بقلم: زهير دعيم
كنت أرى في وجه قداسة البابا الرّاحل يوحنا بولس الثاني القداسة، فالخشوع الذي ملأ كيانه، والنور الذي شعّ وأشرق منه أضفيا عليه قداسة حقيقيّة.
ولم يكن الأمر كذلك مع خليفته بندكتوس السادس عشر -الألمانيّ المولد- والذي رأيت فيه عنفوان الألمان وجبروتهم البعيدة عن الرّومانسيّة والقداسة، إلى أن حطّ قداسته قبل أيام في البلاد المقدسة، فزار الأردن وإسرائيل والسلطة الفلسطينيّة، فقوبل بالترحاب الحارّ في كلّ بقعة حطّ فيها عصا ترحاله، فالأردن مُمثلاً بمليكه الشّاب ومليكته وشعبه، استقبلوه بحفاوة بالغة يعجز قلمي عن وصفها، وكذا الأمر في إسرائيل والدولة الفلسطينية.
أنا لست كاثوليكياً ولا أورثوذكسياً ولا إنجيلياً، وإنما أعتبر نفسي مسيحياً فحسب، يعشق يسوع، الذي اشترى البشرية بدمه الطاهر من كلّ شعب وأمة ولسان
كانت الزيارة موّفقة، بل رائعة، واستطاع البابا بندكتوس أن يُغيّر رأيي فيه، فرأيت فيه القداسة والرّقة والنور الحقيقي، ورأيت الجُرأة على قولة الحقّ، كلّ الحقّ بعيداً عن المُجاملة وبعيداً عن المُداهنة.
لقد حمل قداسته الرّسالة وأعلنها جهاراً.. الإنسان هو هو المحور، والسّلام هو ما يريده ساكن العرش العظيم، والظلم هو ما يُبغضه.. أمّا المحبّة فهي تبقى الأساس، وهي الدستور والمصباح الذي ينير طريق الشعوب في العالم، ألمْ يقل الربّ يسوع: "أنا نور العالم".
لقد جاء البابا حاجّاً، فأسبغ على المنطقة قدسية، ورفع معنوية الأقلية المسيحية في الشرق، والتي دعاها إلى الانزراع في تربة الشرق وعدم الهجرة... جاء حاجّاً فغنت الناصرة بكلّ سكّانها ومن كلّ الطوائف، وتجلت هذه المدينة الخالدة بأحلى لباس وأجمل حلّة، كان لرئيس البلدية المهندس رامز جرايسي ولمجلسه البلديّ أيادٍ بيضاء فيها.
نعم غنّت الناصرة، و"قفز" جبل القفزة فرحاً وابتهاجاً حين رأى عشرات الآلاف تُرنًم وتُسبًح وتُعيد الأمجاد، وكذا الأمر مع بيت لحم وأورشليم والقبر المقدّس، وكلّ بقعة في هذه الدّيار التي تحمل أنفاس يسوع وهمسات موعظته الرائعة: "أحبّوا أعداءكم، باركوا لاعنيكم.."
جاء حاجّاً ولكن للسياسة دوراً، ودوراً مهمّاً، أصاب كبده البابا في مطار بن غوريون وهو يغادر، أصابه في الصميم بكلمة قصيرة، هادفة، صادقة وجريئة.. أدان من خلالها اللاساميّة، ووقف مع كارثة الشعب اليهودي أيام النازيّة، وأحسّ بالجرح الذي لا يندمل، ونادى بعدم نسيان هذه الجريمة البشعة التي قام بها أعداء البشرية النازيون، وطالب المجتمع الدّولي بالإعتراف بدولة إسرائيل في حدود آمنة، مستقرة، انسجاماً مع الإرادة الدولية.
ولكنه لم ينس آلام الشعب الفلسطينيّ وجرحه النازف أبداً، فدعى إلى إقامة دولة فلسطينية مستقلة الى جانب إسرائيل، فمن حقّ هذا الشعب الجريح أن يفرح وأن يكون له وطن وملاذ، يُحيي فيه آماله وطموحاته، منادياً باللاعنف، فالمحبة هي البلسم الشّافي.
وعرّج قداسته على موضوع الجدار الفاصل، الذي أدمعه وأوجعه، فنادى بإزالته ومحوه، لأنّه يُمثّل العداء والعداوة والتفرقة وهضم حقوق الإنسان وتقييد حريته، وبالمقابل دعى إلى بناء جسور السلام والإحترام المتبادل بين شعوب المنطقة.
طار قداسته إلى الفاتيكان، ليس قبل أن يعد بأنًَ الشرق سيكوكب في صلواته، وسيظل في خياله، إلى أن يأتي السلام، عالماً أن الامر ليس سهلاً، ولكن بصلوات الكاثوليك والمسيحيين جميعهم سيأتي حتماً.
وأخيراً.. لقد زرع البابا بندكتوس في يوم زيارته الأخير في القبر المُقدّس الفارغ بذرة الوحدة مع الكنائس الأخرى هذه الوحدة التي تريدها السماء وتفرح بها، كما وزرع زيتونة المحبة في حديقة بيت رئيس دولة إسرائيل وكلّ الطوائف.
قداسة البابا بندكتوس نحبّك، ونرى من خلالك وجه السيّد الذي أحبَّ الإنسان حتى المُنتهى. |