CET 00:00:00 - 06/06/2009

مساحة رأي

بقلم: نسيم مجلي
المثقف والسلطة:
ويوضح الدكتور لوقا أن محمد علي لم يكن يثق بالمصريين وكان يتخذ أعوانه من الأجانب يشتريهم صغارًا كما كانت تشتري المماليك، ويسلمهم في القلعة إلى شخص موصلى يدعى "حسن أفندي الدرويش" ومن بعده إلى شخص آخر تركي يدعى "روح الدين أفندي"، ليتعلموا الخط والحساب واللغة التركية إلى جانب التمرينات العسكرية، لتكوين طبقة أرستقراطية مشتراة بالمال تدين له وحده بالولاء ويحكم بواسطتها البلاد، لم يدخل مدرسة اللغة إذًا إلا عدد محدود من الصبية الأتراك والشراكسة والجيورجيين والأكراد والأرمن، ومن هذا الخليط العثماني انتخب محمد علي معظم أعضاء بعثته، ولم يكن بينهم من المصريين إلا خمسة، وحينما أوشكت البعثة على السفر أشار حسن العطار على الوالي بأن يضيف إلى الطلبة إمامًا يسهر على شئون دينهم في تلك البلاد البعيدة، ولم يستطيع محمد علي أن يرفض هذا الاقتراح، وهكذا عيّن حسن العطار تلميذه رفاعة إمامًا للبعثة.

فقد عاد الطهطاوي إلى القاهرة في عام 1831 وتولى تحرير الصحيفة الوحيدة في مصر وهي الجريدة الرسمية، ثم أسس مدرسة لتعليم اللغات الأجنبية وهي المقابل المصري لمدرسة اللغات الشرقية بباريس، وضع مطبعة بولاق الشهيرة في خدمة مكتب الترجمة الذي أسسه، هكذا فتح الطهطاوي عدة جبهات فكرية دفعة واحدة، وقد أدى نشاط الطهطاوي إلى ظهور الكثير من القراء والمعلمين والمهندسين بالتعاون الوثيق مع جماعة سان سيمون، وكان عمله هذا تقدميًا أثار مخاوف الوالي عباس باشا فنفاه إلى السودان عام 1850.

ضرب مشروع الطهطاوي الثقافي:
في تحليله لأسباب الانقلاب على الطهطاوي يقول أنور لوقا:
كان محمد علي يعتمد على الأرستقراطية العثمانية، فبعثة 1844 - 1849 التي سميت في باريس بـ "المدرسة العسكرية المصرية" كانت تجهر دون وجه حرج بالتمييز الإجتماعي، يظهر ذلك بوضوح من خلال تركيبتها، كانت مؤلفة من ثلاث مجموعات منفصلة: مجموعة الأمراء، ومجموعة الباشوات، ومجموعة الأفندية، وقد أعطتنا لاحقًا علي مبارك الذي كان في البداية مجرد أفندي، لا ريب في أن أعماله أثرت على النهضة في مصر بعد الطهطاوي ولكنه كان إنتهازيًا كبيرًا، فقد عداه إسماعيل باشا برزائله وكان زميله في فرنسا قبل أن يصبح الخديوي، وعندما عاد علي مبارك إلى القاهرة ابتدأ بتدمير مدرسة المهندسخانة ومكتب الترجمة على الرغم من أنه كان خريج الأولى كمهندس، وقد فعل ذلك لنيل رضى الوالي عباس باشا، ومعلوم أن هاتين المؤسستين كانتا مسؤولتين عن الغليان الثقافي الذي يقلق الباشا، ثم نفى الطهطاوي إلى السودان مع صديقه بيومي منشط المهندسخانة التي أقيل مديرها "لامبير" من منصبه، وكان أشد أتباع سان سيمون إخلاصًا للمصريين.

وهكذا تم سحق ثورة ثقافية حقيقية نشبت قبل ثورة عرابي عام 1882، هذه الثورة التي تذرع بها الإنجليز لإحتلال البلاد، وقد أرسل الخديوي توفيق (ابن اسماعيل) خادميه المطيعين علي باشا مبارك الذي كان وزيرًا آنذاك ثم سلطان باشا رئيس البرلمان وبطل الرواية التاريخية الوحيدة التي كتبتها "سلطان أفندي" لكى يدلا القوات الانجليزية إلى الطريق الصحيح بعد إنزالها من البحر، وكانت مهمة سرية وخيانة عظمى.

