بقلم: د. أحمد الخميسي
كنت أرتب كتبي كلها مؤخرًا؛ فوجدت بينها كتابـًا بعنوان: "حكايات لهانز كريستيان أندرسن"، فتحته وقرأت على صفحته الأولى عبارة بخط يدي: "انتقلت ملكية هذا الكتاب من "جمال الغيطاني" إلى "أحمد الخميسي" في التاسعة من مساء 16 فبراير 1964"!!
لابد أنني تعرفت إلى "جمال" مبكرًا جدًا، حتى أنني أذكر أنني كنت أدرس مقررات السنة الثالثة من المرحلة الإعدادية مع أخيه "إسماعيل" في بيتهم، أي أن علاقتي به تعود إلى قبل حصولي على شهادة الإعدادية!! أي أن صداقتنا تمتد لنحو نصف القرن! ولم تكن صداقة اعتيادية، فقد دخلت فيها مرحلة الصبا، واختلاط الأهل، والمشي في الشوارع، والتسكع عند سور الأزبكية، والقروض الصغيرة التي لا ترد، حتى نشرنا معـًا لأول مرة في عدد واحد قصتين في "مجلة القصة" لدى "ثروت أباظة".
وأذكر أن الكاتب الراحل نظر إلينا مندهشـًا من جرأة هذين الولدين اللذين اقتحما عليه مكتبه، ووضع كل منهما أمامه قصة وطالبه بنشرها! العجيب أن الكاتب الكبير عاملنا برفق وحب وقرأ القصتين في حضورنا وأفادنا بملاحظاته؛ بل ونشرهما، فاعتبرنا أننا بذلك من كبار الكتّاب واحتفلنا بالمناسبة! وظل خيط الصبا والشباب يربط بيننا بقوة كصلة الدم الذي لا يصبح ماءًا، رغم مرور السنوات الطويلة بهمومها حتى عدت للقاهرة؛ فعرض عليّ "جمال" أن أكتب لأخبار الأدب وقال لي: اكتب ما تريد.
لم نكن نلتق كثيرًا مؤخرًا بحكم مشاغل الدنيا وزحمتها، لكن كما يقول المثل الشعبي: "لا البُعد جفا، ولا القرب وفاء".
ومرض "جمال الغيطاني" مرة وأنا في الخارج فاهتززت بعمق، وتصورت أن قوة غشيمة تحاول أن تنتزع مني أفضل سنوات عمري، الآن يُعالج "الغيطاني" في "أمريكا" ويتماثل للشفاء بعد عملية قلب، ويتخطى المرض بصلابة الرجل الصعيدي، وبشعوره بأن محبة أصدقائه وأسرته العميقة تحيط به وتدفع عنه كل داء.
الآن، أشعر مجددًا أن "جمال" كان ومازال إحدى هدايا العمر، بعد أن أمسى الأصدقاء القلائل الذين قطعوا معي مشوارًا طويلاً في الزمن، وفي القلق، وفي الأمل، هم كل شيئ، ويقول المثل الشعبي: "الخيل الأصيل يشد في الآواخر"، الصداقة أيضـًا تظهر صلابة معدنها حينما يقارب الشوط على الانتهاء، ويكون عليها بكل السبل أن تفوز بالمعنى الذي يصبح الوجود معه: منطقيـًا وإنسانيـًا وآمنـًا ومطمئنـًا.
قليلون في حياتي مَن تعتقت صداقتهم كالخمر من الزمن، قليلون من أراهم هدية العُمر: "جمال الغيطاني، وأبو بكر يوسف، وحسام حبشي، ومحمد المخزنجي". أصغرنا "حسام حبشي"؛ لأنه لم يتم الستين بعد، وأكبرنا "أبو بكر" الذي تجاوز السبعين بقليل.
"حسام حبشي"، و"أبو بكر" من الصداقات التي نَمت في الصقيع الروسي، وقاومت الثلوج، وتفتحت رغم كل شيئ، "المخزنجي" أيضـًا تعود علاقتي العزيزة به إلى فترة وجوده في "الاتحاد السوفيتي"، وهي صداقات تمتد ما بين ثلاثين إلى أربعين عامـًا كاملة، ساعدتني كل صداقة منها بطريقتها الخاصة في التشبث بأن العالم خيّر، وإنساني، وصالح لحياة البشر.
أحيانـًا يبدو لي أولئك الأصدقاء مثل بيوت مختلفة أستريح في كل منها وقتما أشاء، "حسام حبشي" مثل بيت على نهر، حيث يمكن أن أمد ساقي في الماء وأستريح، وأسرح، وآكل، ونتذكر كل النكات التي نعرفها ونضحك لها من جديد؛ فأشعر أني مع أخي.
"أبو بكر يوسف" يبدو لي مثل بيت في قلب مدينة عريقة، حافلة بالأفكار والنقاش والكتب، من دون أن يفقد البيت خفق قلبه الذكي العامر بالمحبة للآخرين والعالم.
"المخزنجي" بيت معلق بخيط بين الأرض والسماء، يهرب إلى السحاب، معتذرًا لأنه ليس كائنـًا أرضيـًا مئة بالمئة، فأقبل بخيالاته المجنحة.
كل منهم عزيز جدًا بطريقة خاصة، وعبر زمن طويل جدًا.
أما "جمال"؛ فيبدو لي كأنه بيت من طفولتي، وصباي، وشبابي، كأنه البيت الأول، وحين يمرض "جمال" تجري نحوه كل مشاعري بالمحبة والدعاء، ندعو له من صميم القلب أنا وأصدقاء عمري، معـًا، بنفس واحد، أن يعود إلينا سالمـًا، معافى، قويـًا، ومبدعـًا. |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٠ صوت | عدد التعليقات: ١ تعليق |