بقلم: د. وجيه رؤوف
دأب المصريون -على اختلاف ثقافاتهم وعلومهم- في مصرنا على عادة قديمة جاهلية وهي عادة الثأر ولم يؤثر التقدم العالمي حولنا في إزالة تلك العادة الذميمة من مجتمعناوالحقيقة إن عادة الثأر تتعارض مع القصاص العادل الواجب للحفاظ على الحقوق وذلك لعدة أسباب:
1 – يؤخذ الثأر من أحد أقارب الجاني وليس من الجاني نفسه وهذا قمة الظلم.
2- يؤخذ الثأر من أكثر الناس شهرة ومكانة في عائلة الجاني.
3- قد يؤخذ الثأر من قريب الجاني الذي قد يكون على خلاف مع الجاني أثناء حياته وهو غير راضِ عن سلوكه وتصرفه.
4- يؤخذ الثأر في أيام الأعياد حتى يترك أثراً أليماً عند عائلة الجاني والذين بدورهم قد لا يكون لهم دخل بالجريمة.
5- يدفع القريب دمه نتيجة جريمة لم يرتكبها بينما قد يعيش الجاني الأصلي متمتعاً بحياته.
6- قد تستمر دائرة الثأر دواليك من جيل إلى جيل يدفع تمنها أبرياء لا ذنب لهم سوى إرضاء لنزعات قبلية لم تعرف عن العدل شيء.
وتحضرني هنا قصة عن أحد المستشارين وهو رجل فاضل معروف عنه التقوى والأدب وهو ينحدر من عائلة كبيرة لها أصول وعزوة وكأي عائلة يوجد فيها الحسن والسيئ ويتصادف لهذا المستشار أن يكون له ابن عم مستهتر طائش يترنح دائماً بالخمر ويتفاخر بالسفاهات وقد حاول ذلك المستشار كثيراً في إصلاح شأن ابن عمه أكثر من مرة ولكن دون فائدة مما أضطر هذا المستشار المستقيم في عمله وحياته إلى قطع كل علاقة له بابن عمه طالما لم ينصلح حاله، وكانت القطيعة بين ذلك المستشار وابن العم الفاسد.
وتمر السنون حتى يأتي يوم وأثناء تواجد ابن العم هذا على غرزة من إحدى الغرز التي تقدم المشروبات الروحية وكان ابن العم هذا يلعب دور دومينوا فإذا بمن يلاعبه يفوز عليه في هذا الدور فتثور ثائرة ابن العم فيخرج مطواة قرن غزال من جيبه ويطعن بها زميله فيخر صريعاً مضرجاً في دمائهولم يتركه ابن العم إلا وقد فارق الحياة تماماً ويتم القبض على ابن العم الذي حكمت عليه المحكمة ببعض سنوات سجن
وهنا لم يتقبل أهل الضحية العزاء ولم يقيموا سرادق العزاء وهذه إشارة بديهية يفهمها أهل الصعيد ومعناها أنهم ينتظرون الثأر.
فيحاول أهل المستشار أجراء محاولات للصلح أو دفع دية (فدية) لأهل القتيل ولكن رفض أهل القتيل وكان ردهم على أهل المستشار: لينا عندكم راجلوكانت دهشة أهل المستشار في يا ترى من سيكون هذا الراجل الذي يأخذ فدية أمام قتيل معروف بجلساته على الغرز ومعروف عنه انحراف سلوكه وكثرة مشاكلهوتمر الأيام وبعد عدة سنوات يأتي سيادة المستشار لزيارة أهله حسب عادته لقضاء فترة أجازة عيد الأضحى بالبلدة حيث يجتمع شمل العائلة مفتخرين بسعادة المستشار قريبهم وعلامة فخرهم.
وبعد صلاة العيد فجراً يخرج سيادة المستشار بجلبابه الأبيض بعد الصلاة ويجتمع الأهالي حوله مهنئين بالعيد فيمد إليهم يده مصافحاً وعلى وجهه ابتسامة صافية بشوشة معبراً عن فرحته بأهالي بلدته وأثناء هذا يتقدم إليه البعض فيهم إليهم مرحباً فيفاجأ بالطعنات تنهال عليه من هؤلاء فيسقط مضرجاً في دمائه ويصطبغ جلبابه الأبيض بالدماء ويفترش الأرض بجسده ولازالت الابتسامة على وجهه ولسان حاله يقول: أنا ذنبي إيه!!؟؟
حسبنا الله ونعم الوكيل في هذه الموروثات القبلية الدموية الهدامةفأي ذنب فعله ذاك المستشار في حياته لكي يدفعها ثمناً لجرم لم يرتكبه؟؟ هل دفع حياته ثمناً لتفوقه واستقامته أم هل دفع حياته لأنه لم يكن منحرفاً؟؟ طبعاً لو كان هذا المستشار شخصاً تافهاً لما نظرت إليه العائلة المعادية ولكنها اختارت شخصاً مرموقاً تشخص إليه الأعين حتى يتركوا أثراً كبيراً لفعلتهم الحمقاء.
ناهيك عن بعض حوادث الثأر التي بدلاً من أن يقتل فيها شخص واحد يحدث قتل لأكثر من شخص كرسالة مثل: أخذتم مننا واحد أخزنا منكم أثنين (هو مزاد للدماء ولا إيه ؟؟!!).
ولكن إلى متى؟؟ إلى متى تظل هذه الموروثات ثابتة في مجتمعنا وإلى متى نفشل في إعلاء سيادة القانون حتى يكون القانون عادلاً وحتى يطمئن الناس إلى هذه العدالة ويعلموا أن سيف العدالة سيطول الجميع فيحتكموا إليه. |