لكل زمن أوجاعه وأوبئته وحينما كان العالم يعاني من أوبئة الكوليرا والطاعون الأسود كان يرافق تلك العصور أمراض وبائية أخري في مجالات الفن والإنتاج الأدبي ولأمر ما قد يعرفه علماء الطب والوراثة والزيولوجيا »علم الحيوان« حدثت تحولات وتحورات أدت إلي نوع من الخلل البيئي أثر علي فكرة »التوازن الطبيعي« مما أسفر عن اختفاء أوبئة »تاريخية« - بمعني أنها عاصرت عقوداً طويلة من التاريخ وإذا كان أشهرها هو الطاعون بأنواعه والكوليرا إلا أن ذاكرة الطب وعلم الأمراض مازالت تحفظ عشرات الأوبئة الأخري مثل الجدري والدفتريا والتيفود.. إلخ حتي تلاشت كلها أو معظمها وبقيت ذكرياتها في الكتب والروايات والصحف المعاصرة لها والتي بقيت لتعطينا صورة حقيقية لتلك الفترات الموبوءة من تاريخ الإنسان وإذا كنا لا ننكر فضل العلماء والباحثين الذين توصلوا إلي العلاجات والأدوية الناجعة والتي أدت إلي انحسار هاتيك الأوبئة فإننا لا نستطيع أن نغفل في الوقت نفسه ما حدث من خلل في التوازن الطبيعي وأدي إلي ظهور أوبئة جديدة لم تكن معروفة لدي أي عالم أو باحث وفاجأت علي حين غرة أوساط البحث العلمي في كل مراكز البحث في الجامعات وخارجها وصحونا ذات يوم علي ضجة انفلونزا الدجاج وسرت في العالم كله هيستريا تماثل تماماً ما صحوناعليه بعد ذلك من انفلونزا الخنازير ونذكر فيما بينهما جنون البقر والسارس.
وأتكلم هنا عن مصر التي أصبحت فيها انفلونزا الطيور مرضاً متوطناً وأتوقع ألا يتاح لأنفلونزا الخنازير نفس النجاح والانتشار في مصر ربما لان الشعب المصري في غالبيته العظمي لا يأكل لحم الخنزير وهذا في الواقع ليس الهدف الرئيسي لهذا المقال وإنما لفت نظري هذا التوافق المتناغم كمعزوفة مكتوبة للأوركسترا بين حديث الأوبئة »المتزامنة« حيث يتوافق الانهيار الصحي مع الانهيار الفني والثقافي ولم أكتف بالملاحظة بل أمعنت التفكير في مسألة رأيتها في البداية مجرد مزحة قد يري فيها الكثيرون محاولة من محاولات التلبيس والتلفيق ولعل هؤلاء علي حق لكن مسألة التزامن ظلت تلح علي ذهني وتؤرقني ولم أستطع أن أنظر للأمر باعتباره مجرد مصادفة.
قرأت موضوعاً إخبارياً ىُورد تزايد أعداد المصابين بانفلونزا الخنازير ووصول الأرقام إلي درجة الخطر وقرب تحول الإصابات الفردية إلي درجة الوباء العالمي الشامل وبجوار هذا الموضوع قرأت خبراً فنياً يوضح جسامة المفارقة ويقول الخبر إن زفاف مطربة »الواوا« قد تكلف ما يقارب الخمسين مليوناً من الجنيهات وأدرك طبع احتمال المبالغة ونحن كشعب من عشاقها ولكن الحقيقة في كل الأحوال تؤكد أن هذا الزفاف الميمون لم يقلعن نصف المبلغ »الإشاعة« وبداية فلست مصنفاً كحاسد أو »عزول« أو حقود أو علي الأقل وطبقا للتصنيفات الحديثة »منفش« ولكني اعتقد ان كلا الخبرين المتناقضين يرتبطن بمعني واحد في النهاية وهذا الارتباط لا يأتي من تكاليف »الفرح« الفلكية فليس هذا شأننا وكلها »أرزاق« ولكن التشابه ينبع من التأثير المرضي في كلتا الحالتين: الوباء الصحي - والوباء الفني وإذا كانت الأمراض الجسدية والأوبئة خصوصا تتسبب في قتل آلاف النفوس فإن الأمراض التي تصيب الروح وقدرة الإنسان علي تذوق الفن الجميل وقدرته أيضا علي إقصاء الرداءة وغلظة الحس وتدنيس الإبداع فإنها تقضي وتستطيع أن تقتل أمما بأسرها »والواو« ليست هي المشكلة، ولذا يجب علينا ألا نرهق أنفسنا بالبحث عن معني كلمة »واوا« وموضعها بالضبط من الجسد وكيفية تقبيلها فهذه التحفة الغنائية ليست إلا المثال الأوضح نضربه دون أن نخوض في تحف أخري كالتي تطلب وضع النقاط علي الحروف والأخري المتيمة بالحصان والتي تريد أن تركب الحنطور وتتحنطر ثم ذلك الأخ »السارح« بعربة فاكهة تمتلئ بالعنب العنب العنب وفي مرة أخري يتغني بالحمار حتي أن واحداً ممن ىُعدون نجوم الجيل راح يداعب أحلام المراهقين وهو يغني لهم مشيراً إلي الأماكن التي أحبها في صاحبته.
هذه الأغاني التي اكتسحت في طريقها كل ما بقي من آثار الطرب الحقيقي والغناء المحترم والتي حققت إيرادات خارج نطاق العقل ملأت الأسماع »وبشرقت« كليباتها العيون في الوقت نفسه الذي تنتشر فيه الأوبئة الحيوانية »نقصد المصدر فقبل الدجاج والخنازير كانت هناك الفئران والقمل لا مؤاخذة« وإذا عنّ لنا أن نعقد المقارنة بين إفساد العقل والروح وبين إفساد الأجساد فلن تخالجنا أية شكوك في الإجابة عن السؤال وإجابته تبدو واضحة للعيان فهي طبعا تؤكد إن إفساد العقول والتذوق الحسي الجمالي أخطر كثيراً من أوجاع وآلام »الواوا« خاصة وأن الواوا مجرد واوا جسدية تحمل في طياتها طريقة العلاج والقضاء عليها لا يستلزم أكثر من »بوسة« أما الواوا النفسية فهي مشكلة حقيقية ربما قضت علي جيل بل وأجيال من شباب مصر ورجالها..
حسناً: نستطيع أن نعد العدة ونتهيأ لمقاومة وباء انفلونزا الدجاج أو انفلونزا الخنزير.. ولكن ماذا أعددنا لمواجهة انفلونزا »الواوا« وشقيقاتها؟ يبدو أن أغلبنا لا يفكر في الموضوع أصلاً لأن الواوا قد أصابت قدرته علي التركيز والتفكير في المستقبل وهذا يضاعف من خطورة ما يواجهنا وقانا الله شر الواو وأعاننا علي تحمل إنتاجها الذي ينهمر علي رؤوس المصريين يلوث ولا يغسل يغرق ولا ينقذ وفي النهاية نهنئ السيدة صاحبة الواوا علي شفائها من »الواوا« الذي تكلف خمسين مليوناً طفحها الزبون بالهنا والشفا.
نقلا عن جريدة الوفد |