بقلم: سلام خماط
لقد برهنت جميع التجارب الدستورية الناجحة وفي مختلف دول العالم بأنها لم تكن كذلك من دون بناء منظومة متكاملة من الوعي السياسي والحقوقي, واستحالة تحويل الدستور إلى قانون مُلزم للجميع إذا لم تتضافر فيه معايير المهام الوطنية الكبرى ومن أهمها ضمان حاضر ومستقبل أي بلد ما.
لذا نقول إن أخطر ما في الدستور أن يتحوّل من قانون ثابت ودائم إلى قانون يدافع عن مصالح أحزاب وكتل سياسية ساهمت في صياغته فأصبحت نقطة الضعف الجوهرية في الدستور العراقي الحالي, والذي جاء نتيجة لمساومات سياسية بينما نجد أن دساتير العالم تكتب بوحي منهجية واحدة تمثل هموم ومصالح الدولة والمجتمع وليس مصالح النخب السياسية الطارئة والأحزاب التي ولدت نتيجة لسقوط نظام أسسها مَن هب ودب.
هذه النخب لم تجعل من الدستور وثيقة تمثل الأبعاد الكلية للتجربة العراقية بل جعلت منه وثيقة تمثل مصالحهم في توزيع الثروة والمناصب التي إباحتها المحاصصة البغيضة.
من هنا نستطيع القول أن الدستور العراقي الدائم والثابت لم يكن دائماً ولا ثابتاً من دون نخب ثابتة ذات معايير وطنية عامة تتصف بالثبات الوطني في أوقات الانعطافات الحادة والتحولات المفاجئة والأوقات العصيبة.
إن التجربة الدستورية الحالية ما هي إلا عبارة عن تجربة متعثرة ومشوشة من حيث الغاية وما رافقها من مصلحيه وأنانية وتهميش وإلغاء وإساءة لمكونات عديدة من الشعب العراقي وفي مقدمتها المكون الثقافي, ناهيك عمّا تعرض له البعض ممن يطلق عليهم تسمية الأقليات من تهميش كذلك وأبسط مثال على ذلك ما تعرض له إخوتنا المسيحيين ونسبة تمثيلهم في مجالس المحافظات والذي صوّت عليه مجلس النواب بالفترة الأخيرة, أما من حيث الوسيلة فقد لعبت الدعاية والإعلام دوراً مهماً سواء قبل كتابة الدستور أو قبل الاستفتاء عليه إلا أن مراحل التطبيق الفعلي قد كشفت عن المتناقضات الكثيرة في مواده وخضوعها لإرادة القوى السياسية التي أسهمت في كتابته فكان الصراع بين هذه القوى على أشده ليس من أجل تعميقها لفكرة الشرعية والنظام بل من أجل إدراج مطالبها وإعطائها الصفة الشرعية, فأي حق يبيح لعضو مجلس النواب أن يتقاضى راتب تقاعدي يبلغ (8) مليون دينار شهرياً عن فترة زمنية لا تتجاوز السنة الواحدة وأي حق يبيح لعضو المجلس البلدي أن يُحال إلى التقاعد براتب معاون مدير عام وبنسبة 80% من راتبه الكلي وليس الاسمي وبعد مرور سنة على عمله في المجلس.
من هنا أخذ هذا الدستور صفة الوفاق الحزبي أو المحاصصة الطائفية والعرقية لكن المتعارف عليه من خلال إطلاعنا على تجارب الشعوب أن الدساتير لا تكتبها النخب السياسية لأن الدستور وثيقة وطنية وليس وثيقة حزبية فقد ضم الدستور العراقي على العديد من المواد التي ساد فيها الخاص على العام وأصبح مصدر من مصادر النزاع ومن مصادر التخلف أو الرجوع إلى ما قبل الدولة المدنية الحديثة، مثال على ذلك المناطق المتنازع عليها بين المحافظات أو بين المركز وإقليم كردستان وخاصة حول مسالة كركوك.
ومن الجدير بالذكر أن المناطق المتنازع عليها هي المناطق الحدودية بين الدول وليس بين المحافظات داخل الدولة الواحدة, وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على ضعف النخب السياسية وانحرافها عن مستلزمات الدولة الشرعية والنظام الديمقراطي الحقيقي, وهذا الضعف قد يرجع إلى سببين أحدهما فقدان الحياة السياسية والحقوقية في العراق لأكثر من نصف قرن، والآخر قد يرجع إلى خضوع تلك النخب لقوى خارجية قد تكون ساهمت بشكل مباشر أو غير مباشر بصعود هذه النخب إلى هرم السُلطة.
سلام خماط
كاتب عراقي |