المعلم يعقوب ومشروع الإستقلال الأول:
وفي كتابه "هذا هوالمعلم يعقوب" الذي أصدره المجلس الأعلى للثقافة سنة 2001 يواصل أنور لوقا بحثه عن المهاجرين المصريين إلى فرنسا ويقول أن يعقوب رجل ينتمي إلى التاريخ الإقتصادى -الذي تحول تحولاً جذريًا في عصره- ولا ينتمى مطلقًا إلى الطائفية (فكلمة "قبطي" لم ترد أبدًا في مشروعه) من جذوره العريضة بالصعيد، ودرايته العملية بالقيم الإقتصادية وانخراطه في تيارات التواصل التجارية الدولية المتلاقية في مصر -رغم القيود المحلية- نبع مشروع استقلال مصر، وأصبح عبر الأحداث غاية كفاحه المتواصل ضد الرجعية.

من ذلك مثلاً.. الأثر الذي أحدثه وصول المهاجرين المصريين إلى فرنسا في الأزياء وفي الفنون الجميلة وفي الأدب والفكر مما أصبح من قيم الحياة الرومانتيكية في عهد الإمبراطور نابليون، كذلك اكتشف من بين الجنود المجهولين الذين ذهبوا مع يعقوب روادًا كبارًا في الفكر واللغة والأدب، فهويقول "وممن صنعوا نهضة الاستشراق اللغوي في أوربا فتى مغمور من أبناء أسيوط عمل كاتبًا عند يعقوب ويحمل اسمه -إليوس بقطر- قاموس فرنسي عربي وضعه فأصبح عمدة الدارسين، وبداية نقل ألفاظ الحضارة العصرية، بالإضافة إلى العلامة القس يوحنا الشفتشي الذي جمع بين تعمق اللغات القديمة فكان العضوالشرفي الوحيد في لجنة تأليف موسوعة "وصف مصر" ورغم أهمية دوره في المسئولية العسكرية ضابطًا في الفيلق القبطي إلا أن التاريخ قد نسى وجوده مع أن شامبليون كان يسعى إليه عقب صلاة يوم الأحد في كنيسة Saint Roch بجوار اللوفر لينطق له بوضوح ألفاظ اللغة القبطية التي فتحت له السبيل نحو أصوات الهيروغليفية، فكأن باعث الحضارة الفرعونية تسلم منه المفتاح لفك رموز الهيروغليفية.

وبعيدًا عن هذه الجوانب الطريفة، فإنه يطرح القضية بصراحة: هل كان يعقوب معاونًا للإحتلال الفرنسي لمصر،أم كان رائدا للاستقلال الوطني؟ ثم يقول "إن اختفاء شخصيته البطولية –فجاة كما في أفلام الرعب– من شأنه أن يدفع الجميع إلى التساؤل.
ويجيبنا معاصره الجبرتي بتصوير المعلم يعقوب في موقف الموتور الحانق والمدافع عن أقليته القبطية المضطهدة، وهي نفس الصورة التي نجدها بعد أكثر من قرن ونصف في كتابات المتطرفين الذين هبوا لمعارضة لويس عوض حين نُسب إلى يعقوب مذهبًا سياسيًا حديثًا، ولماذا ننسى أن الشيخ الجبرتي نفسه قد تعاون مع الفرنسيين إذ كان عضوًا عاملاً "بالديوان" في عهد "مينو" -القائد الفرنسي صاحب نظرية احتلال مصر احتلالاً دائمًا-؟، وتكفيرا عن ذنبه هذا سارع الجبرتي إلى الترحيب الصاخب بعودة الإحتلال التركي، وأهدى للصدر الأعظم يوسف باشا كتابه "مظهر التقديس بزوال دولة الفرنسيس" وهذه أول سطوره:

"حمدًا لمن جعل كلمة الذين كفروا السفلى وكلمة الله هي العليا، وجعل الدولة العثمانية، والمملكة الخاقانية بهجة الدين والدنيا".
وهكذا يكشف أنور لوقا انتهازية الجبرتي ونفاقه وتعصبه ضد يعقوب، وكان الدكتور شفيق غربال أول من تكلم عن يعقوب ونشر وثائقه في كتابه "الجنرال يعقوب والفارس لاسكارس" فقال:

