بقلم / كمال زاخر موسى
من البديهيات أنه لا يستقيم قراءة الوقائع التاريخية بعيداً عن لحظتها، أو قراءتها بمعايير اليوم ، لأن هذا يوقعنا فى خطأ الإسقاط، ويدفعنا لتحميلها ما ليس بها ، ولعلنا فى هذا الإطار نتساءل عن توقيت ولادة هذه الجماعة (سبتمبر 52) ، هل ثمة علاقة بينه وبين قيام حركة الضباط (يوليو 52) ، فرغم إعلان الجماعة بحسب رصد الباحثة د . سميرة بحر فى كتابها الأقباط فى الحياة السياسية المصرية أنها لا تعمل بالسياسة وليس لها من غرض خارج الإطار الدينى الإجتماعى، سعياً لتحقيق ثلاثة أهداف :رفاهية الكنيسة القبطية الأرثوذكسية ، تطبيق حكم الإنجيل على أهل الإنجيل ، تكلم "الأمة القبطية" باللغة القبطية . إلا أنه ووفقاً لنفس المرجع نكتشف فى ثنايا الوسائل التى حددتها الجماعة لتنفيذ هذه الأهداف أن السياسة لم تكن بعيدة عن عملها فقد أعلنت الجماعة تبنيها لسبع وسائل، أو آليات، على الأرض بعضها دينى وبعضها اجتماعى وبعضها يحسب ضمن الآليات السياسية دعونا نقرأها معاً :
ـ التمسك بالكتاب المقدس وتنفيذ جميع أحكامه عن طريق دراسة علمية حديثة، وأن يخرج منه العلم بجميع فروعه
ـ دراسة اللغة القبطية بطريقة علمية حديثة وإحلالها محل اللغات الأخرى، والتمسك بعادات وتقاليد " الأمة القبطية "، ودراسة تاريخ الأمة القبطية، والتعامل على أساس التقويم القبطى .
ـ إصدار جرائد، يومية وإسبوعية وشهرية، تكون المنبر القوى للدفاع عن الأمة القبطية، وبهذا يوجد الرأى العام القبطى .مطالبة الحكومة رسمياً بإنشاء محطة إذاعة خاصة بالأمة القبطية .
ـ الإهتمام بالدعاية محلياً ودولياً للأمة القبطية، والعمل على إحترام الكرسى البابوى وتكريمه .
ـ الإهتمام بالناحية الرياضية بمختلف وجوهها .
ـ إنشاء دار كبرى تسمى المركز الرئيسى للجماعة فى وسط القاهرة بجوار الأحياء القبطية (الفجالة، شبرا، القللى، الأزبكية) تجمع فيه مؤسسات ومشروعات الجماعة .
وفى غير تقاطع مع السرد التاريخى، نلمح هنا مدى تأثير المناخ السائد وقتها على توجس جماعة الأمة القبطية من المد الإسلامى السياسى، والمتمثل فى حركة الإخوان المسلمين، والذى ظهر جلياً فى شعار الجماعة والذى جاء بمثابة ترجمة قبطية مقابلة لشعار الإخوان، والحديث عن الأمة القبطية فى مقابل "الأمة الإسلامية" ومرجعية الكتاب المقدس فى كل شئون الحياة وحتى العلم فى مقابل مرجعية القرآن الكريم عند الإخوان، واعتماد اللغة القبطية لغة حياة فى مواجهة اللغات الأخرى، والمعنى هنا ـ إتفاقاً مع السياق ـ اللغة العربية بالأساس .
وحدد أعضاء الجماعة لطرح رؤيتهم وتفعيلها بالإنتشار فى انحاء "القطر" مدة نحو ثلاث سنوات، لكن الأمور تسارعت إذ صدر قرار بحل الجماعة فى 24 إبريل 1954، وواكب القرار تحديد إقامة قادتها فى منازلهم لمدة قصيرة.
ويرجح المحللون لطبيعة المرحلة أن يكون السبب فى ذلك إما محاولة إحداث حالة من التوازن خاصة بعد صدور قرار مماثل بحل جماعة الإخوان المسلمين قبل شهور قليلة (14 يناير 1954)، وربما تخوفاً من أن تتطور الأمور إلى نشوء حزب مسيحى أو على الأقل تيار سياسى مسيحى، خاصة وأن جماعة الأمة القبطية أصدرت فيما بعد، وقبل قرار الحل، مذكرة لتعديل الدستور ضمن الرؤى العديدة التى تناولت هذا الأمر، وبحسب مؤسسها فقد أثنى عليها المستشار عبد الرزاق السنهورى بأنها اكثر الرؤى إحكاما.
