بقلم: هشام منور
مع اهتمام الإدارة الأمريكية الجديدة بملف الشرق الأوسط كمدخل لتحسين صورتها في العالم العربي والإسلامي، ومحاولتها إبداء قدر أكبر من التشدد والضغط على حليفتها "إسرائيل" لتسهيل مهمة مبعوثها إلى الشرق الأوسط "جورج ميتشل"، ومع اعتقاد كثير من المحللين بقرب حصول انفراج فيما يتعلق بالصراع العربي الإسرائيلي، تمر ذكرى حرب عام1967، أو ما بات يعرف في أدبياتنا "المبدعة" في إطلاق التسميات على هزائمنا المعاصرة، بـ«نكسة حزيران»، بعد مرور تسعة عشر عاماً على قيام الكيان الصهيوني على أرض فلسطين التاريخية بتواطؤ دولي مكشوف، وإعلان الاعتراف الرسمي به مباشرة فور قيامه من قبل الدول الكبرى في ذلك الوقت.
لقد جاءت نتائج الحرب كارثية ومدمرة على الصعيد العربي، سياسياً واجتماعياً، إذ انكشفت الحرب عن هزيمة عسكرية أودت بأراض عربية إلى كنف الاحتلال الصهيوني، وبدا للصهاينة أن حلمهم التاريخي "أرض إسرائيل من النيل إلى الفرات" قد تحقق، وأنهم قد استكملوا مشروعهم وحققوا هدفهم الرئيسي المتمثل في الإلغاء الكامل للقضية الفلسطينية وتصفيتها، خاصة بعد صدور قرار مجلس الأمن /242/ ليعزز الاعتقاد الإسرائيلي بتوافق دولي رسمي.
وإذا كانت وقائع تلك الحرب وما تمخضت عنه من آثار ونتائج سلبية على الصعيد العربي لم تكن في الحسبان، فإن ما لحق بالشعب الفلسطيني وحقوقه لم يكن بأحسن حالاً منه. إذ أدت الحرب إلى وقوع ما تبقى من فلسطين التاريخية تحت السيطرة الصهيونية بمن فيها من سكان، وإلى تشريد المزيد منهم ومكابدتهم آلام النزوح واللجوء مرة ثانية. كما تمخضت تلك الحرب عن آثار نفسية سلبية على الشعب الفلسطيني، إذ خامرهم إحساس قوي بالإحباط والقنوط من مستقبل بات أكثر غربة واغتراباً بعد أن كانوا يمنون النفس بتحرير ما سلب منهم عام1948، فإذا بهم يجدون أنفسهم مسلوبي كامل الوطن ومشتتي الأوصال في دول الجوار العربي والعالم.
على الرغم من ذلك، كانت حرب 1967 علامة فارقة في مسيرة جهاد الشعب الفلسطيني، ليس فقط بالمعنى السلبي الذي بقي العديد من الباحثين والمفكرين المهتمين بالشأن الفلسطيني (وما أكثرهم) يقيّمون نتائج تلك المرحلة على أساسه، بل بالمعنى الإيجابي الذي لم نتلمس نتائجه وآثاره إلا مع قيام الثورة الفلسطينية المسلحة والعمل الفدائي الفلسطيني إثر حرب67 مباشرة، ومروراً بانتفاضة عام 87، بما تمثله كل تلك الأحداث من تغيرات نوعية في ماهية الصراع مع العدو الصهيوني ونوعيته ومساراته التي استحالت مقاومة فلسطينية متواصلة ومستمرة تمأسست على مفرزات تلك الحرب وآثارها.
فقد أحدثت تلك الحرب قفزة نوعية في مسيرة جهاد الشعب الفلسطيني وحملت في طياتها وبين ثناياها ما كان ضرورياً لتوفير الشروط الذاتية والموضوعية لبلوغ «الصحوة الفلسطينية»، ومنذ اليوم السابع لحرب 67 بدا وكأن متغيرات جوهرية قد طرأت على الأرض، لم يفطن لها الصهاينة في غمار نشوتهم بما حققوه من انتصار عسكري، إلا أن آثاره ونتائجه سرعان ما تجلت على أرض الواقع لتجعل من كلام البروفيسور (شعياهو ليفوفيتش) إبان حرب 1967 حقيقة ماثلة للعيان، فـ«خلال فترة زمنية قصيرة، (كما تنبأ ليفوفيتش)، لن يكون في دولة «إسرائيل» عامل يهودي ولا مزارع يهودي. سيصبح العرب هم الشعب العامل. بينما سيصبح اليهود مديرين ومفتشين وموظفين ورجال شرطة. فالدولة التي تتسلط على شعب آخر من مليوني نسمة (في ذلك الوقت) ستصبح دولة مخابرات (شين بيت) مع كل ما في ذلك من أبعاد ومخاطر على التربية والثقافة وحرية الرأي والتعبير والتفكير والنظام الديمقراطي. وستدب فيها كل أسباب الفساد التي تسود الأنظمة الكولونيالية. وعندئذ ستضطر السلطة فيها إلى الانشغال بقمع حركات التحرر العربية، وسيصيب جيش الدفاع الإسرائيلي التحلل والتعفن بتحوله إلى جيش احتلال، وبتحول قادته إلى حكام عسكريين».
