بقلم: د. عبدالخالق حسين
تحتفل البشرية هذا العام (2009) بمرور 200 عام على ولادة العالِم الانكليزي تشارلس داروين Charles Darwin (1809-1882)، و150 عاماً على صدور الطبعة الأولى من كتابه (أصل الأنواع، والارتقاء وفق الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح) عام 1859. والجدير بالذكر أن هذه النظرية أصبحت مع الزمن والمزيد من الاكتشافات، حقيقة لا يشك في صحتها إلا غالبية رجال الدين، ونفر قليل من الذين هم من خارج اختصاص العلوم الطبيعية. وقد اعترف بصحتها مؤخراً حتى البابا بنديكت السادس عشر. ويمكن تلخيص هذه الحقيقة العلمية الداروينية، أن الأحياء تتصارع فيما بينها على مصادر البقاء، وعن طريق التكيُّف مع الظروف البيئية المستجدة، فيتم الاختيار الطبيعي فقط لتلك الأنواع التي تتمتع بالقدرة على التكيف، وبذلك فالبقاء للأصلح.
لا أريد هنا تناول النظرية من جانبها البايولوجي، (وربما سأخصص مقالاً مستقلاً بهذا الخصوص)، وإنما مدى تطبيقها على التطور الاجتماعي- السياسي – الاقتصادي، وفق مبدأ البقاء للأصلح. والجدير بالذكر أن صاحب مقولة (البقاء للأصلح survival of the fittest) هو الفيلسوف الانكليزي هربرت سبنسر (1820-1903) في كتابه (الرجل ضد الدولة)، والذي ساهم في ترسيخ مفهوم الارتقاء الاجتماعي في كتابه الآخر: (التقدم: قوانينه وأسبابه -1857) والذي صدر سنتين قبل نشر مؤلَف داروين (أصل الأنواع)، وأعطى له أبعادا اجتماعية، فيما عرف لاحقا بـ(الداروينية الاجتماعية). ولكن استعار داروين عبارة (البقاء للأصلح) وأضافها إلى نظريته في الطبعة الثانية من كتابه الشهير (أصل الأنواع).
فما علاقة الداروينية على الحالة العراقية؟
منذ سقوط حكم البعث وإلى الآن، صار العراق ساحة لاختبار عدة نظريات علمية وفلسفية مثل (الداروينية الاجتماعية)، ونظرية توماس هوبز (1588- 1679) التي تتلخص في أن "الإنسان ذئب لأخيه الإنسان، والعالم هو غابة من الذئاب، وإذا لم تكن ذئبا أكلتك الذئاب! لذلك ينبغي تنظيم المجتمع بطريقة عقلانية من أجل تحجيم هذه النزعة الوحشية الموجودة في أعماق الإنسان، ومن أجل التوصل إلى مجتمع مدني، متحضر"، حيث أصبح العراق بعد سقوط جمهورية الخوف، غابة للوحوش البشرية من فلول البعث وأتباع القاعدة وعصابات الجريمة المنظمة، ومازال كذلك ولو بدرجة أقل، وسيستمر هذا الوضع إلى أن تتقوى الحكومة وتستطيع فرض حكم القانون.
ومما حصل في العراق، ونتيجة للمظالم والانهيار الحضاري والفكري في عهد البعث، تفشى الإسلام السياسي وهيمن على السلطة بأحزابه الإسلامية بعد سقوط البعث. وكما بينا في مناسبات سابقة، أن الأحزاب الإسلامية هي بالضرورة طائفية. واعتقدَ البعض، وخاصة من أعداء التغيير، أن هيمنة الأحزاب الدينية والقومية، وما سمي بالمحاصصة الطائفية والعرقية، كانت مخططة مسبقاً وعمداً من قِبَل أمريكا لتدمير العراق!!. في اعتقادي أن هذا الرأي خاطئ وسطحي، فهيمنة الأحزاب الدينية كانت نتيجة لظروف موضوعية سبقت سقوط البعث. وكنت ومازلت متفائلاً بمستقبل العراق، لإيماني العميق بحكمة التاريخ بأن سيطرة الأحزاب الإسلامية على الحكم في عراق ما بعد صدام، هي مسألة عابرة، ومرحلة لا بد منها بسبب الظروف الموضوعية التي خلقها حكم البعث.