وبمراجعة تواريخ الأحداث يتضح أن قرار الحل لا علاقة له بحادثة "إختطاف" الأنبا يوساب ( 24 يوليو 1954 )، إذ صدر قرار الحل قبل ثلاثة شهور من الحادثة، وقائمة الإتهامات التى اعتمدتها المحكمة العسكرية العليا فى إدانة عناصر قيادة الجماعة كانت تتصدرها ما ورد فى مذكرة الجماعة المقدمة للجنة إعداد الدستور فى سبتمبر1953، والعمل على تكدير السلم العام ومقاومة السلطات، ثم يأتى فى مؤخرة قرار الإتهام أنهم " قبضوا بدون وجه حق على غبطة بطريرك الأقباط الأرثوذكس الأنبا يوساب الثانى وتمكنوا من اقتياده خارج الدار البطريركية وإقصائه عن مقر منصبه ".
ويتردد أن البابا يوساب قد طلب من الحكومة حل هذه الجماعة، وعندما علم مؤسسها (ابراهيم فهمى هلال) ذهب للقاء البابا مستفسراً، فنفى البابا أنه طلب هذا مباشرة، وفسر هذا بأن سكرتيره الشهير ( مِلِكْ جرجس) يحتفظ بخاتم البابا ويقوم بكتابة الخطابات وختمها بخاتم البابا، بينما يرى المحللون أن الخطاب وافق عليه البابا بعد أن اقنعه الوزير القبطى فى حكومة الثورة "الدكتور جندى عبد الملك" ـ وزير التموين ـ بتوجيه من جمال عبد الناصر الذى لم يسترح لنشاط الجماعة، وكان يريد أن يبدو قرار حل الجماعة جاء تلبية لرغبة القيادة الكنسية.
لم تسترح الجماعة لسلبية البابا يوساب وترك امور الكنيسة فى يد سكرتيره، والذى كان البابا غير المتوج، وكذلك لم يسترح لذلك اساقفة ومطارنة الكنيسة.
وفى تحرك ـ مرتب ومدروس ـ يتفق اعضاء الجماعة على التوجه للبطريركية وإجبار البابا البطريرك يوساب الثانى على التنازل عن المهام الإدارية وتوقيعه على وثيقة بذلك، وتعيين الأنبا ساويرس مطران المنيا والأشمونين قائمقام محله يتولى ادارة الكنيسة، وترحيله إلى أحد الأديرة، وتم تنفيذ ذلك فى 24 يوليو 1954، ويوافق البابا على كل هذه الترتيبات ويغادر البطريركية فى هدوء، فى توقيت انشغال الأجهزة الأمنية والرسمية بالإحتفال بعيد الثورة، ويبدو أن شباب الجماعة قد استوحو هذا من نهج شباب حركة ضباط يوليو 52، وقد تمت الخطة كما قدروا لها وبغير عنف، بعد حشد ألفى عضو من أعضاء الجماعة لتأمين البطريركية من الداخل والخارج، وقد غادر البابا القصر البطريركى باحتفالية من الشمامسة أعضاء الجماعة بحسب الطقس الكنسى لاستقبال وتوديع البابا البطريرك والذى توجه الى دير مارجرجس للراهبات بمصر القديمة كرغبة البابا البطريرك (وفق ما رواه د. ابراهيم فهى هلال فى حوار بمكتبه بالقاهرة ـ نوفمبر 2008 للكاتب) .
ويقوم زعيم الجماعة بإبلاغ اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية وقتذاك، بما تم، والذى جاء رده عبر الهاتف ( وكان قد استقبله قبلاً فى مكتبه برياسة الجمهورية فى 7 يناير 1954 ) : ياإبراهيم أى حاجة لا يوجد فيها مساس بأحد من السلطة إنتم أحرار، فأجابه: ياريس ..لا يوجد أى مساس نهائيا [ من حوار مع الدكتور ابراهيم فهمى هلال نشر بجريدة القدس العربى فى 4 يونيو 1996 أجراه الصحفى عاطف حلمى ، ضمن تحقيق عن جماعة الأمة القبطية نشر على مدى خمسة أيام بالجريدة ].
على الأرض كان يجرى شئ أخر، فقد إرتجت القيادات الرسمية والكنسية، وتسارعت الأحداث فى اتجاهات عديدة وهو ما سنعرض له فى المقال القادم .
Kamal_zakher@hotmail.com |
|
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|