"أول ما في تأييد يعقوب للتدخل الغربي هو تخليص وطنه من حكم لا هو عثماني ولا هومملوكي, وإنما هو مزيج من مساوئ الفوضى والعنف والإسراف ولا خير فيه للمحكومين ولا للحاكمين إذا اعتبرناهم دولة قائمة مستمرة، فرأي يعقوب أن أي نوع من أنواع الحكم لا يمكن أن يكون أسوأ مما خضعت له مصر قبل قدوم بونابرت، وثاني ما في تأييده للاحتلال إنشاء قوة حربية مصرية (قبطية في ذلك العهد) مُدربة على النظم العسكرية الغربية، ونحن نسلم بأن هذه القوة كانت أداة من أدوات تثبيت الإحتلال وإلا لما سمح الفرنسيون بإنشائها غير أنه يلزمنا أن نذكر أن القائد كليبر نفسه الذي أذن بإنشاء القوة القبطية كان لا يرى البقاء في مصر"، ثم يشير الدكتور شفيق غربال إلى "أن بعض أصدقاء يعقوب من الفرنسيين اهتموا بمستقبل القوة القبطية أكثر مما اهتموا بحاضرها وأنهم كانوا يحبون أن يروها على حال من البأس يجعلها العنصر المرجح في مستقبل مصر بعد جلاء الفرنسيين عنها".

ثم يمضي شفيق غربال في توضيح رأيه قائلاً:

"كان وجود الفرقة القبطية إذًا أول شرط أساسي يمكّن رجلاً من أفراد الأمة المصرية يتبعه جند من أهل الفلاحة والصناعة من أن يكون له أثر في أحوال هذه الأمة إذا تركها الفرنسيون وعادت للعثمانيين والمماليك يتنازعونها ويعيثون فيها فسادًا، وبغير هذه القوة يبقى المصريون حيث كانوا بالأمس: الصبر على مضض أو الإلتجاء لوساطة المشايخ أوالهياج الشعبي الذي لا يؤدي إلى تغيير جوهري والذي يدفعون هم ثمنه دون سواهم.. وهنا الفرق الكبير بين يعقوب وعمر مكرم، يعقوب يرمي إلى الإعتماد على القوة المدربة والسيد عمر مكرم يعتمد على الهياج الشعبي الذي لا يصلح قاعدة للعمل السياسي الدائم المثمر".

ثم يضيف غربال: "وقد رأينا ما كان من أمر السيد عمر مكرم لما وجد أمامه محمد على ليس خورشيد، هذا الفرق بين الأداة التي اختارها يعقوب وتلك الأداة التي اختارها السيد عمر مكرم ليس في الواقع إلا مظهرًا لفروق أعمق، إذًا ما حاجة هذا السيد نقيب الأشراف إلى جيش والرجل لا يتصور مصر إلا خاضعة لحكم المماليك تحت سيادة السلطان"، بعكس يعقوب الذي "لا يريد عودة المماليك والعثمانيين وإنما يعمل على أن تكون لفئة من المصريين يد في تعزيز مصير البلاد بدلاً من أن يبقي حظهم كما كان في الحوادث الماضية مقصورًا على التفرج أو الاشتراك في نهب المهزومين.. أراد يعقوب أن يكون الأمر غير ذلك وعوّل على أن تكون القوة الحربية المصرية الجديدة مدربة على النظم الغربية فكان سبّاقًا إلى تفهم الدرس الذي ألقاه انتصار الفرنسيين على المماليك أوقل إلى إدراك ما أدركه محمد على بعد قليل من أن سر انتصار الغربيين في جودة نظامهم وبخاصة نظمهم العسكرية فسرق البرق من الآلهة وكان له ما كان".

يشرح الدكتور أنور لوقا الأسباب الحقيقية التي حتمت تكوين الفيلق القبطي تحت عنوان (حتمية المقاومة) فيقول:
تولى يعقوب بعد عودته من الصعيد -في سبتمبر 1799- إدارة النظام المالى في مصر، إلا أنه لم يستطع تحقيق أي إصلاح تحت ضغط الأحداث التي تلاحقت وأجبرته على تكوين قوة مسلحة.

