CET 00:00:00 - 30/04/2009

مساحة رأي

بقلم: نذير الماجد
إذا كان خطاب النهضة مع رجال أمثال الكواكبي ورفاعة الطهطاوي ومحمد عبده وحتى قاسم أمين ينحى في معالجته ورؤيته لشروط وتحديات النهوض والتقدم نحو نزعة توفيقية بين سياقين ثقافيين على درجة كبيرة من التضاد، فإن فاصلاً زمنياً طويلاً كالذي يفصلنا عن أخر تجلياته ومصير الإخفاق الذي انتهى إليه وانحساره لصالح الخطابات النقيضة وغيرها من أسباب هي التي تستوجب إعادة قراءة نقدية شاملة لفكر النهضة وانعكاساته على الواقع وهي المهمة التي شغلت مثقفين عرب كمحمد أركون ونصر حامد أبو زيد والجابري وغيرهم.
خطاب النهضة بما يتسم به من نزعة توفيقية "بينية" يرتكز في مجمله على مرجعيتين متغايرتين: مرجعية الحداثة ومرجعية التراث وعليه انقسم المثقفون عند معالجتهم النقدية إلى اتجاهات تتراوح بين هاتين المرجعيتين، ففيما يسعى طيف واسع من التراثيين والسلفيين إلى تأبيد التراث بمنهجهم الإحيائي وتمركزهم حول كل ما أنتجه الفقهاء السلف الذين لهم قيمة مرجعية لا تضاهي، ينحاز توجه آخر إلى الحداثة أكثر حينما يسعى جاهداً للعبور نحو الحداثة عبر بوابة التراث ولكن بعد أن يخضع للمعالجة النقدية بكل المناهج والتقنيات الحديثة.

وفي المقابل يصر توجه ثالث على إحراز القطيعة الكلية مبرراً ذلك بأن الحداثة ليست شيئاً آخر سوى تلك الطفرة الوجودية التي أحدثت اهتزازات فكرية كافية لإحداث قطيعة مع التراث وعقلانية الماضي.
ولأن كان التوجه التراثي أو السلفي يعتبر في أحد وجوهه بمثابة إفراز من إفرازات خطاب النهضة أتاح له تقويض كل مساعي المثقفين الليبراليين الذين تموضعوا في سياق الخطاب النهضوي كـ (طه حسين وقاسم أمين وغيرهما) فإن شريحة واسعة من المفكرين الذين سعوا إلى تدارك هذا الانزلاق أرادت أن تقدم صياغة جديدة لا تلغي التراث بشكل كلي بقدر ما تحاول تبيئة الحداثة في سياق إنضاج لتلك البذور التراثية التي يمكن التأسيس عليها لتشييد صرح النهوض والتقدم بشكل يراعي الخصوصية الثقافية، وهو الأمر الذي نجده في مغامرات نصر حامد أبو زيد لدى قراءته النقدية للفكر الديني خاصة فيما يتعلق بإعادة الاعتبار لتلك المحاولة اليتيمة لإضفاء بُعد دينامي على النص الديني التي قام بها أمثال الشاطبي في مقاصد الشريعة أو المحاولة الجادة التي قام بها محمد أركون في مجال تأصيل الأنسنة في الثقافة العربية والإسلامية ومحاولة اكتشاف بذور مبكرة للحداثة الفكرية وحتى السياسية في السياق العربي والإسلامي.

ورغم أن محمد أركون لا ينفك يطالب بإحراز القطيعة التي لا يمكن أن تحرز دون إجراء تصفية مع الموروث بإخضاعه للمنهج العلمي وهو الأمر الذي جعل البعض يضعه ضمن تيار القطيعة إلا أن بعض المثقفين كحميد زناز أستاذ الفلسفة والكاتب الجزائري لا يرى نفس الرأي، إذ يعتقد أن المشروع الفكري لمحمد أركون لا يخلو هو الآخر من نزعة توفيقية حتى وإن كانت مجرد ترضيات بإمكانها إتاحة المجال لتمرير مشروع التنوير في وسط عصي على احتضانه.
هذه النزعة التوفيقية أو البينية كما يسميها داريوش شايغان من شأنها أن توقع خطاب التنوير في معضلات وتخبطات ترجع إلى انجراره الحتمي إلى ساحة الخصم الثقافي واستعارة مفرداته، علاوة على محاولته الدمجية بين مرجعيتين معرفيتين بشكل تعوزه المنهجية لتكون النتيجة بالتالي هي الإخفاق والانسداد وهو المصير الذي انتهت إليه مشاريع فكرية طموحة كالعودة إلى الذات للمفكر الإيراني على شريعتي الذي لم يفلح تماماً في عودته أو محمد شحرور الذي أراد أن يقدم منظوراً دينامياً شاملاً لمفهوم السنة يصل به في نهاية المطاف إلى الشلل التام، لكنه مع ذلك لم يسلم من الوقوع في الاستثناء التعسفي والاعتباطي حينما حاول أن يستثني الشعائر والطقوس الدينية من مفهومه الجديد للسنة.

ولأن المرحلة البينية هي نتاج وهم مزدوج ناتج عن تداخل مستويات ثقافية متباينة تاريخياً فإن من شأنها أن تؤدي إلى بروز نماذج لسمة فريدة هي سمة "الفكر بلا محل" أو الفكر الواقع في المرحلة البينية كما لاحظها المفكر الإيراني شايغان: فلا هو يتموضع في أبستمية العصر التقني- العلمي ولا هو يستقر في "عصور الإيمان".

