الناظر إلى أحوال مصر، يَحارُ في فهم ما يجري واستيعاب مدلوله الصحيح. فهناك ارتباك واضح لدى كل أطراف العملية السياسية، سواء كانوا محسوبين بدرجة أو بأخرى على النظام السابق أو القِـوى الجديدة من الشباب والليبراليين ومفجري الثورة ومناصريها.
وبعض الارتباك أيضا موجود في أداء حكومة الثورة بقيادة رئيسها الدكتور عصام شرف، حيث تغيب الأولويات وتضغط عليها مطالب الثورة جنبا إلى جنب مطالب الفئات الاجتماعية المختلفة، التي تتركز حول رفع الأجور وتحسين سُـبل المعيشة وتغيير القيادات القديمة.
معضلة المجلس العسكري
المجلس العسكري الحاكم بدوره يتحرّك في اتجاهات عدّة، داخليا وخارجيا، وينفي عن نفسه أية شُـبهة في حماية أحد، أيا كان قدره ومكانته في السابق، وينفي أيضا ما يلمح إليه البعض من ارتباطه بعلاقة خفِـية مع جماعة الإخوان المسلمين وأيضا السلفيين، ويُـصرّ في المقابل على كونه مع الثورة قلبا وقالبا وأن أمر محاسبة الفاسدين، أولا وأخيرا، هو بِـيد القضاء والنائب العام والمؤسسات الرقابية، ولا شأن للجيش بذلك.
ومع ذلك، فالمجلس العسكري هو في نظر البعض متواطِـئ مع الرئيس مبارك، لأنه لم يتخذ إجراءات قانونية لمحاكمته ونجليْـه وزوجته، ناهيك عن عدم اتِّـخاذ قرار بشأن حلّ الحزب الوطني، الذي أفسد الحياة السياسية والاقتصادية في مصر لمدة أربعين عاما، أو على أقل تقدير، هو - أي المجلس العسكري - بطيء الحركة في مواجهة فلول النظام السابق ورموزه الكبيرة، من الوزراء ورجال الأعمال المتورِّطين في عمليات فساد كُـبرى، الأمر الذي يساعد إما على هروبهم إلى الخارج أو تحويل الأموال التي نهبوها إلى الخارج وبما يُصعِّـب من عملية استردادها.
وفي جمعة التطهير، المعلن عنها قبل ثلاثة أيام، هناك عشرة مطالب، على رأسها المحاكمة العاجلة للرئيس السابق مبارك ورموز نظامه الكبار والقَـصاص العادل والسريع من قَـتَـلة الشهداء، والإسراع في خطوات استرداد الأموال المنهوبة ووضع قانون يضع حدّا أدنى للأجور، يضمن عيشة كريمة للعاملين بالدولة، وحلّ المجالس الشعبية ومحاسبة المسؤولين عن الانفلات الأمني وإعادة الشرطة إلى الشارع.
وفي كل هذه المطالب، ثمة قوانين لابُـد من تشريعها، وهياكل ومؤسسات لابُـد من إعادة بنائها، وقضاء لابُـد أن يأخذ وقته في محاسبة المتورّطين في قضايا الفساد، غير أن الثائرين يريدون نتائج على الأرض فورا، أيا كان الترتيب المتّـخذ لذلك.
دفاع عن المجلس العسكري
هذه المسافة التي يصنعها البعض بين المجلس العسكري وبين الناس، أفرزت بعض مدافعين عن أداء الجيش أخذوا يحذِّرون من مخاطر الوقيعة بين المجلس العسكري والمواطنين وينتقدون الذين يعملون على تشويه الجيش ووضع مسافة كبيرة بين جيش الشعب والشعب نفسه، ويحذِّرون من طول أمَـد بقاء القوات العسكرية في الشوارع والميادين، بدلا من أن تكون في موقعها الطبيعي في مواقع التدريب وعلى الحدود لحمايتها ويدعون إلى سرعة التحوّل إلى السلطة المدنية المنتخبة والرئيس المنتخب والدستور الجديد.