وهو الأمر ذاته الذي كان يشكل رؤية (بن غوريون) بما له من حنكة ودراية، إذ كان موقفه يدعو إلى التخلي عن التمسك بالأراضي التي احتلها جيشه عام 67 التزاماً منه بحلم "الدولة النقية" التي حاول إنشائها عام 48، فباءت جهوده بالفشل مع بقاء أعداد من الفلسطينيين داخل ما يسمى بأراضي 48 المحتلة. ولكن ما هي الآثار والنتائج الإيجابية التي أفضت إليها حرب 67؟
خلال فترة الشتات الأولى بين عامي 1948 و1967، وهي المرحلة التي شهدت المد الفعلي للتيار القومي العربي، عوّل الشعب الفلسطيني، في معظمه، على امتداده العربي بغية استعادة حقوقه المسلوبة، وانصب اهتمام معظم الفلسطينيين، شأنهم في ذلك شأن غالبية العرب في تلك الفترة، على تحقيق الوحدة العربية كمقدمة لتحرير فلسطين، إلا أن النتائج المباشرة لحرب 67 وما آلت إليه من هزيمة عسكرية وسياسية مفاجئة للتيار القومي العروبي وأنظمته، دعت الشعب الفلسطيني إلى الاعتماد على الذات أكثر من السابق، دون التنكر لامتدادهم العربي، وتم ترجمة ذلك بتعاظم حركة المقاومة الفلسطينية وبلورة هوية فلسطينية حولها.
فجاء تعاظم الدور والممارسة للحركة الوطنية الفلسطينية بعد عام 1967 نتيجة الهزيمة العربية، ورداً فلسطينياً مباشراً على التحدي الذي خلفته حرب 67، وبمثابة تحرك فلسطيني لاستلام زمام المقاومة ضد العدو. كما مثلت حرب 67 مقدمة موضوعية لتوحيد فلسطين جغرافياً وديمغرافياً بعد أن ظلت فلسطين مجزأة ومشتتة لمدة 19 عاماً منذ قيام الكيان الصهيوني. فمن الناحية الجغرافية، ظلت (فلسطين) منذ عام 1948 ممزقة الأوصال بين ما سيطر عليه الصهاينة إبان نكبة 48، وبين السلطة الأردنية على الضفة الغربية، وبين الإدارة المصرية على قطاع غزة، ولم تكن الظروف في ذلك الوقت مواتية للتفكير في إعادة توحيد أي جزء من الأجزاء الثلاثة مع بعضها، بل كان التفكير والتوجه منصباً على تحرير فلسطين بأكملها، دون النظر أو الالتفات إلى إنجاز مراحل أولية ضرورية على طريق ذلك.
وعلى الرغم من كون الاحتلال الصهيوني، عقب حرب 67 للضفة الغربية وقطاع غزة كان احتلالاً وعدوانياً بكل معنى الكلمة، إلا أن الواقع الجديد الذي تم إفرازه هو توحيد السلطة القائمة على فلسطين التاريخية بأكملها، وإن كانت محتلة، مما أدى إلى إعادة تكوين هوية الصراع وبلورته، وإعادة فلسطنة الهوية في كل من الضفة والقطاع، وحصول الشعب الفلسطيني على قدر أكبر من الاستقلال والحرية القدرة على المواجهة. كما أدى ذلك ديمغرافياً إلى إعادة اللحمة لتلك الأجزاء المقسمة من الشعب الفلسطيني بين الإدارات الثلاث، وإعادة التواصل بين أبناء المناطق الثلاثة (عرب 48 والضفة والقطاع).
لقد كانت حرب 1967 علامة فارقة في تاريخ الشعب الفلسطيني والمنطقة العالم بأسره، وأفرزت من التحولات الإستراتيجية الهامة ما نلمسه اليوم من آثار ونتائج على صعيد مواصلة الكفاح الفلسطيني في مواجهة المحتل بهدف تحرير الأرض والإنسان. إلا أن ما تلا ذلك من تحركات سياسية (البرنامج المرحلي عام 1974، وثيقة الاستقلال عام 1988، اتفاقات أوسلو عام 1993) أدى إلى إجهاض تلك المكتسبات الهامة وتفريغها من مضمونها، وتفويت الاستفادة منها آثارها ومفرزاتها على الشعب الفلسطيني، والأمة برمتها. فهل يكرر "البعض" الخطأ الإستراتيجي السابق في تفويت وتفريغ التحولات والنتائج الإستراتيجية الكبرى لحرب 67 من خلال ما "حققه" من اتفاقات سياسية ذات نتائج ومردود هزيل؟!
هشام منور
كاتب وباحث فلسطيني |
المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع |
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك
أنقر هنا
|
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر
أنقر هنا
|