ومما يجدر التأكيد عليه هو أن العراق ليس وحده الذي تفشت فيه النزعة الإسلاموية، بل جميع البلاد العربية والإسلامية واجهت ومازالت تواجه نفس المشكلة، وذلك بسبب الفساد الإداري والإنفجار السكاني والتدهور الاقتصادي، وعجز الحكومات العربية والإسلامية شبه العلمانية عن حل هذه المشاكل المتفاقمة التي تعاني منها الجماهير الفقيرة، فخرج الإسلاميون بشعارهم (الإسلام هو الحل، والقرآن دستورنا والرسول قائدنا)، الشعار الهلامي الفضفاض، والذي صدقت به شريحة واسعة من الجماهير البائسة في البلدان العربية والإسلامية، ومنها العراق.
ونظراً لديماغوجية وغوغائية شعار (الحل في الإسلام)، واعتقادنا الجازم بعدم إمكانية الأحزاب الإسلامية على حل مشاكل شعوبها المعقدة، وخاصة الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، فكنا نعتقد بشكل جازم بفشل هذه الأحزاب، كما كنا متفائلين بمستقبل العراق، ونبقى على هذا التفاؤل وذلك لإيماننا العميق بدور قانون (الاختيار الطبيعي والبقاء للأصلح) أي الداروينية الاجتماعية والتي هي التفسير الآخر لمفهوم الحتمية التاريخية. فالتاريخ على المدى المتوسط والبعيد هو تقدمي، رغم ما تتخلله فترات تراجع ونكوص بين حين وآخر. ولذلك، فالأحزاب الإسلامية، وخاصة في العراق محكوم عليها بالفشل الذريع إن عاجلاً أو آجلاً، لأن الأحزاب الدينية هي طائفية وغير صالحة للوضع العراقي المعروف بالتعددية الدينية والمذهبية والعرقية، وبذلك فالأحزاب الإسلامية هي مفرقة (لا موحِّدة) لصفوف الشعب العراقي وهي أيضاً ضد منطق وقوانين تطور التاريخ، لذلك فمحكوم عليها بالفشل.
يقول هربرت سبنسر: "أن التحول الحضاري لا يتم على يد بطل، أو حاكم، ولكنه يتم على يد الحكمة الجماعية وهي من المصلحين وقادة الفكر". والمقصود بالحكمة الجماعية هنا هو معدل العقل الجمعي للشعب. لذلك فلما فازت الأحزاب الإسلامية في الجزائر عام 1992، وبدلاً من ترك هذه الأحزاب اقتطاف ثمار انتصارها، ومنح التاريخ الفرصة لفضح هذه الأحزاب، والكشف عن فشلها وعجزها ولامعقولية برامجها في حل مشاكل الشعب الجزائري المتفاقمة، تدخلت الحكومة العسكرية وأجهضت هذا الانتصار وألغت نتائج الانتخابات، الأمر الذي منح الإسلاميين حجة الاستمرار في رفع شعارهم (الحل في الإسلام)، ودفَعَ الشعب الجزائري ثمناً باهظاً مقابل ذلك حيث قتل نحو ربع مليون مواطن على أيدي الإسلامويين، ومازالت الجزائر تدفع الثمن. كما واستلم الإسلاميون الحكم في أفغانستان، وغزة، وإيران، وأخيراً في العراق، وكلها انتهت بالفشل الذريع. وهذا هو الدرس العملي لوضع الأحزاب الإسلامية على المحك واختبار مدى مصداقيتها، وبالتالي لتقتنع الشعوب عن طريق التجربة بأن الإسلام السياسي هو شر مستطير على هذه الشعوب وعلى الإسلام نفسه.
ولذلك نعتقد إن أفضل وأنجع طريقة لدحر الأحزاب الإسلامية هو السماح لها بتسلم السلطة لكشفها على حقيقتها للشعب، وبذلك يتخلى عنها الشعب في الانتخابات اللاحقة. ولهذا السبب أيضاً، أعتقد أن جميع الانتخابات في العراق كانت نزيهة ومفيدة في نفس الوقت رغم أنها أدت إلى فوز الأحزاب الإسلامية، لأن نهاية هذه الأحزاب هي في فوزها.
فبعد ست سنوات من الفشل الذريع لحكم الأحزاب الإسلامية في العراق، ودورها في نفور قطاعات واسعة من الشعب من الدين، اكتشف الشعب هذه الحقيقة، فبدأت الأحزاب الإسلامية في انحسار لصالح الأحزاب العلمانية الديمقراطية كما توضَّح ذلك في الانتخابات الأخيرة لمجالس المحافظات، حيث حقق العلمانيون الديمقراطيون تقدماً ملحوظاً على حساب الأحزاب الدينية. وإدراكاً من الإسلاميين بفشل مشروعهم السياسي، وفقدانهم لمصداقيتهم أمام الشعب، خاضوا هذه الانتخابات تحت واجهات وأسماء علمانية. وهذا التطور هو تأكيد لمبدأ البقاء للأصلح، أو باللغة السياسية (لا يصح إلا الصحيح).
