بقلم: د. عبدالخالق حسين وكالعادة، أخذ نقاد أوباما عليه أنه لم يأتِ بجديد، وأن معظم ما جاء في الخطاب، فقد قاله سلفه الرئيس السابق جورج دبليو بوش، بل وذهب الناطق الرسمي للحركة المصرية من أجل التغيير "كفاية" إلى القول بـأن خطاب الرئيس الأميركي باراك أوباما "... ما هو إلا نسخة كربونية من سياسة بوش ولكن بتعبيرات أوباما." قد يكون هؤلاء على بعض الشيء من الحق، فجورج بوش حاول كل ما في وسعه حل مشاكل الشرق الأوسط، والتي جاء على ذكرها أوباما في خطابه، ولكن بأسلوبه المعروف، وبتعبيراته الخاصة. على أية حال، ومهما قيل في كون ما قدمه أوباما جديداً أو قديماً مكرراً، فهذا لا يقلل من أهمية الخطاب، إذ كما يعرف البلاغيون، أن المهم في عرض أية قضية ليس الفحوى فحسب، بل والطريقة التي تُعرَض بها القضية. وفي هذا المجال، نعتقد أن أوباما قد حقق نجاحاً باهراً كواحد من أعظم خطباء العصر. فلأول مرة يقف رئيس أمريكي يتمتع بجاذبية كارزماتية عالية، ويلقي خطاباً من عاصمة دولة غالبية سكانها عرب مسلمون، موجهاً إلى المسلمين، وبالأخص إلى الشريحة الواسعة منهم، أي الغالبية الصامتة التي لا حول لها ولا قوة، وحقق نجاحاً لا يستهان به في كسب عقول وقلوب هذه الشريحة، وبالأخص الشباب منهم. كما وأخذ بعض النقاد على أوباما في خطابه، تواضعه أمام الجمهور، وفسروا هذا التواضع بأنه نوع من النفاق لتسويق نفسه وأفكاره!! أعتقد أن هذه الظاهرة تحتاج إلى وقفة. إن تفسير التواضع في مثل هذه الحالات إلى نفاق، هو جزء من الثقافة العربية والتي هي بدوية في الأصل ومهما تغلفت بالحضارة، إذ كما قال نزار قباني (لبسنا ثوب الحضارة والروح جاهلية). لذلك أعتقد أن الذين وصفوا تواضع أوباما إثناء إلقاء خطابه أمام الجماهير، بالضعف والنفاق، أنهم على خطأ وأن تواضعه ليس من موقف الضعف، فهو رئيس أقوى دولة في العالم، ويتمتع بأكبر قدر من الكاريزما والشعبية، ليس في بلاده فحسب، بل وفي العالم أجمع. وبعد مقدمة تمهيدية قيمة ورائعة، تناول أوباما المشاكل الرئيسية والصراعات الطاحنة التي تعاني منها شعوب المنطقة، والجهات التي تسببت في تسميم الأجواء وتوتر العلاقات، وسوء الفهم بين العالم الإسلامي والغرب عامة وأمريكا خاصة. فتطرق إلى العنف الذي يمارسه المتطرفون باسم الإسلام وبرأ منهم الإسلام كدين، والمحنة الفلسطينية، والصراع العربي- الإسرائيلي، والبرنامج النووي الإيراني، والموقف من الديمقراطية، والحرية الدينية، وعن الأقليات، وحقوق المرأة، وأخيرا تحدث عن التنمية الاقتصادية وتوفير الفرص. وفي رأيي فقد أجاد في جميع هذه المسائل بكل وضوح، كما وضح ذلك من تفاعل الجمهور الإيجابي معه. أرى من المفيد هنا أن أنقل نكتة متداولة في بلدان الشرق الأوسط، وقد ذكرها الكاتب السياسي الأمريكي المعروف، توماس فريدمان ضمن مقال له نشر في صحيفة نيويورك تايمز والشرق الأوسط اللندنية يوم 4/6/2009، بعنوان (محادثة مع أوباما على الهاتف) مفادها أنه "كان هناك يهودي ورع اسمه غولدبيرغ يحلم دائما بالفوز باليانصيب، وكان يذهب كل سبت إلى الكنيس اليهودي داعيا: «إلهي، لقد كنت يهوديا ورعا طوال حياتي. فما السيئ في أن أفوز باليانصيب؟»، ولكن قائمة الفائزين كانت تُعلَن ولم يكن غولدبيرغ من بينهم. والأسابيع تمضي ... ولا يفوز غولدبيرغ. وأخيرا في يوم سبت انتحب غولدبيرغ وشكا إلى السماء قائلا: «لقد كنت ورعا لزمن طويل، فماذا عليّ أن أفعل كي أفوز باليانصيب؟»