CET 00:00:00 - 18/09/2010

مساحة رأي

بقلم: منير بشاى
ليس كل ما يعتبر حقًا هو بالضرورة عمل مقبول.  فبناء مسجد على مقربة من "جراوند زيرو" قد يكون حقًا لمن يريدون بناءه، ولكن الأخلاق والمبادئ والحكمة تقول إنه تصرف إستفزازى غير مقبول. بنفس المنطق فإن ما نادى به قسيس "فلوريدا" "تيرى جونس" بخصوص إحراق القرآن فى مناسبة الذكرى التاسعة لتحطيم برجى مركز التجارة– قد يكون حقه كمواطن أمريكى،  ولكن هذا العمل فى ميزان الأخلاق والمبادئ والحكمة هو أيضًا عمل استفزازى غير مقبول.
 
والكاتب عبّر عن رأيه بوضوح فى هذه القضية ومنذ البداية.  فقد كتبت وقلت إننى كمسيحى لا أؤمن بالإسلام كدين أو القرآن ككتاب منزل. ومع ذلك أرفض رفضًا باتًا إحراق القرآن، أو إحراق أى كتاب؛ لأن حرق الكتب هو عمل غير حضارى يعود بنا إلى عصور الظلام عندما كانت تحرق المصنفات الأدبية والدينية كوسيلة لقمع الفكر المعارض. والخاسر فى هذا هو الإنسانية التى تُحرم من حق قراءة تلك الكتب، وتُحرم أيضًا من حق إعمال عقلها فى قبول أو رفض أفكارها.
 
وبدلاً من حرق الكتب طالبت بحق الإنسان فى مناقشة هذه الكتب بإسلوب موضوعى بعيدًا عن الكراهية والإهانة والتجريح.
 
ومن دواعى سرورى أن القس "تيرى جونس" قد قرّر إلغاء هذا العمل. ولكن أصارحكم القول: إن سعادتى لم تكتمل بعد أن علمت الأسباب التى دعته للإلغاء.
 
كنت أتمنى أن يكون إلغاء العمل ناتج عن مراجعة للنفس والإعتراف بأنه كان قرارًا خاطئًا من البداية. وذلك لأنه يتناقض مع مبدأ حرية التعبير وإحترام عقيدة الآخر ومقدساته، واحترام الكتب كرمز للإبداع، حتى وإن كنا لا تؤمن بمحتويات بعضها. 
 
عوضًا عن ذلك، وجدنا أن قرار وقف إحراق القرآن قد أُتخذ بناء على مبدأين كلاهما مرفوض فى رأيى: 
 
أولا: أرفض مبدأ المساومة
حدث إتصال بين القس "تيرى جونس" وإمام مسجد فى مدينة "تامبا" فى "فلوريدا"، حيث يعيش القس. إلتقى الرجلان وناقشا كيفية حل هذه المواجهة. وبناء على رواية القس، وافق الاثنان على عقد إجتماع مع "فيصل عبد الرؤوف"- إمام مسجد قرطبة المزمع بناؤه بالقرب من "جروند زيرو"- لإعلان وقف حرق القرآن فى مقابل نقل مشروع "مسجد قرطبة" إلى موقع آخر.
 
ولكن بعد إعلان القس "تيرى جونس" الخبر، أعلن الإمام نفيه إنه وافق على نقل المسجد. وقال: إنه إنما وعد بترتيب الإجتماع فقط. ويبدو أن هناك حلقة مفقودة ناتجة عن الخلاف بين الثقافتين الغربية والشرقية فى احترام الوعود الشفوية.
 
ولكن اعتراضى الأساسى هنا، هو على استخدام مبدأ المساومة. فإذا كان إحراق القرآن عمل غير متحضر، فما كان يجب استعماله كوسيلة للحصول على تنازلات من الطرف الآخر. نفس المبدأ ينطبق على المطالبة بتغيير موقع المسجد الذى ينبغى أن يُبنى على الإقتناع بإنه كان قرارًا خاطئًا من البداية، ويجب نقل موقعه بدون شرط، وليس نتيجة عمل مساومات، أو إبرام صفقات، أو تحقيق مكاسب.
 
وثانيا: أرفض مبدأ الإبتزاز
فور الإعلان عن مشروع إحراق القرآن، انطلقت الأصوات الكثيرة التى طالبت القس "تيرى جونس" بالعدول عن قراره. وكانت غالبية هذه الأصوات تؤكد عدم قبولها للمبدأ. ولكن مع هذه الأصوات ظهرت أصوات أخرى طالبت القس بوقف المشروع،  ولكن لخشيتهم من رد فعل المتطرفين المسلميين ضد المصالح الأمريكية فى العالم.
 
