بقلم: راندا الحمامصي
كانت بداية القرن التاسع عشر خاتمة عهد من تاريخ الإنسانية، ملئ بالحروب والثورات الوطنية والفكرية, وواكبه الانقلاب الصناعي والتطور الاقتصادي، وابتدأ بذلك عهد جديد, ما زال إلى اليوم في سبيل التكوين والاستقرار، مُبشرًا بحضارة تمضي بالإنسانية نحو السمو على أسس روحية، وصار للاكتشافات العلمية والصناعية أثر بعيد على صناعة الحرب, إذ أُستعملت الآليات والطائرات والكيماويات في الحروب الحديثة بكثرة ومغالاة وفظاعة لم يسبق لها مثيل، مما أدى إلى خراب مستحكم وقتل ملايين البشر بالجملة، وخلّفت الحروب بين معظم الأمم عداوات مستحكمة لم يبرأ العالم من شرورها للآن، ولقد تعددت المبادئ والنظم الداعية إلى حل هذه المشاكل، متوخية السلم العام، ولكن دون جدوى، بل أسفرت في النهاية عن نتيجة سلبية لا تحسد عليها؛ فلم يفـد الناس منها فـتيـلاً.
والمؤسسات القديمة تدلل كل يوم بعجزها عن مواجهة المشاكل العالمية، بعجزها وإفلاسها وقصورها عن ان تكون مناطـًا لآمال الناس وملاذهم، ومع ذلك فالكل يترقبون ظهور ذلك اليوم الذي يتقرر فيه نظام عالمي جديد يدعو إلى الوحدة والسلام, كعامل أساسي لتحقيق سعادة البشرية وجميع حقوق الإنسان بضمانات قوية, وقد اشتد الطلب أخيرًا بعد الحربين العالميتين الأخيرتين, وبالتالي اشتد البحث عن نظام جديد يحمل في ثناياه الدواء اللازم لتضميد جراح الإنسانية المهلهلة الخائفة, إنسانية تسيطر عليها تيارات هدامة جامحة وأفكار رجعية عنيفة وأخرى متهورة متطرفة طائشة, أو غـير مبـالية، لاهـية.
إن النجاة الحقيقية متوقفة على توجه الإنسانية للدعوة الإلهية الجديدة -آلا وهي الـبهـائـية- وفيها الكفاية لما تصبو إليه البشرية وما يوافق مشارب جميع الناس، وفيها الضمان الكافي لسلم عالمي وطيـد الأركـان.
وقد أوضح "عبد البهاء" -المبين لتعاليم حضرة "بهاء الله" المظهر الإلهي للدين البهائي- أن هذا الأمر روحاني محض، يمنع الحروب والجدال والنزاع بين القبائل والأمـم، وأن مبادئ جديدة كهذه ضحى آلاف من الناس بحياتهم على مذبحها؛ لدليل صادق على قداسة مصدرها وقوة تأثيرها وثبات فاعليتها، ولم يعلم الناس ما في هذه الدعوة من خير لفتشوا عن الحقيقة غير مراعين عرفـًا ولا تقليدًا.
ويقينـًا.. فإن الباحث المدقق المُنزَه عن الغرض، لابد أن يصل إلى النتيجة الحتمية الكامنة في هذا الدين الجديد، وهي أنه ليس جديدًا بالمعنى المألوف, بل استمرار وتطور الوحي الإلهي في صورة أوضح ومدى أشمل, وداعٍ إلى تجديد الهيئة الاجتماعية غير ناقضٍ لما سبقه من الأديان أو ناسخ لكتب الله المقدسة, بل مضيفـًا لها بعض الحقائق الثابتة وموسعـُا لقاعدتها، وجامعـًا لأصولها في ثوب جديد وبأسلوب أشمل مناسب لهذا العصر، الذي يؤمن بقيمة الزمن.
ولسوف تثبت السنون القادمة أنه لا مناص للعالم من تعاليم "بهاء الله" التي تتغلغل في جميع الأوساط في كافة أرجاء هذا الكوكب، وبخطى ثابتة وطيدة، وتبرز للعيان بشكل ظاهر معلنة أنها "يوتوبيا" جديدة عملية لعصر جديد, خصوصـًا بعد أن اتضح إفلاس وخلل معظم المدارس الفكرية والمبادئ الاجتماعية المادية الحاضرة، وعجزها المخجل المتراكمة المتزايدة التفاقم والتشابك.
