بقلم: كمال غبريال
موعدنا أن نبحث معاً الطرق العملية، الكفيلة بإعادة الأقباط ونشاطهم إلى ساحة العمل العام المصرية، بمختلف ميادينها باتساع الوطن. . ولا أظن أن أحداً يمتلك روشتة شاملة جامعة للدواء المطلوب، فالإجابة المنتظرة علينا جميعاً أن نجدها بأنفسنا لأنفسنا، ليس فقط من خلال التفكير النظري المسبق، بل وأيضاً من خلال الممارسة العملية، التي قد تثبت نجاح بعض الأساليب والمنافذ، وفشل البعض الآخر، كما قد تنفتح لنا خلال تلك الممارسة العملية، أبواباً لم يسبق أن خطرت على البال.
علينا بادئ ذي بدء أن نفتح نحن أحضاننا لسائر أبناء الوطن، في مبادرة تدفع من يحاول تهميشنا في سائر مواقع العمل الأهلي، لأن يغير من فكره وسلوكه. . فالأنشطة الخدمية التي توسعت فيها الكنائس في الفترة الماضية، نشاط واحد فيها فقط هو الذي يعمل بصورة وطنية، ويقدم خدماته للجميع، وهو المستشفيات والعيادات الطبية الملحقة بالكنائس. . المنظر جميل بحق داخل تلك المستشفيات، حين ترى روادها من كافة أبناء الوطن، فترى المحجبات والمنقبات وذوي اللحى، يفضلون العلاج في مؤسسات أنشأها أخوة لهم في الوطن والإنسانية. . لكن باقي الأنشطة التي ينخرط فيها الأقباط داخل الكنيسة، مغلقة على الأقباط وحدهم. . دروس التقوية، والرحلات، والحضانات، ودور المسنين، والنشاط الرياضي والكشافة، وفرق التمثيل، وخدمات الكومبيوتر، وتعليم الفتيات الحياكة، والنشاط الصيفي للمصايف (والملقب خلوة). . . .إلخ.
كل هذه الأنشطة تكرس عزلة المواطن القبطي، وتساهم مع النشاط المماثل لجماعة الإخوان المسلمين (مع الفارق بالطبع بين الأفكار والتوجهات التي للكنيسة المسيحية الوطنية، وتلك التي لهذه الجماعة الإرهابية المحظورة). . يساهم هذا الوضع في شق الوطن الواحد والشعب الواحد، وعملية الفرز والتفرقة هذه، هي بالضبط ما تسعى إليه الجماعة المحظورة، وسائر الجماعات الإرهابية التي انبثقت منها، وهو تقسيم الشعب المصري إلى قسمين، قسم الذين آمنوا (وهم ليسوا كل المسلمين، وإنما فقط من يعتنقون أفكارهم الإرهابية)، في مواجهة الذين كفروا (وهم الأقباط وكل من لاينخدع بنفاقهم وتعصبهم)، والتقسيم الذي يخطط له هؤلاء ليس فقط تقسيماً بالكلام التحريضي، بل هو تقسيم الحياة المشتركة، التي يعيشها هذا الشعب منذ أكثر من خمسة آلاف عام، هي عمر الحضارة المصرية، عاش طوالها هذا الشعب كله معاً، باختلاف الأعراق والعقائد. . لا يفترقون في الحياة التي عشناها، وعاشها آباؤنا وأجدادنا، إلا أن هذا يصلي لربه في المسجد، والآخر في الكنيسة، وثالث في المعبد، والبعض لا يصلي على الإطلاق.
مسألة الوحدة الوطنية لا تتحقق بالكلام والمحاضرات والعظات، كما لا تكفي القوانين والمعالجات الأمنية لمطاردة من يشقون الصف الوطني (رغم أن هذه الإجراءات تكون أحياناً ضرورية، خاصة في حالة اقتراف جرائم في حق الأقليات، كما يحدث طوال الوقت للأقباط، وحدث أخيراً للبهائيين). . فالتآلف بين الناس لا يتأتى هكذا. . في طرقات المستشفيات الملحقة بالكنائس مثلاً، عندما يجلس المرضى بجانب بعضهم البعض، في انتظار الدخول إلى الطبيب، وشعورهم بالتوحد في معاناة المرض، والتوحد أيضاً في الطبيب المعالج، هذا لا شك ينعش التعاطف الإنساني الذي كدنا نفقده، جراء حملات الشحن بالكراهية، القائمة على قدم وساق بالمجتمع المصري، ويستوي في تلك الحملات إن كانت مصنفة كفعل أو رد فعل.
