CET 00:00:00 - 28/05/2009

مساحة رأي

بقلم: نذير الماجد
الواقع الذي يغلفه البؤس وتجتاحه العتمة ويطوقه الشلل لا يكفي معه أن توقد ألف شمعة بل يجب أيضًا أن تلعن هذا الواقع ومعه كل الظلم الجاثم والمخيم على الأنفاس، عكس ما يروجه المتفائلون أكثر مما يجب فلكي تبدأ لحظة التغيير لابد من إشاعة السخط والتذمر بين أنصاف المواطنين الذين يخضعون لغسيل أدمغة من النوع الذي يجعل منهم أشبه بنعاج وادعة وقانعة بكل شيء. كباش منقادة للذئاب الكاسرة التي تجز رقابها دون أن يرمش لها جفن.
لابد من شيء أشبه بالصاعقة حتى يتلاشى هذا الركود السياسي في واقعنا الرتيب الذي يكرس كل ما من شأنه أن يبعث على التثاؤب والخمول، الواقع الذي لا يترشح عنه سوى أمة ناعسة تحترف النوم وتجيد الخضوع ولا تردد سوى كلمة "نعم".

قد تكون أمةً تعاني من الخصاء أو ينقصها التأسي بذلك الملهم الإغريقي "أوديب" أو تحتاج إلى صدمة مروّعة من تلك الصدمات التي تحدثها المنعطفات التاريخية في حياة الأمم أو إلى نبي ملهم لكي يبشر بقيم جديدة وأفكار جديدة وأخلاق جديدة بعد ردم كل البنىَ الفكرية التي تعزز حالة الاستعباد.

لست أدري تمامًا ما الذي يجب فعله مع واقع كهذا أو أمة كهذه ولكنني أعرف جيدًا أن التغيير عملية شاقة خاضعة تمامًا لقانون العلية وليست نتيجة بأي حال لأي معجزة أو كرامة إلهية، ولكي نقطع أولى الخطوات في هذا المسار المعقد للتغيير يجب أولاً أن نتعلم كيف نقر بأن أمتنا مستلبة وواقعها مشوه هجين وأفرادها أنصاف مواطنين تفصلهم درجة واحدة عن أن يكونوا نعاجًا في قطيع، التغيير الذي هو جهد ذاتي تقوم به الذات على نفسها يبدأ من هنا قبل إيقاد الشموع ولا ينتهي بإشاعة التمرد على هذا الواقع نفسه.

إنها سيرورة طويلة وشاقة لابد أن تحرزها كل الأمم كي تستحق التغيير.

وإذا كان يقال: لا تلعن الظلام ولكن أوقد شمعة، فإن من الواجب إجراء تغيير طفيف على هذه الحكمة الخالدة لكي تصبح: حتى تغير الواقع يجب أولاً أن تتبرأ منه ثم تسخط وتتمرد فتصل أخيرًا لتجاوزه. وللإجهاز عليه تكفي فقط رشحة من رشحات ذلك البطل "أوديب" لأن كل أمة ناضجة هي أمة أوديبية قطعت شعرة معاوية مع الأسلاف بعد أن أقامت الحداد عليهم لتحكم نفسها دون أن تحاذر من نقمة الطوطم!

لست بهذا الكلام من الذين يمارسون جلد ذواتهم ولست متشائمًا فيما لو جازفت بتوصيف واقعنا العربي ومعه بالطبع واقعنا السعودي بكل ما يمت إلى البلادة والجمود بصلة، هذه الأوطان المحنطة التي يفخر أمثال الشاعر الراحل محمد الماغوط بخيانته لها بصفتها أوطان مزورة ممسوخة هي عصية على كل إرادة إصلاحية وتغييرية.

إن استنبات البذرة الأوديبية تحتاج إلى تربة خصبة ولكن إزاء هذا السخام الوطني ليس لها من مصير سوى الموت المحتم، هكذا نجد كيف استحالت الخطابات الإصلاحية إلى وهم أو تهور أو عمل طائش لا جدوى منه، هذا إذا لم يستحكم الحمق حدًا يكفي لرميها بتهمة التآمر على خير وصلاح الأمة التي هي خير أمة أخرجت للناس كل الناس دفعة واحدة وإلى الأبد! 