والبهائية ترى أن المنوط بحل المشاكل الإنسانية في العصور المختلفة هو الله وحده، بواسطة رسله المختارين الذي يوكل لهم مهمة تغيير طبائع البشر وهداية النفوس وتطهير القلوب واجتذابها إلى الحق.
وقد بيّن "بهاء الله" -المظهر الإلهي للعقيدة البهائية- أن الدين هو السبب الأعظم لتنظيم العالم, واطمئنان من في الإمكان، وأن ضعفه يزيد في قوة الجهّال وكثرة الهـرج والمـَرج والاضطراب والمفاسـد.
ومن أظهر وأهم أسس هذا الدين هو إيجاد بيت العدل الإلهي العالمي، الذي يرعى حقوق جميع سكان المعمورة ويطبق مبادئ العدالة والإنصاف، متوخيـًا في ذلك المساواة التامة بين البشر كافة، ومراعاة توخي الحكومات العدل والحق في قيامها بتطبيق الشرائع والأحكام وفرض السلام العام، وتقييد التسليح والتجنيد بما يحتاج إليه صون السلام فقط, ومنع الحروب العدوانية، ويؤسس محكمة عالمية عليا تقوم بحسم النزاع بين الدول وتصفية ما أُشكل من أمور.
وعالم الغد، تُطبق فيه مبادئ التسامح والمحبة والإخاء العام, وتُنبذ فيه التعصبات بكافة أشكالها، حتى يتحقق حلم البشرية فيما أسماه "بهاء الله" بـ"الصلح الأكبر" بين جميع الأمم والمِلل، والذي وعد به الرسل والأنبياء السابقون، وتخيله الشعراء، وحلم به الفلاسفة، وبيّنَه "بهاء الله" في ألواحه.
والسلام بحسب الوضع الذي يحدده يتحقق بنفحة روحانية رحمانية في هيكل العالم, فتتأسـس وحدة بني الإنسان ويتخلص العالم من أسباب الهلاك والدمار، في عصر يسر المواصلات وتقارب الشعوب.
وشعار العمل الجديد: "الوحدة في التنوع, وترك المركزية المفرطة، أو التوحيد الصِرف الذي يؤدي إلى الخلط والدمج".
وهذه الأسس الواضحة تشير إلى كمال التطور الإنساني المرتقب, الذي سوف تبلغه الإنسانية بعد رحلتها القاسية، والتي بوصولها إليه تكون قد نهضت وسمت إلى مرتبة منقطعة النظير في الرقي المستمر.
وقد ظهرت دلائل شتى تثبت بوضوح وجلاء سير العالم قدمـًا نحو تحقيق هذه الأهداف السامية المنبعثة بقوة, من الروح الإلهي الفائض على العالم, والتي دلت على ضرورتها ولزومها لإصلاح مدنيتنا وتوحيد العالم روحانيـًا وإداريـًا واقتصاديـًا وعلميـًا ولغويـًا, وتجديد هيكل الحياة الاجتماعية.
وليس من كفيل بهذا كله، إلا القوة الإلهية المحيطة العالِمة المدبِرة الخبيرة بمواطن الضعف وطرق العلاج والإصلاح, وتوافر الشروط لنفعها وتطبيقها.
إن العالم إذا استحال إلى صورة موحدة متحدة من النظام والاتجاهات، يكون تربة صالحة لازدياد هذا النضج، وإن الفرصة سانحة في الوقت الحاضر وسوف تتمخض حتمـًا عن هذا النظم الجديد الدقيق؛ فيتم البناء الإلهي النهائي الأشـم في هذا الصرح المشيد في القلوب والمتأصل في الأفكار, التي ترنو لتحقيق اعظم حضارة لذلك العصـر الذهـبي المنتـظر، وليس كـفيل بإبراز هذه الحقيقة إلا ما دُوِّن من قلـم "بهـاء الله"، وبيـانات "عبـد البهـاء"، وإرشـادات "شـوقي أفنـدي".
وكلـها آثـار نـاطـقة بعـالمـية هذا الأمـر وجـدارته بإرسـاء الحضـارة الجـديدة التي يترقـبها نَـيِّرو العـقول بتلـهـفٍ وشـوقٍ زائــد. |