بقلم: القمص أثناسيوس ﭼورﭺ
في تقويم الكنيسة القبطية٬ يحدث تركيز شديد الأهمية بشكل خاص على الاستشهاد والشهداء٬ وفي هذا العيد نذكر الآلام والدماء والجهاد الذي احتمله القديسون، والذي صار لنا بداية وأساسـًا للكنيسة وبذارًا للإيمان، وما زالت الكنيسة تقدم حتى الساعة شهادة الدم٬ فليس شهداء "نجع حمادي" واللاحقون لهم والسابقون ببعيدين عنا، وقد تسجلت الضيقات والتحقيرات والتعييرات والإهانات والمظالم التي أصابت عبيد الله في الذاكرة الإلهية.
لذا جعلت الكنيسة من اليوم الأول في تقويمها السنوي عيدًا لتكريم الشهداء والمعترفين٬ الذين غلبوا وانتصروا وعبروا ولم يحبوا حياتهم حتى الموت؛ فبدم شهدائك أيها "المسيح" إلهنا تزينت كنيستك منذ شهادة أبينا البكر "مارمرقس" الإنجيلي، مرورًا بشهدائك "مينا، ورفقة، ودولاجي، ودميانة، وموسى الأسود، وأبانوب، وأبسخيرون، وسيدهم بشاي، وبطرس خاتم الشهداء"٬ والشهادة مستمرة حتى يومنا هذا، ليس فقط في "نجع حمادي"، بل في بقاع كورة مصر كلها.
لكننا نعي بالروح والفكر وقد لمسنا بيقين أنك يا رب تحوّل الألم من عمل هدّام إلى قوة خلاّقة، إذ ليس منفعة أرضية من القتل والاستباحة المتعمدة التي يقوم بها ضدنا أناس من جنسنا البشري، لكننا نثق يا رب أننا عندما نتمسك بيقين الإيمان نتقوى ونمتد، وما يشل أجسادنا ويثقل نفوسنا سترفعه عنا حتى لا نتحطم٬ فنتحوّل كالسابقين الأولين من متألمين إلى شاهدين، ويصير ألمنا خلاقـًا وذبيحة عندك عندما تحمل أنت أحزاننا وتتحمل أوجاعنا بسبب معموديتنا حسب وعدك الصادق.
والآن يا رب.. في هذا العيد اذكر عبيدك الذين اُستشهدوا في العام القبطي المنقضي٬ أولئك الذين تقدسوا بتقديم شهادتهم إليك، والذين في ليلة عيد ميلادك قالوا: "ها أنذا" (إش ٨:٦)٬ "ها أنا أجيء لأفعل مشيئتك يا الله" (عب ٧:۱٠)، إنهم أبرياء ككل شهدائك لم يجتذبوا عقابـًا لأنفسهم بأية إشارة فيها كراهية أو عدوانية، لكنهم أطاعوا حتى الموت وحُسبوا مختارين حينما طُلبت منهم الشهادة على أيدي الأثمة الذين غدروا بهم وذبحوهم، لا لسبب إلا لأنهم أتباعك وحاملين صليبك وقد دُعيّ عليهم اسمك الحسن القدوس المبارك.
سكبوا نفوسهم الغضة وأعمارهم الشابة الصغيرة وصارت دماؤهم وآلامهم خلاّقة؛ لأنها بديلة عنا جميعـًا وفدية عن الكنيسة كلها٬ وقد احتفلت الكنيسة بهم وذاع خبر شهادتهم من أقاصي الأرض إلى أقاصيها، كل واحد منهم باسمه كجماعة وكأعضاء؛ إذ أن دماءهم ثمينة ومقدرة في الملكوت وعندنا نحن أيضـًا، ونحن نثق أن المبادلة والمشاركة والتلازم العميق يجعلهم يطلبون لأجلنا ويجعل لهم داخل الكنيسة مجالاً أوسع وقوة أكثر فاعلية، إذ أنهم أدرى بما نحن فيه، يضمون صلواتهم مع محفل الشهداء كي نتقوى على معايشة الشهادة اليومية التي لنا ليلاً ونهارًا وفي كل شيىء كحقيقة حاضرة.
إن شهادتكم في "نجع حمادي" وملاقاتكم للموت والغدر ثم للإهمال والظلم، يخبرنا أن شهادتنا قائمة بطول الحياة وكل يوم، وأن موتكم صاحَبَه ميلاد وقيامة٬ فلا قيمة لكل ما هو خارج "المسيح" إلهنا العنقود العظيم الذي عصروه على الصليب في تحدٍّ للعقل والمنطق والزمن.
وما زال الشيطان وأتباعه يتوهمون أنه بالصليب والموت الذي يترصدوننا به ستُقتلع كنيسة الله، لكن مسيحنا الحي وعدنا بثقة الغلبة: "ثقوا أنا قد غلبت العالم"، فثبتنا في مواجهة المشتكي والقتّال للناس منذ البدء حتى لا نرجع إلى الوراء –لا تردنا إلى خلف- وحتى لا نترك محراث ملكوت السموات٬ مهما كان الإعصار الهادر المُحمَّل بالشك والتجاديف والقتل والمطاعن المسعورة. |