بقلم - نبيل المقدس
كنت الثاني في الترتيب بالنسبة لإخواتي الأربعة... كنت الوحيد اللي غاوي فن ومزيكا... وقتها لو شافتني واحدة جارة ماسك عود أو زمارة كانت تبقى فضيحة بجلاجل في الحارة.. وتفضل تنده على أمي وهي عاملة غارة.. عشان تقول لها: هو ابنك ساب مدرسة أبو نظارة.. وماشي وراء فرقة أبو خيارة وبنته العالمة سمارة؟!
والدي حلف بأجداده... أنه لو شافني بالعود قدامه... بأدندن على أوتاره... هيحرمني من ميراثه... واللي كان عبارة عن حُسن سيره وأخلاقه... بعد عمر طويل من حياته... وأعطى لأمي أوامره... إنها ترمي العود بره داره... وتحرمني من مصروفه... عشان أتوب ويمّوت فيّ حبي للمزيكا وألحانه.
دخلت في سريري أبكي... لقيت على طول أمي... بتطبطب على كتفي... وقالت لي: أبوك ليه حق يا ابني... هو عايزك تطلع مهندس مش عامل فني... وعرضت عليَّ عرض في صفي... أنها هتخبأ العود عند أم سوسو جارتي... وفي يوم الأحد أجازتي... ووالدي في شغله بيأدي... تجيب لي العود في حضني... وعند قرب مجيء والدي... تقف في الشباك ناضورجي... وكانت تقدر تميزه وهو جاي حتى ولو متخفي... وتشاور لي عشان أروح جري أرجع العود عند أم سوسو جارتي... وبالمرة كنت أشوف سوسو اللي كانت أول نغمة في قلبي.
قبل الامتحانات بشهر... جت لي أمي وهي على أحر من الجمر... وقالت لي نصيحة مش أمر... هنأجل المزيكا شهر... يعد ما الامتحانات تمر... وطالما أنت هتنجح بدرجات تـُبهج و تـُسر... هحاول أقنع والدك بواقع الأمر... إنك أنت موهوب ولازم موهبتك دي ما تبقاش في السر... أحنا يا ابني نريد لك الخير مش الشر.
أمي تعرف طبيعة كل واحد فينا... عمرها ما تظهر أن لها فضل علينا... ستر وغطى لينا... وتتمنى دايماً أنه ما فيش حد قبلينا... في الإيمان تقوينا... في العلم تغذينا... في المبادئ توعينا... بالمحبة تضحي لينا.
أرجع ثاني لموضوع العود... وبفضل أمي وكلامها لوالدي الودود... أصبح السر اللي بيني وبين أمي ما عدش يعود... وأخذت الثانوية العامة بتعبها معانا المعهود!
كانت دهشتي, هدية والدي لي... عود ودعوة لي... وحكّى لي... أكبر مفاجأة لي:
قال لي والدي... لولا حكمة والدتك ومحبة والدتك... كنت خسرت واحد من أبنائي... والدتك أقنعتني منذ ثلاث سنوات عندما حرمتك من لعبك على العود بأني عليَّ أن أكون مدركاً بما تحبه... لكنها قالت لي لو تركناه بدون ضبط وترويض سوف يترك دراسته ويتجه إلى الموسيقى... وبلباقتها وبمحبتها العميقة ليك أنت وإخواتك افتعلت بأنها تسمح لك باللعب على العود بقدر الإمكان في وقت غيابي لكي تـُشبع فيك حبك للموسيقي.
وفعلاً كانت والدتك ذكية في هذا الأمر... حكيمة ومدركة مدى خطورة حرمناك كلية من هواياتك المفضلة... قالت لي والدتك نجعله يمارس هوايته في بيتنا وتحت إشرافنا, أحسن من يمارسها خارج البيت وبعيد عننا.
لكن تركت العود بعد تخرجي.. وانشغلت في حياتي العملية... وبقى العود معلقاً على الحائط كديكور... تنظر إليه والدتي وتضحك من أعماق قلبها... وتقول لي... أنا كنت متأكدة أن "التعليق" هيكون مصير العود... لأنني أعرف أنك من دون إخواتك تريد أن تتعلم وتتذوق كل الأمور... وفعلاً قد مارست الرسم... مارست الرياضة... مارست القراءة... مارست التمثيل في الكلية، لكنني لم أداوم على أية واحدة منهم رغم إتقاني لهم...
تقول لي أمي أنها كانت متأكدة أنني سوف أكون مهندساً ناجحاً... ما سر هذا الإحساس يا أمي...؟؟ إنها طبيعة الأم المحبة... الأم المخلصة.
الآن جالس أمامها في منزلها العتيق... تنظر إليَّ بحب لا استطيع وصفه... وأحاول أن أداعبها بقولي "فاكرة العود يا أمي" ترد عليَّ ... مالك أنت ومال عود الفطيــــــــر".
كل سنة وأنتِ طيبــــــــة يا أغلى الغاليين يا أمي..!!!!
|