بقلم: د. صبري فوزي جوهرة
أتوجّه بكلماتي هذه للمسلمين في كافة بقاع العالم وقد تعمدت أن تجيء من تحت قبة جامعة القاهرة التي كانت منارة للعلم والحداثة في ماضيها القريب والتي تحتفل هذا العام بعيدها الواحد بعد المائة. ذلك الصرح الذي رعاه وتولى رئاسته "أحمد لطفي السيد" باشا نبي القومية المصرية و"طه حسين" باشا داعية الالتزام بحضارة الغرب الرائدة و"مصطفى مشرفة" باشا الذي ضارع أعظم علماء عصره علمًا وفضلاً.
وقد كان من المستطاع أن أذيع رسالتي إليكم صوتًا وصورة عبر الأثير إلا إنني تجشمت عناء السفر واقتطعت الكثير من وقتي الذي هو ملك لشعب الولايات المتحدة لأؤكد لكم صدق النية وخطورة الأمر.
لعلكم تتوقعون من تحت هذه القبة إعلانًا يهتز له العالم يدفع بكم إلى مصاف الدول المتقدمة دون الكثير من العمل والعناء, وعدًا يشفي أسقام مجتمعاتكم, يبشر فقرائكم بالمال الوفير ومرضاكم بالدواء الناجع وأبنائكم بالعلم الغزير ويمنحكم السلام العادل الدائم مع أعدائكم. هذه هي أمانيكم المشروعة في عالم اليوم التي ستساهم بلادي في إعانتكم على تحقيقها بقدر المستطاع، ولكن لنتذكر أن الجرح لا يلتئم إن كان ملوثًا أو إن مات أحد جانبيه. عليكم إذًا القيام بنصيبكم لتحقيق هذه الأغراض ولن يكون ذلك بالمر الهين ولن يتحقق لكم بالتراخي وعدم ممارسة النقد الذاتي والسعي الجاد للإصلاح.
لقد فتح العالم المتحضر لكم أبوابه وتهافت الملايين منكم إلى الخارج طمعًا في حياة أفضل ولكن البعض منهم أساء حسن الضيافة ومارسوا الإرهاب والقتل, واعتزل منهم الكثيرون مجتمعاتهم الجديدة مغلقين الأبواب حولهم ليعاودوا ممارسة ما كان قد دفع بهم إلى الهجرة, بل أن البعض قد تجاسر مطالبًا مضيفيهم بإتباع والخضوع لسلوكياتهم وأساليبهم.
عليكم أيها المسلمون أن تتفهموا حقائق اليوم الذي أصبح العالم فيه وحدة متكاملة لا تعير اهتمامًا لمن يريد العزلة أو المعارضة، أنه عالم يتطلع إلى الحرية المسئولة التي لا تضر الآخر ويسعى إلى الحفاظ على حقوق وكرامة وتقدم وإسعاد الإنسان بل والحيوان أيضًا.
حرية الفكر والعقيدة والعمل والتكسب المشروع والالتحام بباقي أبناء البشر والاستمتاع بأوجه التقارب والاختلاف فيما بينهم، حرية يمارس فيها الإنسان وجوده وهويته كاملة غير منتقصة دون الشعور بالاغتراب والعداء لمن يخالفه في الجنس أو اللون أو الأصل أو العقيدة، يرتشف الجميع من ينابيع الحضارة الجميلة التي أسهمت في بنائها كل شعوب الأرض على مر العصور فأصبح بذلك لكل هذه الشعوب حق الانتماء والممارسة في مكاسب اليوم.
قفوا لبرهة قصيرة وتعرفوا بأمانة وشجاعة على موقعكم على هذا الدرب، فإن لم تستطيعوا أن تجدوا مكانكم دعوني أقول لكم ما يراه العالم فيكم وهو أن لا أثر لكم على هذا الطريق.
أن العالم لم يسمح عبر تاريخه لجماعة واحدة او عقيدة مفردة بالسيطرة الكاملة على مقدراته, بل قاوم و انتصر على كل مَن اعتقد أو نادى بأن في استطاعته أن يسود العالم بأسره وانتهى الأمر باندحار وهلاك المتغطرسين المخدوعين ومن اقتيد بهرائهم.
لا تقعوا فريسة لهلوسات معاداة العالم لكم، فلم يكن ليشعر بوجودكم حتى تفجر إرهاب البعض منكم في كل ركن من أركان المسكونة, ثم جاء شجب القليل ممن فعل من علمائكم متخاذلاً واهنًا ومشوشًا يوحي بالرضا أكثر مما يؤكد الرفض والغضب.
اعلموا أن الطريق إلى التقدم والازدهار ذو اتجاهين، عليكم الالتزام بمعاملة الآخر غير المسلم في بلاده الأصيلة مثلما تعاملون أنتم كأقليات مستجدة زائرة كانت أم مستديمة في بلاد الغرب.
لا تنصاعوا لغير الواقع وهو يؤكد لكم وللجميع إنكم لستم بخير أمة أخرجت للناس بل ادعوكم لأن تتحققوا, إن كان في عقولكم شك إنكم قابعين عند أسفل درجات سلم الحضارة. لا تخدعوا أنفسكم بالظن أن عقيدتكم هي الحقيقة الكاملة المطلقة التي تصلح لكل زمان ومكان وإن على العالم الامتثال والخضوع لها.
واعلموا أن وضعكم المهين هذا الذي ترزحون تحت وطئته لا يرجع إلى عدم التزامكم بحرفية ما جاء في كتبكم كما يقول البعض منكم مستلهمين ومستحثين ملايين الضحايا من الجهلاء والفقراء منكم إلى المزيد من العنف والنرجسية والانعزال, بل أن العكس هو الصحيح فما بقى لكم من رمق إنما يرجع إلى التجنب الصامت للعقلاء منكم للكثير مما جاء في هذه الأصول و الابتعاد عن الاقتداء بها.
ليس في العالم كره لكم إلا بقدر كرهكم أنتم له، اعملوا على إصلاح دينكم فقد أصبح ذلك أمر محتم إن أردتم البقاء والمشاركة في السلام والتقدم والرخاء الذي تسعى إليه باقي شعوب الأرض.
ليس في الإصلاح عار وقد اجتازته المسيحية واليهودية من قبل وخرجت منه شعوبها لتقود العالم إلى المزيد من الحضارة والتقدم، وليس هو أيضًا بالأمر الهيّن خاصة عندما يصطدم بتحجر مضت عليه قرون طويلة وناصرته أعداد غفيرة من المتربحين، هذا هو قدركم وعليكم بالخوض لتحقيقه.
لتكن عقيدتكم متقبلة للغير بلا عنف أو قسر، ولتحتكموا في أمور دينكم بما تمليه عليكم عقيدتكم وضمائركم، أما أمور الدنيا فابتعدوا بها عن الدين فهناك نماذج عديدة ناجحة لإدارتها، أما إن أقحمتم الدين فيها أو امتزجت لديكم أحوال الدنيا بمقدسات الدين فهذا هو الطريق المؤكد للفشل والشقاء.
وعندما تصلح أموركم بفعل إرادتكم وأعمالكم ستستقيم الحياة وتنفتح الأبواب التي أغلقتموها على أنفسكم وتنعمون بالعيش بكرامة وسلام ورخاء جنبًا إلى جنب مع سائر أبناء البشر دون الحاجة إلى مجيئي إلى بلادكم لأذكركم بما كان واجب عليكم ألا تتناسوه. |