غير أن هذه الأصوات تغيب تماما في زحمة نغمات النّـقد والمطالب الثورية المُـتتالية، بحيث يبدو المشهد مُـنحازا إلى جهة النقد وبعيدا عن الحد الأدنى من تفهُّـم طريقة المجلس العسكري في إدارة الأمور والتحديات التي تتزايد لحظة بعد أخرى.
الإعلان الدستوري وانتقادات أخرى
الانتقادات الموجّـهة إلى المجلس العسكري الأعلى أخذت في التصاعد، بعد الإعلان الدستوري الذي صُمِّـم بطريقة جمعت بين المواد الثمانية التي تم الاستفتاء عليها في 19 مارس الماضي، وتركّـزت حول شروط ترشيح الرئيس ونائبه وبين عدد كبير من مواد دستور 1971 (54 مادة) المكْـروه والمرفوض من كل القوى الثورية، باعتباره دستورا غيْـر ديمقراطي وأفسح المجال أمام سلطات هائلة للرئيس في مواجهة السلطتيْـن، التشريعية والقضائية، وأنه لا يصلح لمصر الثورة المتطلِّـعة إلى ديمقراطية مكتملة الأركان.
وبالرغم من أن الإعلان الدستوري ليس سوى وثيقة مؤقّـتة بطبيعتها تحوي جملة مبادئ عن حقوق المواطنين والانتخابات الرئاسية والبرلمانية، ولم تحدد بشكل قاطع نظام الحكم في الدولة وتركت الأمر إلى ما بعد الانتخابات التشريعية، التي ستأتي ببرلمان جديد سيكون مكلَّـفا بتشكيل جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد في غضون ستة أشهر، ويتم الاستفتاء عليه في غضون أسبوعين آخرين، لكنه - أي الإعلان - أثار موجة انتقادات، لشموله على المادة الثانية الشهيرة من الدستور 1971، الخاصة بأن الشريعة الإسلامية، مصدر رئيسي للتشريع والتي يتخوف منها الليبراليون وأنصار الثورة ويروْن أنها تُـمهِّـد لدولة دينية، ولشموله أيضا على نسبة 50% للعمال والفلاحين ولأنه لم يُـلْـغ مجلس الشورى الذي يتحكَّـم من خلال المجلس الأعلى للصحافة، التابع للمجلس في أمور الصحافة القومية التي تملكها الدولة.
هذه الانتقادات وغيرها، بدت لدى الفريق الآخر باعتبارها تحصيل حاصل وتعكس فِـكرا غير ديمقراطي ومناقضا للأفكار الثورية، التي يُـفترض أن الثورة هي الأشد حِـرصا عليها وتميل إلى ممارسة نوع من الوصاية السياسية والفكرية على باقي فئات المجتمع، التي تتطلع إلى ممارسة حقوقها الأساسية في الاختيار الحر لبرلمان يقود العملية السياسية لاحقا وعبْـره يتقرر حوار مجتمعي واسع، للوصول إلى وثيقة دستورية دائمة تحصِّـن الحريات العامة وتضمَـن نظاما سياسيا ديمقراطيا حقيقيا.
ملامح أخرى من الارتباك والقلق
هذا الجدل حول جدوى الإعلان الدستوري والخطوات التي يجب أن تُـتخذ لترسيخ مطالب الثورة، يشكِّـل جزءا من صورة الارتباك السائدة في المجتمع المصري في اللحظة الراهنة. صحيح أنه جزء مهِـم وحيوي وصحيح أنه مرتبط أساسا بإحداث تحوّلات واتخاذ قرارات تضمَـن أن لا يعود النظام القديم عبْـر رموزه النافذة ليُـسيطر مرة أخرى على النظام الجديد، لكن الصحيح أيضا، أن الشعور الغالب هو أن مصر الآن وبعد أن نفضت عن نفسها الأشكال المختلفة من الوصاية السياسية والأمنية والإعلامية، بدأت تكشف عن معادلات سياسية واجتماعية جديدة. فثمّـة تمكن لظاهرة البلطجة بكل أشكالها من خطْـف للرجال والإناث معا والقتل والحرق عمْـدا والسرقة المسلحة وهتْـك العرض والاعتداء على الممتلكات الخاصة والعامة وترويع المواطنين في أحياء بكاملها والاعتداء على رجال الشرطة، حين يقومون بواجباتهم المختلفة، والبناء المُـخالف على أراضى الدولة والسَّـطو على منازل المواطنين.
