بقلم: راندا الحمامصي
عندما يأتي ذكر الحرية على لسان الناس عادة ما يتوجهون بأفكارهم إلى الحريات الشخصية أو الإجتماعية. فحريتنا الشخصية لها مجالها في ما يتعلق بخياراتنا في ميدان الأداء والعمل، والنظرة العامة تقول بأن البالغين يجب أن يكونوا أحراراً في ما يرغبون في فعله طالما أنه لا يؤذي الآخرين، ومن هذا المنطلق فإن أموراً من قبيل اختيار نوع الطعام والشراب واللباس والعقاقير وما شابه ذلك تعدّ أموراً خاصة تعود للفرد نفسه دون غيره.
من هذا المفهوم يتحتم على المجتمع، إذا ما رغب الفرد في تعاطي الكحول والمخدرات، أن يمنحه كامل الحرية في ذلك طالما أنه لا يضرّ بالغير، وهو مفهوم نراه سائداً بشكل عام. بيد أن الأمر ليس بهذه البساطة من الناحية العملية. فالشخص الذي يتعاطى الخمور تتعدّى تبِعاتُ ذلك حدودَ حياته الخاصة. فلو أسرف في تعاطيه لأصبح تأثيره على المجتمع واضحاً وقد يتسبب في حادثة مروعة، أو أن يصبح إنساناً مدمناً وربما يصاب بأمراض مزمنة، وهي تطورات لا يقتصر تأثيرها على الشخص نفسه بل يتعداه إلى حياة مَنْ حوله في المنزل والعمل والمجتمع. فلو نظرنا في واقع الأمر وحقيقته لوجدنا أنه حتى لو تناولنا القليل من الخمر فإننا بذلك نوجّه ضربة إلى حرية إرادتنا ولو أنها بسيطة. هناك حقيقة مؤكّدة تقول بأن الكحول متى دخلت جسم الإنسان أثّرت على أداء المخ بدرجة لا يجب الإستهانة بها لأن إرادته تصبح رهن تأثيرها فور تناولها.
وهناك نظرة أخرى عامة للحرية في ما يتعلق بحقوقنا وامتيازاتنا الإجتماعية مثل حرية التعبير وحرية التجمهر والتجمُّع وحرية الإشتراك في العملية الديمقراطية. ولا شك أن ميثاق الأمم المتحدة الخاص بالحقوق، والقانون الأمريكي حول الحقوق، والميثاق الكندي لحقوق الإنسان لهي خير أمثلة على مساعي المجتمع الإنساني في توفير الحرية للفرد وحماية حقوق المواطنين. ومع كل ذلك فإن مسألة الحرية تعدّ أوسع نطاقاً وأعمق دلالة. فهي شأن تطوُّري مثل باقي أحوال البشر وشؤونهم وتقع في درجات، في مستويات ثلاثة: التحرر من قيود المطالب المادية وما يهدد البيئة في هذا السبيل، التحرر من ظلم الآخرين واضطهادهم، ثم التحرر من الأنانية وحب الذات.
إن ضحايا الجوع والمرض والجفاف والتصحّر والتغيّرات المناخية القاسية أصبحوا يعدّون بالملايين في عالمنا المعاصر، ناهيك بجموع غفيرة ترزح تحت ظلم وطغيان أقرانهم من بني البشر. وحتى في البلدان التي تسمح الأحوال الإقتصادية والإجتماعية بالتحرر من أنماط تلك المعاناة الإنسانية، نرى كثيراً من الناس لا يزالون يعيشون في أوضاع تُحتّم على الفرد فيها أن يكون همُّه الأساس منصبّاً على تأمين سبل عيشه وسعْيِه لبقائه حيّاً. فالمشرّدون في مدينة نيويورك، وأطفال الشوارع في المدن الأمريكية، والمهاجرون غير الشرعيين، واللاجئون في البلدان الأوروبية وأمريكا الشمالية، وضحايا التفرقة الإجتماعية، ثم السكان الأصليون في أمريكا الشمالية الذين يعانون سوء المعاملة، وقبائل الإنوي "Inuit"، والزنوج، والهسبانيون "Hispanics"، هم مجرد أمثلة بسيطة على أُناس يبدو ليس من الواجب ولا من الضروري منحهم حرية التطور والتقدّم وإبراز طاقاتهم وقدراتهم ومواهبهم الكامنة، والأنكى من ذلك فإن هذا الوضع المؤلم نجده في أكثر الدول ثراءً وديمقراطية، وينسحب الحال أيضاً على ضحايا الفقر والفاقة والتعصبات المقيتة والعنف بأنواعه. فهؤلاء الناس بالطبع لا يملكون الحرية في صورتها الحقيقية، ذلك لأن الحرية الإجتماعية قوامها المساواة والعدالة والوحدة وإشاعة الطمأنينة والسلام.