ونظراً لهذه التطورات لصالح العلمانية، أصيبت الأحزاب الإسلامية بالرعب والهلع، فراحت تحشد طاقاتها مستغلة المناسبات الدينية، وخطب أئمة الجوامع والحسينيات، في شن هجوم هستيري عنيف على العلمانيين إلى درجة وضعهم في خانة البعثيين، وهذا دليل على فقدانهم لصوابهم من هول الصدمة.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تفيد التقارير أن [رئيس «المجلس الاسلامي» (في كربلاء) صدر الدين القبانجي، حذّر في خطبة الجمعة السابقة من تغلغل العلمانيين والبعثيين في صفوف المجتمع. وقال: «أدعو كل الكيانات السياسية إلى مراجعة الاستراتيجيات»، مشددا على أن «الدين هو الإستراتيجية في الشأن السياسي، وهو الذي يقود العملية السياسية، وهو الهاجس الحقيقي في قلوب العراقيين»، محذرا من تغلغل «الفكر العلماني في عقول أفراد المجتمع العراقي». (تقرير صحيفة الحياة، 18/04/2009).
إن وضع العلمانيين في خانة البعثيين لدليل واضح على الجهل والإفلاس الفكري والسياسي، ويشير إلى مدى الغرور الذي أصاب هؤلاء المعممين، فاعتقدوا أنهم ورثوا الأرض وبلغوا نهاية التاريخ. بينما في الحقيقة والواقع إن هذا اللغو هو أشبه بخلجات الموت، ونتائجه سترتد على الشيخ صدر الدين وأمثاله ممن يرددون مثل هذه الأقوال، وعلى الأحزاب الإسلامية بالذات. فكل مثقف واع ومنصف، يعلم أن حرية الأديان والطوائف، وممارسة الشعائر الدينية مضمونة فقط في الأنظمة الديمقراطية العلمانية وليس في غيرها من الأنظمة، وإن ألد أعداء حرية الأديان هو النظام الديني نفسه. لأن أي نظام حكم ديني يمنح حرية العبادة وممارسة الشعائر لأتباع طائفة الحكومة الإسلامية فقط. ونحن نعرف ما حل بالمسيحيين والصابئة والأيزيدية والشبك في العراق على أيدي المليشيات الإسلامية المنفلتة في عهد هيمنة الأحزاب الإسلامية على الحكم، ولم نسمع من الشيخ القبانجي أية إدانة لهذه الجرائم البشعة، كما ونعلم كيف يعامل حكومة الملالي الشيعية في إيران للسنة وأصحاب الديانات الأخرى. ونفس الكلام ينطبق على النظام السعودي الوهابي في تعامله مع الشيعة في السعودية، ناهيك عن معاملته لأتباع الديانات والطوائف الأخرى، فرغم ادعائهم بأن الإسلام دين التسامح والرحمة، إلا إن الأناجيل ممنوع إدخالها في السعودية، وتصادر في المطارات، وممنوع على غير المسلم الوهابي ممارسة شعائره أو بناء كنيسة أو معبد في السعودية.
قارنوا أيها السادة بين مستقى التقدم والحرية والرفاه الاقتصادي في الدول التي تحكمها أنظمة دينية وأخرى تحكمها أنظمة علمانية ديمقراطية، فحتى دعاة الإسلام السياسي يفضلون اللجوء إلى الدول الغربية الديمقراطية هروباً من الدول الإسلاموية مثل إيران والسعودية والسودان.
خلاصة القول، إنه من مصلحة الإسلام وطوائفه المتعددة وجميع الأديان الأخرى أن يحكم العراق نظام علماني ديمقراطي، يطبق مبدأ دولة المواطنة، يعامل الجميع بالتساوي ويحترم حرية المؤمنين وغير المؤمنين. فلا سلام ولا تقدم ولا ازدهار إلا في النظام العلماني الديمقراطي الليبرالي. وليكن شعارنا (الدين لله والوطن للجميع.)
ــــــــــ
الموقع الشخصي للكاتب:
http://www.abdulkhaliqhussein.com/ |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|