إذا كنا نثق بالفعل بالمحبة وقدرتها على إذابة صخور الكراهية والتعصب، فلنعتمد عليها، ولتكن سلاحنا الرئيسي والوحيد، في مواجهة الرياح الصفراء، التي تهب على بلادنا منذ عقود، من صحارى التخلف والثقافات البائدة. . المحبة لا تكون بالكلام أو الادعاء، أو بترديد عبارات المحبة وحفظ آياتها بالكتاب المقدس، وكأن هذا يكفي وحده، دون أن تكون القلوب بالفعل عامرة بالمحبة، ودون أن تترجم تلك المحبة المزعومة إلى ممارسات فعلية عملية. . الكلام سهل وما أكثره، ونحن في بلادنا عموماً دأبنا على ترديد أحلى الكلمات والشعارات، في حين أن ممارساتنا العملية أبعد ما تكون عما تردد ألسنتنا. . ينبغي ألا نترك أنفسنا نُستدرج إلى وحل العنصرية والطائفية، فالعنصرية كالوباء المعدي، أو كما يقال لكل فعل رد فعل، مساو له في القوة ومضاد في الاتجاه. . هذا القانون الطبيعي يمكن تطبيقه على وجهين متضادين، الأول أن يكون رد فعل التعصب هو تعصب مضاد، والكراهية كراهية مضادة، لكنها مغلفة بكلمات ديكورية عن المحبة، كما يستخدم الطرف الآخر مصطلحات السماحة، لتغلف خطاباً مشحوناً بالأحقاد والكراهية. .
في هذه الحالة يتساوى الطرفان في إطلاق مسميات المحبة والسماحة، على مشاعر وأفكار أبعد ما تكون عن مسمياتها، وإذا كانت النتيجة واحدة، أو الحالة الفكرية والشعورية واحدة عند طرفين، فليس من المهم هنا من هو البادئ بالفعل، ومن هو المضطر إلى رد الفعل، فكما أنه من غير المقبول أن أتعلل بأن الظلم الذي أتعرض له هو الذي صيرني ظالماً، فأيضاً من غير المقبول أن أتحول إلى متعصب وكاره للآخر، متعللاً بأنه هو الذي دفعني إلى هذا. . نقول هذا ليس من قبيل الوعظ الأخلاقي، فنحن نتلقى من الوعظ الكثير، ويكاد موضوع المحبة يشغل كل مساحة خطابنا، مع شبه انعدام لتطبيقه عملياً، وربما كثير مما نقوم به باسم المحبة تجاه الآخر، مرجعه الأساسي إلى الضعف ومحاولة استرضاء هذا الآخر وتملقه. . إننا نقول هذا لا لنلقي اللوم على هذا الطرف أو ذاك، فتبادل الاتهامات لن يؤدي بنا إلى أي نتيجة. . نعم الأقباط مجني عليهم، ولكي يتوقف كل هذا، لابد من تغيير الروح السائدة المتعصبة، وهذا لن يتحقق إلا بخطوات عملية للاندماج في المجتمع مع باقي إخواننا في الوطن، لكن تلك المحاولة لن يتحقق لها النجاح، ما لم تكن مدعومة بفكر ومشاعر حب حقيقية، بمعني أن للمحبة هنا ضرورة عملية أرضية، وليست فقط تنفيذاً لوصايا إلهية، تؤدي بنا إلى ملكوت السماوات. . فملكوت الأرض أيضاً يحتاج إلى هذه المحبة، التي كما قلنا لابد أن تكون محبة عملية، وليست مجرد تسمية مطبوعة على وعاء لا يحوي غير التعصب المقيت، والاستعلاء الناجم عن الانكفاء على الذات.
الوجه الآخر لتطبيق قانون رد الفعل، المساوي في القوة والمضاد في الاتجاه، هو أن يكون رد فعلي المضاد، ليس مضاداً للشخص المقابل لي، لكنه مضاد لنوعية الفكر الذي يحمله، فإذا كان مقابلي يحمل فكراً عنصرياً معادياً لكل مختلف في الدين، علي أن أتحلى أنا بالتسامح الديني، وإذا كان هو يحقرني ويزدري بديني، علي أنا أن أكن الاحترام له ولدينه، ليس بمعنى أن أعترف بدينه بما يخرجني أنا عن ديني، لكن بمعنى أن البشر يختلفون في طرق معرفتهم لله، وأنني اخترت الطريق الذي أراه الأفضل، ومع ذلك أحترم كل صاحب دين، فالله وحده هو الذي يحدد أفضلية الأديان ولست أنا، وإن لم أفعل ذلك، أكون بالضبط مثل ذلك الإرهابي الذي أتضرر من سلوكه.
إذا نجحنا بالفعل في أن نتسلح بالمحبة، فإن الطريق سيكون مفتوحاً أمامنا، لتغيير الساحة المصرية، من حالة الاحتقان والتعصب، إلى حالة الشفاء النفسي والعقلي. . لانعني بالطبع أن الطريق سيكون سهلاً، إنما هو الباب الضيق والصعب، الذي لابد لنا أن ندخل منه، إذا كنا مصممين على خلق واقع أفضل لأبنائنا وأحفادنا. . ولنستمر معاً في البحث عن معالم لذلك الطريق.
kghobrial@yahoo.com |