إن افتقارنا إلى أوضاع اجتماعية سليمة ليس مردّه عدم وعْيِنا وإدراكنا لأهميتها، بل إلى عدم ارتقائنا إلى الدرجة السامية الثالثة من أنماط الحرية وهي تحررنا من الأنانية وحب الذات. وهو نمط من الحرية يحتاجه الفرد مثل ما يحتاجه المجتمع على حدّ سواء، الأمر الذي يتطلب منا التغلب على إرثنا في جانبنا الحيواني ويدعونا إلى صبغ حياتنا بالصبغة الروحانية الإنسانية؛ نأخذ في اعتبارنا الآخرين من بني جنسنا فلا نجعل من ذاتنا محورَ حياتنا؛ أن نكون كُرَماء مضحّين لا أن نحصر أفكارنا في مصالحنا الشخصية فقط، قادرين على إرجاء إشباع متطلباتنا ورغباتنا حتى نتمكن من رؤية أنفسنا على أننا أعضاء في جسم البشرية، وأن ننبذ ممارسات تنافسية يبيحها المجتمع ويراها قيّمة وسامية حتى نكون مستعدين لتفضيل الغير على أنفسنا وقت الحاجة أو على الأقل معاملتهم كما نحب أن نُعامَل. وبالإختصار، فإن التحرر الروحي يتطلب منا نبذ كل القيَم المادية المحدودة إلى قِيَم عالمية شاملة تقوم على النبالة الكامنة في كل كائن بشري، والمساواة بين الناس، ووحدة العالم الإنساني، والإهتمام بقدسية الحياة، والتحلي بالروح الإنسانية الحقة، والسعي نحو تحقيق الغاية من وجود الإنسان. فالتحرر من عبودية النفس وحب الذات محال حصوله لو حصرنا المشكلة في تركيزنا على البحث في جذورها السيكولوجية، إذ لا بدّ من دراسة الأسباب الروحانية المؤدية إلى هذه الآفة المدمّرة أيضاً.
إن أسباب الأنانية وحب الذات تمتد جذورها إلى ما نمرّ به من تجارب تتعلق بأشياء نتخلّى عنها في حياتنا وأخرى نرفضها أو نُحرم منها، ثم تجارب جارحة تجعلنا نزّاعين إلى عدم الثقة بأنفسنا وبالآخرين وتدفعنا إلى الإنهماك بأنفسنا معتمدين على ذاتنا فقط. وحيث إن الإنسان من المُحال عليه أن يستقلّ في حياته بشكل تام، فإنه غالباً ما يلجأ إلى الإعتماد على غيره إلى حدٍّ ما، وهو ما يُعدّ جزءًا من الطبيعة البشرية في الإعتماد على الآخرين واللجوء إليهم. إننا معشر البشر في حاجة إلى بعضنا البعض في جميع جوانب حياتنا الهامة؛ بحاجة أن نُحِب ونُحَب، نتشارك في الأفكار ونتبادل المعرفة، نخدم الآخرين ونتلقى التقدير وعبارات الشكر على ما نفعل. وحتى نشعر بكياننا فإننا بحاجة إلى مَنْ يعترف بوجود هذا الكيان. إذن أصبح من الواضح أن من أجل تمتّعنا بحالة نفسية أفضل علينا أن نتوجّه نحو الآخرين أكثر من توجُّهنا نحور ذاتنا وجعلها محور حياتنا. إلا أن علم النفس، في إطاره الحديث، نجده مع الأسف يشجع التوجه نحو الذات وحصر الإهتمام بها. إنه يدعو إلى الإستسلام لغرائزنا الجسمانية وإشباع متطلباتها مبيحاً اللهاث وراء ضمان السعادة الشخصية وتركيز الإهتمام على الذات. وهو علم يجد المبررات السيكولوجية لكثير من سلوكنا في تركيزه على الذات، ولذلك غالباً ما نجد من الناس مَنْ يقول: ’نعم أنا أناني لأنني لم أجد من والديّ الوقت الكافي عندما كنت صغيراً.‘ وهو تعليل لآفة الأنانية وكأنه يجعل منها أمراً سليماً لا غضاضة فيه.
في هذا السياق بالذات تبرز واضحةً أهمية التوجّه نحو المبادئ الروحانية وتطبيقها في علاج الأنانية وحب الذات. وحتى تكون إنساناً روحانياً تعيش بشمس فضائلك الروحانية، فإن ذلك يعنى شعورك بالإنتماء للعائلة الإنسانية بكاملها وأنك خلية تعمل في جسم البشرية. فالروحانية تحررنا من قيود التنافسية البغيضة التي هي من صفات الحيوان لتصلنا بعالم الإنسانية الحقّة وبجميع المخلوقات وحتى بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا، وهي التي تضعنا في إطار الكائنات الحية وفي آفاق المعرفة وقداسة المحبة. فتجعلنا نرى خيرنا وسعادتنا في خير الآخرين وسعادتهم، وبهجتنا في سرور الآخرين وفرحهم، وأحزاننا في كآبة الآخرين ومآسيهم. وحالما نبدأ رحلة تحرّرنا من رِبْقة عبودية الأنانية وحب الذات سنغدو أكثر قدرة في الدفاع عن حقوق الضعفاء والمساكين والمسحوقين من أبناء جِلْدتنا. تلك هي الحرية التي ترنو إليها الروح وتحتاجها.
إن العائلة الإنسانية تجد نفسها الآن سائرة نحو استعادة توازنها ومنطلقة نحو التغيير الجذري، ولا يمكن للأوضاع السائدة الآن من ظلم واستبداد وتعطُّش للحرية أن تستمر. فخيار التغيير إما أن يكون نحو الفوضى العارمة أو باتجاه تأسيس مدنية عالمية إنسانية روحانية الصبغة. وعندما نسخّر إرادتنا لتحقيق منافع شخصية أكثر منها عامة لخير المجتمع فإنها ستُبتلى بالأسقام والعلل. علينا أن ندرك تماماً أن صالح الفرد وخيره يكمنان في صالح المجموعة والصالح العام، وهذا ما يجب أن يستأثر بوعينا واهتمامنا ومساعينا الجادّة على الدوام.
وعندما ترتقي إرادة الإنسان لتؤدي دورها في أعلى مراتب النضج، عندها تعمل بتناغم تام مع صفتَي الروح الأُخرييْن: المحبة والمعرفة. وكلما كان التناغم أكبر بين قوى المحبة والمعرفة والإرادة اتسع فضاء الطمأنينة والسلام داخل النفس، وإذا ما عملت هذه القوى في جو يسوده الصدق والوحدة والخدمة فإن حياة روحانية تكون قد بدأت رحلتها. |