«رغم كل هذه السمعة العالمية، فإن مصر لم تكرمه بمنحه جائزة الدولة التقديرية»، همس في أذني أحد الأصدقاء الذين كانوا في العشاء، فأدرت وجهي إلى الدكتور مجدي يعقوب، الذي كنت أجلس إلى جواره، قائلا «هل صحيح أن مصر لم تمنحك أي جائزة؟»، بهدوء الإنجليز فكر قليلا ثم قال «أنا مش فاكر لأنني أخذت جوائز كثيرة»، ثم أضاف: «كثرة التكريم أحيانا تبدو وكأنها نوع من عدم التكريم». لم تعد الجوائز العلمية التي تشيد بإنجازات الرجل ذات أهمية بالنسبة له، على العكس من الكثيرين ممن تبهرهم إنجازاتهم الصغيرة ويملأون بها الدنيا صياحا وغبارا. مجدي يعقوب بخلاف الكثيرين ممن يعلقون كل شهادة على جدران منازلهم ومكاتبهم، هو يهتم بالعمل فقط، لأنه لم يعد يحتاج إلى جائزة كي نعرف من هو.
أكتب عن مجدي يعقوب، عن «السير بروفسور» كما كانت تناديه أميرة ويلز الراحلة الأميرة ديانا، رغم أنني لا أحبذ الكتابة عن الأشخاص إلا إذا كانت هناك دروس مستفادة من تناول الشخصية. وأعتقد من خلال حديثي مع الدكتور مجدي في سهرتين متتاليتين أنه من هؤلاء البشر الذين يقدمون من خلال تاريخهم الشخصي تجربة إنسانية وعلمية متميزة جديرة بالتوقف عندها. تحدثنا عن التعليم والمعرفة الطبية أو ممارسة الطب في العالم العربي، وعن مشروعه الواعد لمساعدة المرضى في المناطق الفقيرة والمعروف بـ «سلسلة الأمل»، حيث يذهب الدكتور يعقوب إلى إثيوبيا وموزمبيق وأسوان في جنوب مصر، وكذلك إلى المناطق الفقيرة في آسيا وأميركا اللاتينية ليعالج الفقراء مجانا وليدرب الأطباء المحليين. كان من السهل جدا على عالم كبير بحجمه أن يستمتع بكونه جراحا مشهورا يحصد الأموال من عملياته الناجحة بدلا من أن يقضي وقته مع الفقراء من دون مقابل. مجدي يعقوب يقدم لنا نموذجا مصريا أقرب إلى نموذج القديسة تيريزا التي قضت حياتها بين فقراء الهند.
ما فاجأني في حضور الدكتور مجدي يعقوب، ليس كونه جراح القلب العالمي الشهير، وهذا ما يعرفه الجميع، ولكن فاجأتني روحه العالية التي صقلتها ثقافة راقية اكتسبها الرجل من قراءاته واطلاعاته على مختلف أنواع الأدب والفلسفة والفن. يتحدث عن الكثير من الأمور بمعرفة واثقة، من الفلسفة، إلى الفن، إلى أعمال الخير، كل ذلك وطيبة خاصة ترتسم على ملامحه، وكأنه طفل بريء يسكن جسد عالم ضربت شهرته في كل بقاع الأرض.
عندما سألت الدكتور مجدي عن مهنة الطب في عالمنا العربي، لم يجب بطريقة مباشرة، وإنما حكى لي قصة ابنته صوفي. صوفي هي واحدة من ثلاثة أبناء لمجدي يعقوب، والوحيدة بينهم التي قررت أن تدرس الطب اقتداء بوالدها كما اقتدى مجدي بوالده.
ذهبت صوفي للمقابلة التي حددت لها قبل دخول كلية الطب. سألتها البروفسورة «أنت فرصته الأخيرة إذن»، في إشارة إلى أن شقيقيْ صوفي لم يختارا كلية الطب ولم يبق سواها في الأسرة لتختار مشوار أبيها الدكتور مجدي في الطب. لامس تعليق البروفسورة، الذي ينطوي على تحد كبير، مشاعر الفتاة، فاضطربت وبكت أثناء المقابلة. ولما عادت إلى البيت وحكت لوالدها، قال لها: «إذا كنت تضطربين وتبكين في مواجهة أول تحد، فإن مهنة الطب ليست لك، لأنها أكثر المهن المليئة بالتحديات». وفي الصباح التالي، فوجئ مجدي يعقوب بأن ابنته قبلت التحدي وقررت الاستمرار في دخول كلية الطب. ولما ذهبت الفتاة إلى الجامعة قابلت البروفسورة ذاتها التي أبكتها من قبل. فقالت لها اذهبي إلى المستشفى للتعرف على المرضى الذين ستقضين كل حياتك بينهم. قالت الفتاة: وماذا أقول لهم وأنا مجرد طالبة تدرس الطب؟ قالت «قولي لهم أنا اسمي صوفي يعقوب. وأنا هنا من أجل مساعدتكم». قالت صوفي «وكيف لي أن أساعدهم وأنا لست بطبيبة بعد؟»، فردت البروفسورة «لا تقلقي، هم سيطلبون منك ما يريدونه، فقد تحضرين لهم الصحف أو تقدمين لهم كوب ماء، افعلي ما تستطيعينه الآن وغدا ستقدمين الخدمة الطبية. المهم هو أن تدركي أن رسالتك هي خدمة هؤلاء، وأنك ستعيشين بينهم معظم عمرك إن اخترت هذه المهنة. إذا وجدت هذا مناسبا فيمكنك أن تصبحي طبيبة، أما إذا لم يناسبك فستتركين مهنة الطب لغيرك». ويبدو أن الموضوع قد ناسب صوفي لأنها طبيبة ناجحة الآن.