وفى هذا الإطار، جاءت نداءات إلى الرئيس الأمريكى "باراك أوباما" من دول مسلمة كـ"إندونسيا" و"باكستان" تحثه على التدخل لوقف المشروع. وحذرت بأن إحراق نسخ القرآن سيشعل غضب المسلمين فى العالم كله. وفعل "أوباما" ما فى طاقته كرئيس دولة ديمقراطية، وهو إصدار بيان أكد فيه أن هذا العمل يتنافى تمامًا مع القيم الأمريكية. وحذَّر أن القيام بهذا العمل سيكون بمثابة أداة يستخدمها تنظيم القاعدة لتجنيد المزيد من العناصر.
 
وأجرى وزير الدفاع الأمريكى "روبرت جيت" مع القس "تيرى جونس" مكالمة هاتفية دعاه خلالها إلى العدول عن خطط الحرق،  وأعرب له عن قلقه من أن إحراق القرآن قد يعرّض للخطر حياة الجنود الأمريكيين، وخصوصًا فى "العراق" و"أفغانستان".. 
 
وأصدر الجنرال "ديفيد بتريوس"- قائد القوات الأمريكية فى "أفغانستان"- تنديدًا بأن مخطط إحراق القرآن قد يعرّض الجنود الأمريكيين فى الخارج للخطر.
 
وهكذا، إبتداءً من الرئيس "أوباما"، ومرورًا بوزير الدفاع الأمريكى، وإنتهاء بقائد الجيش الأمريكى فى "أفغانستان"، جميعهم طالبوا بوقف الإحراق، ولكن ليس بسبب إعتراضهم على المبدأ من وجهة النظر الأخلاقية، ولكن خوفًا من تداعيات العمل بالنسبة لرد الفعل ضد القوات الأمريكية فى العالم.
 
معنى هذا، أن المخاوف فى ذهنهم كلها إتجهت نحو اعتبار المصالح الأمريكية فى العالم رهائن تخضع لإبتزاز الإرهابيين!  والخطر فى هذا التفكير هو أن الإستجابة لمطالب الإبتزاز لن تحل مشكلة الإرهاب على المدى الطويل. وسوف لا تضع نهاية لما يمكن أن يطالب به الإرهاب فى المستقبل. بل إن الإستجابة للإبتزاز يمكن أن تشجع على المزيد من العمليات الإرهابية؛ لأنها تعطى الإرهابيين القناعة أن الإرهاب هو أقصر الطرق وأضمنها لتحقيق مكاسبهم. 
 
وبعد..لقد أعلن القس "تيرى جونس" أنه سيحرق القرآن، ولكنه عدل عن قراره. وأعلن أنه تراجع عن تنفيذ الفكرة بعد أن وصل إلى هدفه، وهو توجيه أنظار العالم إلى ما يحويه القرآن. ولكن إحراق القرآن ليس بدعة جديدة فكر فيها "تيرى جونس"؛ فقد قام بها من قبله الخليفة المسلم "عثمان بن عفان" عندما وحّد نسخ القرآن فى نسخة واحدة وحرق جميع النسخ الأخرى. وكم كنا نتمنى أن نرى تلك النسخ التى أحرقها، والتى كان يمكن أن تفيد الجميع بما فيهم المسلمين أنفسهم؛ لأنها كانت سوف تقطع الشك باليقين فى موضوع التأكد أن تلك النسخ كانت تطابق القرآن الموجود فى أيدينا الآن.
 
الغريب، إن القس الأمريكى أعلن عن اعتزامه حرق القرآن، ولكنه عدل عن التنفيذ عندما قوبل بالمعارضة من كل جانب.  ولكن فى المقابل، واحتجاجًا على مشروع حرق القرآن، هدّد بعض المسلمين بحرق العلم الأمريكى ونفّذوه فعلاً أمام "جروند زيروا"، وهددوا بحرق الإنجيل ونفذوه فعلاً فى "أفغانستان"، ولم يجدوا من ينصحهم بأنه عمل غير أخلاقى وغير مقبول.
 
ترى هل كانت لغة التهديد تأتى بنتيجة أفضل؟ لا أتمنى ذلك.
Mounir.bishay@sbcglobal.net
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١٠ صوت عدد التعليقات: ٢٣ تعليق