شاعرى المفضل وأستاذى فاروق جويدة: ما كنت أتوقع وأنا فى لقائى معك منذ أسبوعين أن مقالا قريبا سأوجهه اليك.. والحقيقة أننى استوقفنى بشدة مقالك الرائع «كلنا مهان» الذى كتبته تعليقا على مشاهد الفقر التى أذيعت فى التليفزيون حيث يعيش الزبالون جنبا إلى جنب مع الخنازير.. وعجبت لتساؤلك: أين رجال الأعمال والمثقفون والمجتمع المدنى من كل هذا؟.. يا شاعرنا الرقيق ألا تعلم أننا شعبٌ تيكيلم تيكيلم؟..
شعب يكره بعضه البعض.. كل واحد فينا مشغول بمراقبة رزق أخيه وأخذه منه ولا يحمد الله على رزقه.. وهذا جعلنا فى منتهى القسوة على بعض.. والقسوة تولد العنف.. والعنف يولد الخوف.. والخوف يولد النذالة.. والنذالة هى أن تكون تيكيلم تيكيلم... زمان، وكان يا ما كان حين كان يتشاجر اثنان فى الشارع كان يتجمع الناس حولهما وبمجرد أن يقول أحد للمتشاجرين «يا جماعة صلوا عالنبى»، كانوا فعلا بيصلوا عالنبى وتنتهى المشاجرة عند هذا الحد.. أما الآن فالمشاجرة لا تنفض إلا وغالبا واحد منهم متقطع حيث الفلتو لوحده وكباب الحلة لوحده..
وقارن مثلا مدرس زمان اللى كان بيأبجد هوز ويحُطى كَلمون بمدرس هذه الأيام الذى يدخل الفصل وهو يخبئ الموس فى سقف حلقه والسنجة فى الشراب!.. وحتى بين الموظفين.. هل علمت مثلا يا أستاذى العزيز أن مصطلح «محدود الدخل» كان موجودا فى الستينيات أو ما قبلها؟.. هذا مصطلح أنجبه الفقر والتفاوت الطبقى الرهيب الموجودان فى المجتمع الآن..
دا حتى الحرامية زمان مايجوش حاجة فى حرامية دلوقت.. الله يرحم زمان وحرامية زمان.. الواحد منهم كان يادوب يسرق حتتين غسيل.. محفظة فى أتوبيس.. فرختين من فوق السطوح.. وبعد كده يروح للعيال ويحمد ربنا إنه سترها معاه النهاردة!..
وحين تكون الكراهية هى السمة الغالبة بين الناس الآن فما بالك بتعاملنا مع المهمشين سواء كانوا جامعى القمامة أو غيرهم؟.. الدكتور سيد عشماوى فى كتابه الرائع «الجماعات الهامشية فى تاريخ مصر الاجتماعى الحديث» يقول إن تاريخ الهامشيين ارتبط منذ اللحظة الأولى بخروجهم إلى الأطراف وابتعادهم عن المركز، فلا المجتمع يرحب بهم، ولا هم يرحبون بالاندماج فيه بعد أن لفظهم، فنشأوا منفصلين عنه..
فمثلا معروف أن العصر المملوكى شهد نشوء حى الحسينية خارج أبواب القاهرة وتشكل سكانه من البطالين وصغار الحرفيين ممن أطلق على بقاياهم اسم الفتوات والجدعان.. ولكن المفاجأة أنه كثيرا ما اختلطت تحركات العوام بتحركات الهامشيين ليبرز الدور السياسى لهم..
فعلى سبيل المثال كان هؤلاء الهامشيون هم الأبطال الحقيقيين لثورات القاهرة المتعددة ضد الاحتلال الفرنسى لمصر.. وظلت بقايا تلك الجماعات حتى ثورة ١٩حين قام «الشحاتين» منها بتنفيذ إضراب وامتنع النشالون عن النشل تضامنا مع سعد زغلول (مع أنه ما كانش بينشل معاهم!)،
وشارك بعض الفتوات فى ثورة ١٩، بل واستمرت تلك البقايا حتى عام ١٩٥٦ أثناء حرب السويس حيث ذكرت مجلة صباح الخير فى عددها الصادر فى ١٥ نوفمبر ١٩٥٦ أن فتوات الحسينية اجتمعوا فى بيت أحدهم ويسمى «سيدهم الجدع» وقرروا فض خصوماتهم والذهاب لحمل السلاح مع الأهالى والفدائيين!..
وهنا ظهر الانتماء للوطن وتوحد الهدف لدى مختلف الطبقات.. ففى تلك الأيام لم تكن هناك تلك القسوة الموجودة الآن بين الناس على بعضهم البعض.. أما عن دور رجال الأعمال الذى تتساءل عنه.. فالحق يقال إنهم أيضا يتعجبون من سكن الفقراء مع الخنازير.. فهم كرجال أعمال عملوا اللى عليهم وبنوا الأبراج والمنتجعات، ليه بقى الفقرا دول مش بيختاروا منتجع ينتجعوا فيه، أو برج يتبربجوا فيه؟..
وتأكد يا سيدى أن كل ما لفت انتباههم عند مشاهدة الأطفال والخنازير أن هؤلاء الفقراء يسكنون فى مساحات شاسعة لكن وجودهم يفسد اﻟﭬيو.. وعن قريب ستسمع عن طرد هؤلاء من عششهم وبيع الأرض للمستثمرين.. وحتى تثبت الحكومة أنها ليست ضد الفقراء ستشترط على المستثمر أن يسمى المنتجع «بورتو فقرو» أو «فقرو هايتس» احتراما لذكرى السكان الأصليين..
ولذلك يا شاعرنا الرقيق.. يا من تتمايل الأوراق مع كلماته.. ويرق ظلام الليل من آهاته.. لا يبقى سوى أن أقول لك ما قاله الأمير العادل أيوب لأخيه الناصر صلاح الدين حتى يخفف عنه سقوط عكا فقال له: «هوّن عليك يا سيدى، كبّر الـ جى وروّق الـ دى.. أما نشوف آخرتها إيه»!
*نقلاً عن المصري اليوم |