كان كليبر قد عقد مع ممثلي الدولة العثمانية في 24 يناير سنة 1800 معاهدة العريش التي نصت على جلاء الفرنسيين وجدولته، وطوت الدولتان صحيفة القتال، ولكن الحكومة الإنجليزية رفضت إقرار الإتفاقية فانتهز العثمانيون الفرصة ونقضوا عهدهم، وزحف يوسف باشا –الصدر الأعظم- حتى بلبيس، وتقدمه طليعة جيشه بقيادة ناصف باشا نحو المطرية، وهب الفرنسيون غاضبين فهجموا على الأتراك هجومًا حاسمًا في موقعة عين شمس (20 مارس 1800) وهرب ناصف باشا وبعض رجاله فتسللوا إلى القاهرة ومعهم من المماليك إبراهيم بك والألفي وحسن الجداوي، ويسجل عبد الرحمن الرافعي "ومع أن ناصف باشا كان في الواقع فأرًا من ميدان القتال، وبالرغم من أن وصوله كان بعد أن حلت الهزيمة بالجيش العثماني، فإن الإشاعات كانت قد طارت من المدينة بأن الجيش الفرنسي انهزم، وأشعل الهاربون -ليقلبوا الأوضاع- فتنة طائفية احتدمت ضد الأقباط، ويلقي الجبرتى المسئولية على نصوح باشا الذي نادى "اقتلوا النصارى وجاهدوا فيهم، ويبرز دور الحجازية والمغاربة في ارتكاب المنكرات من نهب وقتل، ومنهم من قطع رأس البنية الصغيرة طمعًا فيما على رأسها وشعرها من الذهب"، وارتاع بعض أغنياء الأقباط فغادروا الحى ولجأوا إلى دور بعض أصدقائهم المسلمين في مصر القديمة، ولم يتزعزع يعقوب بل تحصن في الحي ونظم الدفاع عنه والعيش فيه بشجاعة وحكمة، طول حصار دام عشرين يومًا ويقول الجبرتي: "أما يعقوب فإنه كرنك في داره بالدرب الواسع جهة الرويعي، واستعد استعدادًا كبيرًا بالعسكر والسلاح وتحصن بقلعته التي كان شيدها بعد الواقعة الأولى (أي ثورة القاهرة الأولى أيام بونابرت)، فكان معظم حرب حسن بك الجداوي معه".

وأسفرت المحنة عن تكوين جيش من الأقباط نظمه يعقوب على نفقته الخاصة، وجمع في صفوفه شبابًا من القاهرة ومن الصعيد، وتلك ظاهرة فذة في تاريخ مصر: جيش وطني، لاحظ شفيق غربال أنه "أول جيش كوّن من أبناء البلاد بعد زوال الفراعنة"، وارتدى هؤلاء الجنود زيًا خاصًا ودربهم ضباط فرنسيون على أساليب الدفاع والقتال الحديثة تحت إشراف المعلم يعقوب الذي قلده كليبر قيادة الفيلق ملقبًا إياه أغا.

وقد ذهب بعض الكتّاب إلى إدراج هذا الفيلق القبطي في قائمة التشكيلات التي استحدثها بونابرت في مصر وضمها إلى وحدات جيشه للاستعاضة بها عما كان يفقده من الرجال واختصاصهم منذ انقطعت صلته بفرنسا بعد شهر واحد من نزوله مصر، إذ حطم الإنجليز أسطوله في موقعة أبى قير البحرية (أغسطس 1798)، كانت تلك الفرق كما تدل عليها أسماؤها -"الإنكشارية" و"المماليك" و"اليونان" و"السوريون"- تتشكل من أغراب نزحوا إلى مصر وافدين من مختلف أنحاء الإمبراطورية العثمانية، فهم أشبه بالجنود المرتزقة في العصور السابقة.
ويكفي لتمييز الفيلق القبطي أنه لم يظهر إلا مؤخرًا -في أبريل 1800- أي بعد انقضاء ثلاثة أشهر على تقرير جلاء الفرنسيين في معاهدة العريش، وأنه تعبير عن مقاومة حتمية ضد المماليك والترك في سياق علاقة سياسية ترجع إلى ما قبل الحملة الفرنسية، وأنه تنظيم صدر عن تمويل مالي ذاتي، وستتجلى هذه الأصالة في مشروع استقلال مصر الذي أصبح هدف المعلم يعقوب.

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت عدد التعليقات: ٤ تعليق