بقلم / مفيد فوزي |
يسمح الأهرام ـ هذا الصرح العريق ـ أن أصحبكم معي غرفة الأحزان مرة, كل مارس من العام, حيث موعدي مع ذكراها, فيأتي الصباح محملا بعطر الذكريات التي تتساقط كأوراق الشجر في الخريف علي أرض حياتي وألملمها بكفي لأحفظها من الضياع في زمن فقد فيه الحزن جلاله وطوتنا مشغوليات تافهة ولهثنا خلف سراب خادع. وما أشعر به الآن نحوها, افتقاد أكبر من الأوراق والأقلام: نعم ليكن ما أرصه من حروف وكلمات هو شيء ما من أدب الافتقاد وليس مرثية, فقد توقفت القيثارة عن العزف وكفت المهرة عن الصهيل وصدح الأرغول فأيقظ الذكري, أحيانا أخاطب صورتها المعلقة علي حائط الغرفة: هل هي مجرد( غفوة) ـ يا آمال ـ وبعدها تفيقين وتضحكين وتنفضين الملل, وتحملين الكاسيت وتلهثين وراء مشاهير برامجك تقطفين ثمار الفكر لتقدميها لمستمعيك؟ ثم اكتشف انني أهذي, فأنا أخاطب غائبا في سفر طويل في قارة مجهولة.. مجهولة, لكني لم أمنع نفسي من الكلام معها, فبعض الهذيان عقل, بعد رحيلها, صرت أكره الطب والأطباء, فقد عانينا حنان ابنتي وأنا من طب بلا ضمير, صرت أكره جهاز التنفس الصناعي, فقد ذهبت آمال في رحلة اللاعودة علي جهاز من هذا النوع, وصرت أقشعر كلما قيل لي إن فلانا أو فلانة علي الجهاز المذكور, صرت الأب والأم وهي مهمة ثقيلة لا يعرفها إلا من كابدها, آمال كم أنهكتني بخصامها وكم أسعدتني بعتابها, كان العتاب مانعا لصواعق الصدام, حتي هذا الصدام, اشتقت له, لأنه تجربة حياة, حين نذهب أنا وابنتي لنزورها في أرض الجولف, أقف أمام قبرها صامتا, أطلب لها الرحمة ولي بينما تصلي حنان لها وفي يدها باقة ورد تضعها تحت اسمها الذي يسبقه لقب المرحومة, أقف أمام قبرها مكسور الوجدان من جلال الموت, أتحسس حروف اسمها المنقوش علي قطعة رخام صماء وأتصورها بخيالي في مرقدها, حيث انسحبت كل الجلبة والأصوات والأضواء والصراخ والقوة والاستقواء والمظاهر والصراع والأحقاد, أحيانا أمسك بقلم وورقة وأشرع في كتابة خطاب لآمال العمدة وأمضي في هذا الهذيان وأكتب: أما عدد أصدقائك الذين كانوا أصدقاءنا حنان وأنا فالدكتورة مؤمنة كامل ابتلعتها السياسة, ود. ليلي تكلا طواها نشاط المجتمع المدني, وكوثر هيكل تسأل عنا من حين لآخر برغم وحدتها الصقيعية بعد رحيل بكر عزت, ونونو رضوان دائمة السؤال عنا واميل وأميرة يسألان من أمريكا في ذكراك والشقة التي حلمت بها في نيويورك لاقامتنا بدلا من تكاليف الفنادق وكان ثمنها بضعة آلاف دولار, صار ثمنها الآن15 مليون دولار بعد أن سكن في نفس الحي بيل كلينتون وزوجته هيلاري التي( صبرت ونالت) وأصبحت وزيرة خارجية أمريكا, أما عن حنان فقد جادت قريحتها بالشعر وتحفر بدواوينها العامية لنفسها مكانا بين شعراء العامية وتجتذبها الشاشات قارئة لأبياتها, وبخصوصي, فقد ألفت الوحدة برغم قسوتها خصوصا عندما يئن جسدي وكنت أناديك فتبحثين في أجندتك الورقية عن اسم طبيب يأتي علي الفور, مثلما حملتني بنفسك يوما الي مستشفي النزهة يوم زارتني جلطة الرئة, أتهيب يارفيقة الدرب لحظة فاصلة من هذا النوع ولا أملك الاتصال الليلي بحنان فهي زوجة وأم ومحمولها مغلق دوما و.. و.. وأكف عن الكتابة وألقي بالقلم أفتش عنها في صحاري النفس وبراري المحبة, وأحاول إقناع نفسي بأنها فقط استسلمت لنوم عميق, عميق, ولم أكن أدري أن الموت هو نوع من الاستفتاءات علي سكني القلوب. ولأن التأمل, رياضتي الذهنية, أحاول التسكع في حدائق عمري لتقويم ما فات, كان كل منا( يتابع) جهد الآخر وكان( تجاهل) هذا الجهد بمثابة( خيانة), كانت نظرتها( المستقبلية) كامرأة, أكثر بعدا من رؤيتي( الآنية), كان( عنادها) أقوي أسلحتها في الحق وكنت أنا أكثر( مرونة) منها, راهنت علي( حصان) متواضع, وهاجرت كل أسرتها الي كندا وبقيت معي في مصر, احترمت مواردي المادية القليلة حينئذ, وأتت من مالها بالدبل ودفعت من مالها خلو رجل لشقتنا, كانت عقلي المدبر في وقت كنت فيه أصنع مشواري الذي راهنت عليه, كيف؟ لا أدري, لقد ارتبطت بي ومرتبي من روزاليوسف وقتئذ18 جنيها وسافرت الي دمياط وحدها لتؤثث شقتنا ونبني حلمنا.., حين تحين ذكراها في الحادي عشر من مارس كل عام, ثم أدخل صدفة صمت, صمت ينتحب ولا أحد يراه أو يسمعه! نحيب قد يبدد غربتي أو ضباب الرؤية أو رياح الوحدة هأنذا استخدم نظارتك الطبية التي كنت تقرأين بها, واستقرت فوق عينيك طويلا, لعلها تنقل لي رائحة عطرك واطراقة رأسك! ربما كانت هذيانا أو رومانسية, لم تجف ينابيعها بعد!. |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع:
![]() ![]() ![]() ![]() ![]() |
![]() |
![]() |