ما أراد مجدي يعقوب قوله من هذه القصة، هو أن دخول كلية الطب يجب أن يكون مدفوعا منذ البداية بدافع إنساني محض، إذ يجب أن يكون لدى من سيدخل هذه المهنة رغبة حقيقية وصادقة لخدمة المرضى والتخفيف من آلامهم، وأن يعي أيضا أن هؤلاء المرضى سوف يكونون هم عالمه الذي سيأخذ جل وقته. هناك من الناس من يقبلون هذه الرسالة وهذا التكليف بل ويستمتعون بهما، وهناك آخرون لم يخلقوا لهذه المهمة رغم قدراتهم الذكائية والعلمية. في عالمنا العربي، للأسف، دخول كلية الطب هو أقرب إلى حالة التنافس الاجتماعي بين الأسر للتباهي بأن أبناءهم متفوقون وأذكياء. ينجح بعضهم في كليات الطب بدرجات عالية ولكنهم لا يكونون معدين للحياة بين المرضى وخدمتهم. وفي أحيان كثيرة يكون الطب في بلداننا نوعا من الوجاهة الاجتماعية التي لا تكتمل إلا بالألقاب، وأحيانا أخرى يصبح الطب مصدرا لكسب الأموال لا لخدمة المحتاج بل لابتزازه واستغلال ضعفه. هذا هو النقد المبطن الذي قدمه مجدي يعقوب من خلال قصة ابنته صوفي، لتدريس وممارسة الطب عندنا.
الدكتور مجدي مشغول الآن بمشروعه الخاص لبناء أكبر معهد للقلب في صعيد مصر بمدينة أسوان. ويذهب بشكل دوري إلى تلك المناطق النائية في صعيد مصر، التي يتردد طبيب صغير من خريجي جامعات مصر في الذهاب إليها. يذهب يعقوب مع فريق من الأساتذة الأجانب لمعاينة المشروع على الأرض والإلمام بمتطلباته ومستلزماته. والغريب أن بعض الصحف المصرية بدلا من شكره، قامت بشن حملة عليه، على طريقة الحملات الصحافية العربية، طارحة أسئلة من نوع: من يمول هذا المشروع، ومن أين يأتي يعقوب بالأموال؟ ومن وراءه وماذا يريد؟ ولماذا لا يعين أطباء مصريين ضمن فريقه؟ إلى آخر أسئلة نظرية المؤامرة المعروفة التي تسيطر على بعض العقليات عندنا.
سؤال وجيه، لماذا لا تعين يا دكتور مجدي أطباء مصريين ضمن فريقك؟ أجابني: «لدينا معايير واضحة للانضمام للفريق. وقد أعلنت عن شروط الانضمام في المجلات العلمية الكبرى في الغرب، كما أعلنت في صحيفة (الأهرام) عن المؤهلات المطلوبة فيمن يريد التقدم إلى العمل معنا. سأقبل أي طبيب تتوافر فيه هذه الشروط والمؤهلات». مجدي يعقوب يعمل ويدرس في مشاف وأكاديميات لا تجامل في المعايير العلمية، لكن بعض المصريين ممن لم تتوفر فيهم الشروط وعاشوا حياتهم كلها في عالم الواسطة، لم يجدوا سوى الصحافة مخرجا للتعويض عن مؤهلات غائبة وراحوا يلعنون مشروع يعقوب على أنه مشروع إمبريالي قادم من الغرب.
التقيت الدكتور مجدي يعقوب في مناسبتين، إحداهما كانت عشاء جمع خيرة علماء مصر في الخارج، البعض منهم شكا من معاملة مصر لهم، والبعض عبر عن حنين ورومانسية لمكان لا يذكر منه سوى أيام الطفولة أو أول عهد الشباب، وقبل أن ينتهي العشاء، سأل أحدهم سؤالا لا إجابة له: ترى لماذا نحنّ لبلدان لم تعرف كيف تحتضننا؟ نظرنا إلى بعضنا، تغيرت الوجوه وغيرنا الموضوع. وبقي وجه مجدي يعقوب مبتسما ببراءة الأطفال وتواضع العلماء، وبقي السؤال معلقا في الهواء.
نقلا عن الشرق الأوسط |