لشلل في الإحساس أو ضعف فيه، ودرجة هذا الخلل قد تتفاوت من شخص إلى آخر، وذلك حسب طبيعة الحالة ومسبباتها.
فقد تتراوح في شدتها بين ضعف في مراكز الإحساس عند الإنسان أو ارتباك فيه، وبين أن تصل الحالة إلى درجة الوهم الحسي والضلالة، كما هو الحال في وهم الإدراك، فيحس المرء ويتحسس بأمور لا حقيقة لها، أو قد لا يحس ولا يشعر بواقع الحال وطبيعة الحدث الحقيقيّة.
أما ما يخص خلل الاستجابة، فهذا يعني أن المرء لا يستجيب لمتطلبات الحاجة على ضوء الموجودات، أو قد يستجيب لها بشكل جزئي أو غير مناسب؛ فلا ترتقي استجابته أو عمله لمستوى الحاجة ومتطلبات الطموح، أو قد تكون الاستجابة بعكس المطلوب تمامـًا.
العلاقة بين عناصر مركب الشخصيّة هي علاقة ترابط واعتماد، أي أن خلل الإدراك يصيب منطقة الإحساس، وخلل الإحساس يسبب إرباك في الاستجابة، بمعنى آخر؛ إن اختل الإدراك عند الإنسان فسيختل معه إحساسه وتختل أيضـًا استجابته.
ورغم هذا الترابط بين هذه العناصر فقد يكون مكان العلّة مقتصرًا على منطقة دون غيرها، حيث قد يكون الإدراك صحيحـًا لكنه لا يتصاحب مع الإحساس المناسب، أو قد يكون الإدراك صحيحـًا والإحساس سليمـًا لكن الاستجابة متعثرة أو مرتبكة، أي قد لا تحفز بواعث الإدراك والإحساس عند الإنسان محرّك الاستجابة فيه.
وهكذا فسوف نرى بين الناس من لا يدرك الحقيقة ولا يدرك العلّة وبواعثها وحيثياتها، أو قد يدركها ويفهمها جيّدًا لكنه لا يتحسس لها أو يتفاعل معها، أو قد يدركها ويتحسس إليها إلاّ أنه غير قادر على الاستجابة الصحيحة لها.
إذن مرحلة الاستجابة هي آخر وأهم عتبات سلّم التصرّف، فالاستجابة الحسنة تتطلب صحة الإدراك وسلامة الإحساس وسواء الشخصيّة، من أجل أن تنطلق وتتبلور، وعلى أي حال من الأحوال فإن الخلل الحاصل في مختلف مستويات مركب الشخصية، ينعكس سلبـًا على المجتمع من خلال التصرفات غير المناسبة وغير الطبيعية التي قد تحصل عند الشخص المعتل.
مهما كان مستوى الخلل ومكانه فإنه سيؤول إلى تلكؤ وإرباك في طبيعة الاستجابة، والاستجابة المعتلة قد تكون مخالفة لإرادات الناس أو قد لا ترتقي إلى مستوى تحقيق الحاجة؛ فالسياسي الذي يعاني من إرباك في مركب الشخصية سوف لن يستجيب بشكل صحيح لمطالب شعبه، وللمتطلبات الحقيقية التي ينتظرها المجتمع ويسعى لتحقيقها.
درجة الإرباك والشلل الذي قد يحدثه السياسي في مجتمعه تتناسب طرديـًا مع المركز الذي يشغله هذا السياسي، ومع درجة ومكان الخلل الذي يعاني منه، إنطلاقـًا من هذه الحقيقة نستطيع أن نحكم على أهمية فحص شخصيّة السياسي، والاطلاع على طبيعة حياته وتفاصيل حالته، من قِبل لجنة علمية متخصصة في الأمراض النفسية والعقلية والإجتماعية، قبل أن ينطلق في الساحة السياسية التي إن دخل فيها سوف لن يخرج منها.
فعلى ضوء هذه الحقيقة وهذا الواقع؛ فإن مجتمعاتنا بحاجة ماسة إلى سياسيين وقادة يتمتعون بصحة الإدراك وسلامة الإحساس وحسن الاستجابة، كي تكون تصرفاتهم متناسبة مع حاجة بلدهم، ومتناسقة مع تطورات المرحلة وضرورياتها. |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|