في الخامس عشر من الشهر الجاري أرسلت مجموعة من النشطاء الحقوقيين والإصلاحيين رسالة إلى الملك السعودي يناشدونه بمواصلة الإصلاحات الجذرية التي تعيد إلى هذا الوطن عافيته، تضمنت هذه الرسالة جملة من المقترحات الجريئة التي لا تقف عند حد إصلاح القضاء أو المحاكمة العادلة للسجناء السياسيين، بل تتعدى ذلك لرؤية واضحة متكاملة وشاملة لشكل الإصلاح المنهجي الذي بإمكانه أن يرضي الطموح ضمن مشروح وطني قادر على حمل لواء التغيير. أبرز هذه المطالب وأكثرها جرأة هي فيما يخص المشاركة السياسية عبر برلمان منتخب وفصل منصب رئيس الحكومة عن منصب الملك واستقلال القضاء بل أيضا المشاركة الشعبية في هيئة البيعة المسئولة عن تسمية الملك وولي العهد وغيرها من مطالب تأتي كلها في سياق ترسيخ مفهوم جديد للمواطنة.

نعرف جيدًا أن مفهوم المواطن مفهوم حديث للفرد البشري بوصفه عنصرًا يدخل في عملية تشكيل الأطر السياسية للمجتمع، فليس كل فرد بشري ينتمي لحيز جغرافي/ سياسي معين هو مواطن يتمتع بالمواطنة التي ليست هي مجرد شعور رومانسي يشد المرء للكيانات السياسية التي ينتمي إليها بفعل "الجنسية".

كما أنها ليست مجرد واجبات تثقل كاهل المواطن دون مقابل أو ضمانات أو حقوق، المواطنة التي أفهمها بوحي من "جان جاك روسو" هي الصفة السياسية التي تمنح الفرد البشري جملة حقوق تستوجب عليه عددًا من الواجبات حتى يكون قادرًا على المشاركة السياسية وإضفاء الشرعية على الكيانات السياسية التي يفصل بينها وبين مفهوم الدولة المفهوم المعاصر للمواطنة ذاتها.

من هنا فإن فحوى هذه المطالب وجوهرها هو في محاولتها لمقاربة إشكالية تتمحور حول سؤال أكثر أهمية: كيف يمكن أن تصاغ المواطنة؟ ومَن هو الشخص الذي يمكننا نعته بصفة المواطن؟ وما هي الحدود الفاصلة إن وجدت بين الانتماء السياسي وبين المواطنة؟

لكن المؤسف أن هذه الخطوة الشجاعة والتي يمكن أن يؤسس عليها مشروع لميثاق وطني كامل بإمكانه ترسيخ الوحدة الوطنية لم تحظ بأقل قدر من التجاوب والتفاعل مع أنها تستحق أن تثمن ويشاد بها أكثر من كل تلك المحاولات النضالية التي شغلها الشاغل ذر الرماد في العيون بمطالب تتوخى حفظ الهويات المتصارعة مع أجفالها في ذات الوقت من كل هوية جامعة هي بالضبط الهوية الوطنية.

ومع أن هذه المحاولة ليست الأولى وليست الأخيرة كما أقدر إلا أن لها أهمية كبيرة باعتبارها خطوة هامة تساهم في فضح هذا الواقع الموبوء والذي تنقصه أمثال هذه المبادرات الجادة، فحتى وإن لم تؤدي إلى أي نتيجة فإنها على الأقل جزء من الحراك السياسي الذي يكاد ينعدم في واقعنا، فلأن السعي بحد ذاته أمر مطلوب حتى وإن لم يؤدي إلى أي نتيجة ملموسة، لابد من مواصلة هذه الخطوات ودفعها إلى الأمام.