إن هذه المقاربة تجعل من المحتم الاعتقاد باستحالة وجود مرجعية تراثية خالصة نقية، من هنا فإن كل الدعوات الإصلاحية أو التراثية التقليدية ستؤول إلى الفشل والإخفاق الناجم عن انعدام الرؤية حتى تلك السلفية الموغلة في اجترار الماضي وباعتقادها بكمال الأصل فإنها بتعبير المحلل النفسي فتحي بن سلامة لا تملك أي يوتوبيا إذ ليس لها أي أفق يمكن أن ينبثق منه أي شيء، وكل ذلك راجع إلى ديالكتيك العلاقة المعقدة بين التراث والحداثة، وكما أن الاتجاه التوليفي الدمجي بات مسدود الأفق فإن أي خطاب تراثي يزعم النقاء والأصالة سيقع شاء أم أبى في محاكاة الخطاب العلمي التنويري القائم على أساس القطيعة.
من هنا نجد تفسير عدم تورع الحركات الأصولية عن اللجوء إلى مفردات تنتمي إلى سياقات ثقافية وفكرية ومرجعية مغايرة كحقوق الإنسان والنزعة العلمية والمفاهيم السياسية الحديثة التي لا يمكن اقتلاعها من سياقها الحضاري، فالديمقراطية والمجتمع المدني والحياة النيابية وغيرها هي مفاهيم ترشحت عن طفرة حضارية وقطيعة معرفية بين حضارة تتسم ببنية فكرية رؤيوية تخيلية وبين حضارة اكتفت باعتماد الحس والعقل كمصدرين وحيدين للمعرفة: الإدراكات الحسية "التجربة" والمفاهيم الذهنية "مقولات العقل" (يجب التأكيد هنا على أن نيتشة مثلاً كان يقصر في خطوة مبكرة القيمة المعرفية على التجربة فيما يجعل لمقولات العقل وظيفة إجرائية فقط).

وبالتالي تجاوز المفهوم السياسي المرتكز على شرعية متعالية نحو مفاهيم سياسية زمنية معلمنة وكل ذلك بالطبع يتوقف على إجراء حاسم لتجاوز الذات.  
ولكن هل تجب العودة أصلاً إلى الذات؟ خلف هذا السؤال تحتجب دعوة معاصرة تحاول أن تعلن عن نفسها وتسعى إلى تقديم رؤية مغايرة تختزل عوامل النهوض في ضرورة تجاوز الذات نحو الغير بفعل الشوق إذا ما أردنا اللجوء إلى مفردات الأتباع الأوفياء لمدرسة فرويد في العالم العربي، لكن هذه الصيرورة يعوزها فعل الحداد الناجم عن أعراض ماليخولية تعاني منها المجتمعات العربية والإسلامية، وهو المرض المؤدي إلى عدم قدرة الذات على النسيان، نسيان الموضوع المفقود "التراث" لأن الحداثة أساساً هي استقبال للمختلف كما تعبر رجاء بن سلامة، أو هي تجاوز قصور الذات كما يرى كانط، وحينما تعجز الذات عن القيام بهذا الفعل تقع ضحية الازدواجية والانشطار بين متطلبات واقع مختلف يستوجب تغييراً جذرياً وجوهرياً في الذات من جهة وبين الانشداد نحو الماضي السحيق بصفته عصراً ذهبياً للذات قابلاً للتمثل والتكرار من جهة أخرى.

هذا الوباء المستشري في جسد كل نسق أصولي ناتج بدرجة أساسية عن تلك الفجوة التي تفصل بين الواقع بديناميته والفكر الأصولي بوثوقيته ودوغمائيته التي تحول دون أي تغيير تستوجبه دينامية الواقع وحركيته، إن لهذه الازدواجية انعكاسات واضحة جدا على الفرد الخاضع للنسق الأصولي، ذلك الفرد الذي تتقاذفه قوتان: الحداثة بكل جاذبيتها ومخرجاتها وتقنيتها ومكاسبها والتي هي محل شوق عظيم والذات التراثية التي لا تتسم بنزعة أوديبية كافية للتمرد وإحراز القطيعة.
إن لهذا الانشطار جانب مأزقي، لا تستقر معه الذات، فتلجأ لمحاولات بهلاونية تسعى من خلالها إلى دمج متغايرات على درجة عالية من التناقض والتضاد، فليس مستقبحاً على الإطلاق أن يلجأ الأصولي لإثبات أحقية مذهبة بمقولات العلم حتى وإن كانت لا تتوافق في جوهرها مع أساسيات مذهبية، وبإمكاننا هنا أن نشكل تصوراً تفسيرياً وافياً لكل تلك المساعي العبثية التي تريد أن تخلط بين نتائج ومكتشفات العلم وبين النصوص المقدسة رغم ما تتسم به من بنية مجازية ميثولوجية لا يمكن أن تنسجم مع الخطاب العلمي الذي هو بطبيعته ذو نزعة تقريرية توصيفية.

ولعلنا لا نندهش كثيراً حينما نجد أصوليا يستشهد بنظريات فرويد أو حتى داروين لإثبات القدرات العلمية الباهرة لهذا الرمز الديني أو ذاك، وكذلك لا نتعجب حينما نشهد متديناً تقليدياً يحضر فعالية موسيقية تحييها امرأة تتمايل وتتغنج وتلهب مشاعر الحشود بصوتها الجميل وتموجات جسدها الفاتن، وجميعنا يعرف حجم الخطيئة التي تدنس حفلاً يجمع امرأة تغني بموسيقى صاخبة، هذه الوقائع المستمدة من واقع الحياة كشفت لي أن كل أصولي هو في حقيقته رجل يعاني من عصاب مهلك هو الشيزوفرينيا!  

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٠ تعليق