CET 00:00:00 - 17/09/2010

مساحة رأي

بقلم: القس أيمن لويس
قرأت ما كتبه الأستاذ الكبير "صلاح منتصر" فى عموده اليومى (مجرد رأى) بجريدة  الأهرام يوم الخميس 24/6/2010.  ورغم أن المقال كُتب منذ عدة أشهر، إلا أن الشرارة التى أحدثها الكاتب الكبير لم تنطفىء داخلى، فقد قدّم مقارنة بين "مصر" و"كوريا الجنوبية" فى الحقبة من 1960 حتى اليوم من حيث التطور والتقدم . والمقارنة موضوعية ومنطقية، فكما ذكر الأستاذ "صلاح" من المفارقات أن "كوريا" و"مصر" كانا يقفان فى عام 1960 على خط واحد تقريبًا..كان عدد السكان فى كل منهما (25) مليونًا، ومتوسط الناتج القومى للفرد (200) دولار تقريبًا..مساحة "مصر" مليون كم مربع، أما مساحة كوريا (100) ألف كيلو متر مربع فقط ". وكلا البلدين واجه نفس الظروف والمشكلات السياسية والإجتماعية والإقتصادية، مثل خوض الحروب  والأمية ..إلخ. وإن كان موقف "مصر" إقتصاديًا أفضل حالاً.
 
 فى الحقيقة كلام الأستاذ الكبير جعلنى أشعر بالحسرة، وأصابنى بالغم والهم والإكتئاب والدعاء بالمغفره لمن كانوا السبب، فالفارق اليوم شاسع بيننا وبينهم، فالأولى تقفز بخطى واسعة وسريعة نحو التقدم وملاحقة دول العالم الأول المتقدمة، بينما ننحدر نحن بسرعة هائلة على كافة الأصعدة والمستوايات.
 
وعودةً لما كُتب بالمقال، فالناتج القومى للفرد اليوم بـ"كوريا" (17800) دولار فى العام، بينما فى المحروسه (1915) دولار. كما نعلم جميعًا مدى التفوق والتميز الذى حققته "كوريا الجنوبية" فى الصناعة بأنواعها. ويكفى إنه لا يخلو منزل فى "مصر" لا يوجد به شىء مكتوب عليه صنع فى "كوريا"، كما وأن شوارعنا مكدَّسة بأعلام "كوريا"! . "بينما مصر عليها (34) مليار دولار، فإن لـ"كوريا" (62) مليار استثمارات فى الخارج".  
 
ليس عيبًا أن يحدث نوع من التراجع أوالنكسة لشعب من الشعوب، فقد حدث لكثير من قبلنا. وإن حدث يجب أن يكون لفترة من الزمن مثل ما حدث لـ"اليابان" و"كوريا". لكن العيب والعار الاستسلام. وبينما بحَث الآخرون ونجحوا، نستمر نحن فى التراجع.
 
 وفكرة المقارنة لتقييم الوضع التى طرحها الكاتب فى المقال، سبق وقدّمها العبقرى الراحل "توفيق الحكيم" للفترة التى سبقت الفترة التى نتحدث عنها مع "فرنسا"، وطبعًا لم تكن فى صالحنا على الإطلاق فى كتابه "مصر بين عهدين"، ومن قبلهما الشيخ "محمد عبده".
 
وبينما الأستاذ "صلاح منتصر" منشغلاً بنهضة "كوريا المدنية" مشيرًا أن من أهم أسباب نهضتهم اهتمامهم بالتعليم، حتى إنه لم يعد لديهم أمية على الاطلاق؛ كنا قد انشغلنا نحن المهتمين بالشئون الدينية بنهضة روحية أخرى حادثة فى نفس البلد،   مبتدأه فى نفس الوقت مع النهضة المدنية!! فقد كان تدفق الكوريين لاعتناق الايمان المسيحى لافتًا للنظر، فرغم أن الرسالة المسيحية بدأت فى "كوريا الموحدة" آنذاك سنة 1880 م تقريبًا من خلال المبشرين الأمريكان الذين دفعوا الثمن الغالى،  كما استشهد الكثير من المسيحيين الكوريين الأوائل المتحولون من الكنفوشسية، إلا أن العمل الكرازى لم يتوقف، بل بدأ يتسع العمل التبشيرى فى كل أنحاء "كوريا"، ولا سيما الحملات الجماعية التى بدأها المبشر القس "بى أى سيوم" سنة 1949م.

  كما قام هؤلاء المبشرون بترجمة الكتاب المقدس للكورية بداية باـ"إنجيل يوحنا". ولكن بداية افتقاد النعمة الإلهية الحقيقية والحصاد، كان مع بداية الحملات التبشيرية للقس "بلى جراهام" سنة 64،57،56 والأخيرة كانت بداية النمو الكنسى، وقد شارك بالحضور فيها (3) مليون و(700) ألف شخص. وقد آمن وقبل المسيح فيها (37455) شخص فى مدينة "سيول" فقط. ويذكر د. "لى مان بول" إنه كان يزداد التفاف الكوريين حول هذه الحملات، وكان خلال حقبة الستينات يعتنق المسيحية فى حدود مئة ألف شخص سنويًا! حتى أصبح عدد المسيحيين الكوريين مع بداية السبعينات أكثر من (2) مليون.  وأخذ العدد فى التضاعف حتى وصل مع نهاية السبعينيات (6) مليون،  واليوم تعداد "كوريا" خمسون مليون نسمة، وعدد المسيحيين (12) مليون ونصف. وللمزيد من المعلومات يمكن الرجوع لكتاب (المسيحية الكورية وحركة التوحيد الوطنى 2001) مركز التاريخ المسيحى الكورى.
 