، فانشقت السماء وسمع صوتا يقول: «غولدبيرغ، اشتر تذكرة!». وهنا بيت القصيد. لقد جاء أوباما إلى الشرق الأوسط، وقال الحقيقة وبلَّغ الرسالة، ولكن المشكلة لا أحد يتمتع بالشجاعة ليقبل بالحل الممكن ويعمل على تحقيق السلام والتقدم في المنطقة كما عمل أنور السادات من قبل. فقادة المنطقة يتحدثون بلسانين، لسان واقعي في مجالسهم الخاصة وراء الأبواب المقفلة، فيعترفون بحق الآخر، ولسان في العلن ينكرون على الآخر حقه في الحياة. لذلك قال أوباما لهؤلاء بصراحة: " إننا لا نستطيع أن نفرض السلام ويدرك كثيرون من المسلمين في قرارة أنفسهم أن إسرائيل لن تختفي، وبالمثل يدرك الكثيرون من الإسرائيليين أن دولة فلسطينية أمر ضروري. لقد آن الأوان للقيام بعمل يعتمد على الحقيقة التي يدركها الجميع. " هذا الكلام ينطبق على حماس خاصة، والتي يعترف زعيمها خالد المشعل أمام الإعلام الغربي بإيمانه وقبوله بحل الدولتين، وحق إسرائيل في البقاء والعيش بسلام، بينما يرفض التصريح بذلك والحلول الواقعية المتاحة أمام الإعلام العربي. فأوباما لا يستطيع فرض ضغوط على إسرائيل بأن تقبل حماس، ما لم تعترف حماس علناً بدولة إسرائيل وحقها في البقاء، وبالاتفاقيات التي أبرمت بين الإدارة الفلسطينية وإسرائيل، وتتعهد بنبذ العنف. وطالما تصر حماس على شروطها التعجيزية بتحرير الأرض من النهر إلى البحر وإزالة إسرائيل، فستبقى مهمة أوباما مستحيلة، وستدفع شعوب المنطقة، وبالأخص الشعب الفلسطيني، المزيد من الخسائر الباهظة في الأرواح والممتلكات. والسؤال الآخر الذي يستحق الطرح هو، هل نجح أوباما في كسب قلوب وعقول العرب والمسلمين وغير صورة أمريكا في أذهانهم؟ ألجواب هنا، (نعم ولكن). لقد نجح أوباما في كسب قلوب وعقول شريحة واسعة من المسلمين الذين تأثروا بصدق وحرارة الخطاب وما تميز به من وضوح وسهولة الفهم وبدون أي تعقيد. ولكن هذا المكسب يمكن أن يتم نسيانه ويزول بسرعة ما لم يليه عمل إيجابي لتحقيق هذه الأهداف. فالمعروف أن غالبية العرب والمسلمين مدمنون ليس على كراهية أمريكا فحسب، بل ومدمنون على الكراهية والعداوة ضد بعضهم البعض أيضاً. وما حصل من اقتتال بين حماس ومنظمة فتح قبل أيام تأكيد على صحة ما نقول. وعليه فتغيير صورة أمريكا في أذهان المسلمين ليس سهلاً وليس بالمهم أصلاً، فعلى العرب أن يحبوا بعضهم بعضاً قبل أن يحبوا أمريكا، والأمريكان يعرفون هذه الحقيقة جيداً. وفيما يخص موقف أوباما من القضية العراقية، ورغم معارضته للحرب ولسياسة سلفه الرئيس بوش، إلا إنه أكد في خطابه "... أن الشعب العراقي في نهاية المطاف هو الطرف الكاسب في معادلة التخلص من الطاغية صدام حسين ... وأن أمريكا اليوم تتحمل مسؤولية مزدوجة تتلخص في مساعدة العراق على بناء مستقبل أفضل وترك العراق للعراقيين." وقال أيضاً: " إنني أوضحت للشعب العراقي أننا لا نسعى لإقامة أية قواعد في العراق أو لمطالبة العراق بأي من أراضيه أو موارده. ويتمتع العراق بسيادته الخاصة به بمفرده. لذا أصدرت الأوامر بسحب الوحدات القتالية مع حلول شهر أغسطس القادم ولذا سوف نحترم الاتفاق المبرم مع الحكومة العراقية المنتخبة بأسلوب ديمقراطي والذي يقتضي سحب القوات القتالية من المدن العراقية بحلول شهر يوليو وكذلك سحب جميع قواتنا بحلول عام 2012. سوف نساعد العراق على تدريب قواته الأمنية وتنمية اقتصاده. وسنقدم الدعم للعراق الآمن والموحد بصفتنا شريكا له وليس بصفة الراعي. " أعتقد أن هذا الموقف واضح وسليم ولصالح العراق، إذ يشير إلى التزامات أمريكا إزاء العراق، وعلى رأس هذه الالتزامات دعم أمنه واقتصاده ونظامه الديمقراطي. وهذا التأكيد تجاهله الإعلام العربي، بل وأزعج بعض الأنظمة العربية التي تذرف دموع التماسيح على السيادة الوطنية العراقية، ولكنها فضحت نفاقها عندما أرسلت الوفود لمناشدة دول الأعضاء الخمس في مجلس الأمن مطالبة بعدم إخراج العراق من البند السابع. فهل هناك ازدواجية ونفاق أكثر من هذا الموقف المخزي ضد الشعب العراقي؟ العنوان الإلكتروني: Abdulkhaliq.Hussein@btinternet.com |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا |
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا |
تقييم الموضوع: | الأصوات المشاركة فى التقييم: ٠ صوت | عدد التعليقات: ٠ تعليق |