والحصيلة حسب مصادر وزارة الداخلية المصرية، أن 2435 مواطنا تعرّضوا لهذه الأشكال المختلفة من البلطجة خلال شهر واحد فقط حتى 28 فبراير الماضى وحسب.
ظاهرة البلطجة والخروج على القانون تُـقلق المواطن العادي قبل المواطن المسؤول وتُـعيد تشكيل حركة الناس في السفر الداخلي وفي الاستثمار وفي نقل السلع بين محافظة وأخرى، بل حتى في ارسال الأبناء إلى المدارس والجامعات، حتى أن بعض المواطنين العاديين بدؤوا يترحّـمون على الأمن في ظل النظام السابق ويترحّـمون أيضا على حالة الاقتصاد التي ذهبت ولم تعُـد بعد.
الثورة بين الدولة المدنية والدولة الدِّينية
مصدر آخر للقلق، تعيشه الطبقة الوسطى على اتساعها، ويتعلق بمصير الدولة المدنية في مصر في ضوء الظهور الكبير للسلفيين وحركات الإسلام السياسي، والذين يعملون على فرض أجندة مجتمعية مُـغلَّـفة بشعارات وتفسيرات دينية منغلِـقة ورافضة للآخر، ويسعون إلى تغيير ما يرونه مُـنكرا وخروجا على الشّـرع بأيديهم، مثل هدم الأضرحة التي تُـعَـد ذات شأن لأعضاء الحركة الصُّـوفية، بينما تعَـد منكرا لدى السلفيين.
وبينما تُطرح قضية الحوار بين السفليين والصوفية لوأْدِ الفِـتنة المجتمعية التي تطلُّ برأسها من مناطق ريفية ومرشّـحة للانتقال إلى مناطق حضرية شاسعة، يتطوّر الأمر إلى حدِّ التهديد بحرب أهلية بين الطرفيْـن، وكل منهما مُسلح بفتاوى تصِـل إلى حدِّ تكفير الآخر بعد تسفيهه ورفع الإيمان والإسلام عنه.
المواجهة بين السلفيين والصوفية لم تكن في بال الثورة وبال مناصريها، ولكنها فرضت نفسها على المجال العام، لاسيما وأن حمَّـى تشكيل الأحزاب أخذت في الارتفاع بين كل القوى السياسية تقريبا، ولكنها ذات حماس خاص لدى السلفيين الذين يُقال أن سبعة أحزاب سوف تشكل من بينهم لتعكس فكرهم وقناعاتهم الإيمانية والفكرية، ناهيك عن أربعة أحزاب أخرى تُـجرى الدّعوة إلى تشكيلها من أعضاء الحركات الجهادية الإسلامية وحزب آخر لجماعة الإخوان المسلمين وآخر تحت مسمى الوسط، أعلن عن شرعيته قبل أيام قليلة من تخلي مبارك عن الحكم، وجميعها تقول إنها ذات أحزاب مدنية وذات مرجعية دينية إسلامية.
كثرة الإعلان عن أحزاب ذات مرجعية دينية، أصبحت مصدرا للتوجّـس والخوف، مما قد يأتي في انتخابات حرة بلا وصاية من أية جهة كانت، إذ يُرجِّـح المتخوّفون أن يأتي برلمان يسوده ذوي الفكر الديني، ومن ثم يفرضون دستورا ذي مسحة دينية بشكل أو بآخر، ومن ثم نصبح أمام دولة دينية بامتياز وتصبح الدولة الحديثة التي طالما حلم بها المصريون، في خبر كان. |