ومن الإحصائيات الرسمية الكورية أن عدد المسيحيين سنة 1950 كان (500198)، وعدد الكنائس (3114) ، وسنة 1960 كان عدد المسيحيين (623027) وعدد الكنائس (5011)،  وفى 1970 أصبح عدد الكنائس (12866)، وفى 1980 وصل عدد الكنائس إلى (21243)، وفى سنة 90 إلى (35819) كنيسة، حتى وصل سنة 96 إلى (58046) كنيسة، وعدد المؤمنين (8) مليون و(760336). وهكذا نرى مقدار النمو الروحى المسيحى، وما نتج عنه من نشاط وحراك، وإن كانت "كوريا" اليوم رقم واحد فى العالم فى صناعة السفن، ورقم خمسة فى صناعة السيارات، وستة فى الصناعات الإلكترونية، فهى أيضًا اليوم من دول الريادة فى الخدمة المسيحية.
 
 وفى مجال بحثنا عن عوامل التقدم، ومن خلال ما سبق ذكره، يصبح من اللازم التطرق للنظر فى الحاله الدينية لكلا البلدين؛ حيث أن كلاهما كانا يقفان  على خط واحد فى نفس التوقيت من جهة الانجذاب للتدين وتصاعد المد الدينى. فيكون السؤال: هل هناك علاقه بين النهضة الدينية الروحية والنهضة المدنية الحضارية؟ وهل كان للحركة الدينية تأثير على برامج التنمية والتقدم، وما يحدث فى المجتمع فى شتى المجالات؟ وعندما نصل إلى هذه النقطة، ونتحدث فى هذا المجال، إنما نفتح الباب أمام قضية بحثية خطيرة وحساسة، ولكنها هامة، وهى علاقة الدين والحضارة.

وهل يوجد فعلاً ما يسمى بالحضارة الدينية مثلاً (الحضاره المسيحية أو الحضارة الإسلامية وهكذا)؟ أم إنه لا يوجد علاقة بين الاثنين أى (الدين والحضارة)؟ فهناك فريق يميل لتديين كل شىء وإلصاق كل شىء من جوانب الحياة بالدين، وفريق آخر من المفكرين يرى أن الدين رسالة روحية أخلاقية أما الحضارة فهى منتج إنسانى محصلة العلم والمعرفة وعمل ومجهود الشعوب. ومن أشهر المؤيدين لهذا الرأى الأخير فى مجتمعنا د. "سيد القمنى"، والأستاذ المفكر "طارق حجى" وآخرون.
 
 
 أما نحن فلنا رأى ثالث، مُستنبَط من نظرية الكاتب العبقرى الراحل توفيق الحكيم (التعادلية)، بمعنى أن ما لا يؤخذ كله لا يترك كله. فالحضارة فعلاً منتج بشري محصلة العلم والثقافة والعمل، ولكن الدين مكون إساسى للثقافة، وله تأثيره المؤثر والمباشر وغير المباشر على صنع الحضارة وصياغتها.
 
فعندما يُرسى الدين مبادىء احترام العلم والعلماء،  وأهمية الاجتهاد والبحث العلمى، وتحديد الاختصاصات، ما لله لله وما لقيصر وللعالم وللإنسانية يجب أن يكون دون خلط أو فرض أو صاية. عندئذ يكون هناك دفعة لا يُستهان بها فى تشكيل توجه الشعوب. وعندما يقدّم الدين تعليم حقيقي عن الأمانة فى الوقت والعمل، والشفافية فى المعاملات، وإدانة واضحة للرشوة والفساد، ويعمل على إرساء مبادىء الحق والعدل والمساواة، وقبول الآخر - بمعنى وضع أسس تكوين الإنسان الجيد صاحب الأخلاق والشخصية الصحيحة- هنا تكون الممارسة الحقيقية للدين، وليس مجرد مظاهر للتدين الشكلي، والتشدق بالعبادات دون تطبيق أو تقديم نموذج حقيقى فى المعاملات.

هنا يكون الدين شريك أساسى فى صنع الحضارة وتكوينها، وتكون الحضارة على أسس الايمان. وهذا ما حدث فى "كوريا الجنوبية"، فقد كان الايمان المسيحى هو الإكتشاف لإعادة صياغة الشخصية الكورية النشيطة والجادة بطبعها، فهنيئًا لهم الايمان والتقدم والازدهار. كما إنهم شهادة للتاريخ تؤكد أن الايمان المسيحى رسالة تعمل على البناء وليس الهدم،  فالطريقة والأسلوب الذى دخلت به الرسالة المسيحية "كوريا" خير دليل. فلا حروب، ولا قلاقل، ولا فرض وصاية، ولا نبذ للآخر أو الاستعلاء عليه، ولا محاولة للسيطرة ومحو الهوية،  أو محاولة العبث فى القوانين وإثارة الفتن وبث روح الطائفية. إن فضل الايمان المسيحى على حضارات الشعوب المتقدمة لا ينكره إلا جاحد.
 
وأخيرًا، لنا كلمة فى مقولة الشيخ "محمد عبده" الشهيرة عندما ذهب إلى "فرنسا" وبهرته مظاهر المدنية، وبعدها رقى وتحضر الناس وأخلاقهم، فقال "رأيت إسلام ولم أر مسلمين". وتدهشنى هذه العباره كثيرًا! فهو لم يجتهد ليبحث فى ثقافة هذا الشعب الذى انبهر به، ولم يستطع الخروج من دائرة ذاته ليرى أن فى الآخر جمالًا يجب البحث عن مصدره والاعتراف به..قال السيد المسيح: "وأما أنا فقد أتيت لتكون لهم حياه وليكون لهم أفضل" (يوحنا 10 : 10).

شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٢ صوت عدد التعليقات: ١٦ تعليق