كل مطلب إصلاحي وكل عريضة وكل احتجاج وكل تحرك سياسي هو ذاته إصلاح إلا إذا كنّا سنصدق من لا يذخر جهدًا في إفشال كل هم تغييري بانتقاصه من شأن هذا الحراك ودعوته بأن نوكل مهمة الإصلاح والتغيير للمبادرات الغيبية دون أن نقوم بأي جهد، وحسبنا لتفنيد هذه الوساوس الكلمات الشهيرة التي تقول: إذا لم أحترق أنا.. إذا لم تحترق أنت.. إذا لم نحترق نحن.. فمن أين يأتي الضياء؟!      

ولكن علة هذا الفتور تكمن في تقديري في حالة التململ التي تأتي في سياق ظاهرة تآكل الإصلاحات من الداخل في واقع معقد وإشكالي وهي ظاهرة أشاعت حالات واسعة من التذمر والارتياب من كل حديث أو أمل إصلاحي، فبينما كان سقف الإصلاحات عاليًا طموحًا يصل حد تأمين المشاركة السياسية الفعالة فإذا به ينخفض لتتراجع وتيرة الإصلاح فتصل إلى درجة من الإحباط مع قرار إلغاء الانتخابات البلدية المزمع إجراءها هذا العام مما يعني أن ثمة ارتداد ونكوص واضح عن المطالب الإصلاحية التي يفترض أنها استقرت في الواقع السياسي كمكاسب لا رجوع عنها.

ومع أن طبيعة الإصلاحات كان يجب أن تتخذ وتيرة تصاعدية إلا أننا نشهد تراجعًا بيّنًا حتى عن تلك المطالب الاجتماعية التي لا ترقى إلى التغيير السياسي والثقافي البنيوي، ناهيك عن التراجع والإخفاقات التي مني بها الأداء التنموي فيما يتعلق بتأمين الاحتياجات الأساسية والتي تمس حياة المواطن في الصميم، هذا فضلاً عن معضلة التعليم ومساوئ الجهاز التربوي الذي لا يوفر للفرد ما يحتاجه من مهارات وتعليم وثقافة رغم المخصصات المالية التي خصصتها الحكومة لهذا الجهاز الحساس والمصيري، حيث أكبر ميزانية تخصصها الحكومة كانت من نصيب وزارة التربية إلا أننا لم نشهد حتى الآن أي تغيير يعتد به في السياسية التعليمية، خاصة إذا ما اعتبر الفكر الديني المكرس في المناهج التعليمية والمسئول عن تفريخ الكراهية الدينية بمثابة خط أحمر لا يمس.  

تتآكل الإصلاحات فتتساقط وتنعدم قيمتها ثم يصبح كل مطلب وطني خاليًا من كل جدوى أو فعالية، حتى أن المشاركة السياسية ذاتها أصبحت من العبثيات والتي تجازف بالسلم الأهلي والرخاء الاجتماعي أو تبدو كما لو أنها ضرب من التهور أو الغوغائية.

أما تلك التي تتعلق بالمرأة وحقوقها والتي نحتاج إلى معجزة لتحقيقها كرفع الحظر عن قيادة المرأة للسيارة وهو كما ترون مطلب يسير لا يحتاج إلا إلى قرار بسيط يعلن في وسائل الإعلام فإن هذا ولا ريب لا يليق إلا بعقول تلوثت بالحمق والخفة بل وحتى الاستهتار بالشرف.. وقس على ذلك.

إذا كانت المطالب الأساسية الكبرى لا تتوافق مع الخصوصية الوطنية والظروف والحيثيات للمرحلة الراهنة ليست مواتية ولا أحد يعلم متى ستصبح مواتية، والمصلحة الوطنية لا تقتضي الدفع بوتيرة الحراك السياسي، والمطالب النسوية تنتهك الخصوصية الدينية والحريات العامة يجب أن تظل مكبلة أو ضمن حدود لأنها ضريبة المكان الذي يحتضن أقدس المقدسات والحديث حول حقوق المرأة لا يليق لأن الرجل نفسه ليس له حقوق، إذا كان كذلك فعن أي إصلاح يتحدثون؟

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق