CET 12:25:57 - 27/06/2009

مساحة رأي

بقلم: د.عبدالخالق حسين
عنوان هذا المقال مقتبس من قول منسوب إلى رئيس الوزراء البريطاني الأسبق، وينستون تشرتشل، وصف به العراق بعد الحرب العالمية الأولى وموقف العراقيين من الدور البريطاني في تحريرهم من الاستعمار التركي العثماني. وله قول آخر في هذا الصدد: "أن العراق ولد في لحظة من لحظات الغضب". وفيما إذا كان الرجل محقاً أو مخطئاً في قوله هذا، فالحكم عليه يختلف من شخص لآخر، أما رأيي فهو بين بين، وسيتضح من سياق هذا المقال.

لا شك أن الاحتلال كلمة ممقوتة وبغيضة على نفس كل إنسان، إذ ليس هناك مواطن عاقل ومخلص لوطنه يرغب في احتلال بلده من قبل قوات أجنبية، فالسيادة الوطنية هي رمز العزة والكرامة لكل شعب يعتز بوطنه وهويته الوطنية، ويطمح أن تتمتع دولته بالسيادة الكاملة. ولكن في نفس الوقت يجب أن لا يفقد الإنسان الحصافة والقدرة على التمييز بين الخير والشر، فيخلط الحق بالباطل، فتلتبس عليه المفاهيم، ويخلط بين عمليتين متشابهتين بالشكل، ولكنهما مختلفتان كل الاختلاف بالجوهر، أي بالغايات والنتائج، فيستخدم قول حق يراد به باطل، ويحارب الخير معتقداً أنه يحارب الشر، وبذلك يجلب البلاء على نفسه وعلى وطنه.

ولتوضيح الأمر أكثر، وكما ذكرت مراراً في مناسبات سابقة، أقول أن هناك نوعان من الاحتلال: احتلال استعماري لبلد ما، القصد منه استعباد شعبه ونهب خيراته من قبل المحتل، كما كان يحصل في الماضي من قبل الدول الاستعمارية القوية، لبلدان العالم الثالث الضعيفة، واحتلال آخر الغرض منه مصالح مشتركة أي فيه منفعة البلد "المحتَل" وذلك لتحرير شعبه من الفاشية المستبدة، كما حصل في الحرب العالمية الثانية في تحرير ألمانيا من النازية، وإيطاليا من الفاشية وفرنسا من حكومة فيشي العميلة التي نصبها هتلر، فهذا النوع من الاحتلال هو ما أسماه الدكتور شاكر النابلسي بـ(الإحلال) الذي هو عكس الاحتلال، أي التحرير، وهذا ما حصل في العراق يوم 9 نيسان/أبريل 2003.

وللمزيد من التوضيح، يمكن تشبيه الاحتلال بالجرح، إذ هناك نوعان من الجروح، جرح جنائي يقوم به مجرم لإلحاق الأذى بالآخر أو حتى قتله، وجرح طبي يصنعه الجراح بمبضعه لاستئصال ورم سرطاني خبيث لإنقاذ المريض من الموت. والذي لا يفرق بين الاحتلال الاستعماري والاحتلال من أجل تحرير الشعب من أبشع نظام فاشي، هو كمن لا يفرق بين جرح يصنعه المجرم، وجرح يصنعه الجراح الماهر.

لا نريد هنا ذكر قائمة جرائم النظام البعثي الصدامي بحق الشعب العراقي وشعوب المنطقة، فالقائمة طويلة ومعروفة للجميع، والكل يعرف أن الشعب العراقي لم يكن بمقدوره حتى مجرد التفكير والحلم في التخلص من هكذا نظام جائر بسبب شراسة القمع، لأن تغيير النظام  كان فوق قدرة الشعب الذي جرب انتفاضات ومحاولات انقلابية عديدة ولكنه فشل، وأدت تلك المحاولات إلى المزيد من المقابر الجماعية وتشرد الملايين. وأخيراً، شاءت إرادة التاريخ ولأول مرة أن تلتقي مصلحة أمريكا بمصلحة شعبنا في إسقاط النظام الجائر، كما وساعدت أمريكا شعبنا على التخلص من 90% من ديونه، وتبرعت بعشرات المليارات الدولارات من أموال شعبها لإعادة إعمار العراق، وقائمة الفوائد التي قدمتها أمريكا للعراق طويلة. فهل هذا احتلال يجب أن نحتفل بإخراج قواته ونعتبر يوم خروجه عيداً وطنياً؟

من المؤسف القول، ولنقولها بصراحة ودون مجاملات، لقد أثبت المجتمع العراقي ومنذ تأسيس دولته الحديثة أنه لا يعرف مصلحته، وغير متصالح مع نفسه، ويمكن أن تحركه أية دولة أجنبية ضد مصالحه ولخدمة تلك الدولة. هذا ما حصل خلال القرن العشرين. فقد استطاعت مصر الناصرية إثارة قطاع واسع من العراقيين ضد ثورته الوطنية بزعامة الزعيم عبدالكريم قاسم. كما ونجحت دول الجوار بعد سقوط الفاشية البعثية في تحريك بعض مكونات الشعب العراقي ضد مصلحته الوطنية وتحت واجهة محاربة الاحتلال الأمريكي "الغاشم"، بينما القتل الجماعي هو في صفوف العراقيين أنفسهم، يقتل بعضهم بعضاً باسم المقاومة الوطنية.
لذلك أرى المجتمع العراقي وحكومته المنتخبة، في وضع فريد لا شبيه له في العالم، حيث يسعيان لإرضاء حكومات إيران وسوريا والسعودية التي تبعث القتلة والمخربين لتدمير العراق، ودون أن تتجرأ حتى في تسمية الجهات التي تغذي الإرهاب في العراق، بينما تتنكر لجميل أمريكا التي أنقذت العراق من أبشع حكم إرهابي قمعي عرفه التاريخ.

درس من التاريخ
كان الشعب العراقي قُبَيْل الحرب العالمية الأولى على وشك الانقراض. حيث كان تعداد نفوس العراق في العصر العباسي الذهبي (عهد الرشيد والمأمون)، نحو ثلاثين مليون نسمة وفق ما أخبرتنا به كتب التاريخ، ثم بدأ بالتناقص والتدهور منذ غزو التتار لبغداد بقيادة هولاكو عام 1258 إلى أن بلغ العدد نحو مليون ونصف المليون نسمة فقط إبان الاحتلال البريطاني للعراق عام 1918. وكان أهل العراق منقسمين إلى أعراق وقبائل وأديان وطوائف متصارعة فيما بينها إلى حد أن وصفهم الراحل الملك فيصل الأول في مذكرة له، أنهم لم يصلوا إلى مرحلة شعب بعد، لذلك قطع عهداً على نفسه أن يقوم بهذه المهمة الصعبة فيصنع من هذه الفئات المتناحرة شعباً متماسكاً. ولكن الرجل رحل مبكراً، واستمرت التناحرات بين هذه المكونات إلى يومنا هذا.

كذلك كانت بغداد في أوائل القرن العشرين، وكما كشفت لنا الصور القديمة من ذلك الزمان، عبارة عن قرية واسعة عشوائية مترامية الأطراف. لذلك، وفي رأيي، كان الاحتلال البريطاني للعراق ضرورة تاريخية لانتشاله من الاستعمار العثماني المتخلف الذي أوصل العراق إلى التخلف المريع وإلى حافة الانقراض. وقد أدى الوجود البريطاني في العراق إلى ردود أفعال عاطفية غير مدروسة وبتحريض من رجال الدين الشيعة ورؤساء عشائرهم، فقاموا بحرب الجهاد، ومن ثم بثورة العشرين التي أدت إلى ولادة الدولة العراقية قبل الأوان (خديج premature)، وتحت رعاية القابلة البريطانية. فلثورة العشرين رومانسية خاصة في وجدان الشعب العراقي، وهي على عكس حرب الجهاد، كانت بداية لنشوء الوعي الوطني والقومي، لذلك يرى البعض أن أي نقد لهذه الثورة هو نوع من المحرمات (تابو).  

بالتأكيد لم تحرر بريطانيا العراق من الاستعمار العثماني لوجه الله، أو لسواد عيون العراقيين، بل لمصالحها، ولكن هذه هي الدوافع المحركة لعجلة التاريخ، إذ كما  قال ماركس بحق: " يصنع الناس تاريخهم بأنفسهم، ولكن النتائج غالباً ما تكون على غير ما يرغبون". ومقولة ماركس يكملها آدم سميث بقوله: "نتائج غير مقصودة لأفعال مقصودة، ولكن في نهاية المطاف تكون في صالح المجتمع". وعليه، فمهما كان غرض البريطانيين من احتلالهم للعراق، كان ذلك في نهاية المطاف ضرورة تاريخية ولمصلحة الشعب العراقي، إذ وضعت بريطانيا الشعب العراقي المتخلف ولأول مرة في التاريخ، في حالة تماس مع الحداثة والحضارة الغربية، ومنذ ذلك التاريخ بدأت النهضة العراقية، بمثل ما بدأت النهضة المصرية بالاحتلال الفرنسي بقيادة نابليون قبل قرن من ذلك التاريخ. ولكن القوى الوطنية العراقية أرغمت هذا الاحتلال على تأسيس دولة عراقية قبل أن يبلغ المجتمع العراقي سن الرشد ويتعلم فن الحكم والإدارة ليكون قادراً على حكم نفسه بنفسه، لذلك لازمته هذه الحالة (عدم النضج) إلى الآن. وهذا في رأيي هو أهم سبب لحرمان الشعب العراقي من الاستقرار السياسي طوال تاريخه الحديث.

موضوعة اليوم الوطني
يقول الفيلسوف الاسباني جورج سانتايانا: " الذين لا يستطيعون تذكر أخطاء الماضي محكوم عليهم بتكرارها." وهناك مقولة أخرى مؤداها "أن التاريخ لا يعيد نفسه، وإن عاد فعلى صيغتين: في الأولى مأساة والثانية ملهاة". كنا نأمل من السيد نوري المالكي وغيره من الساسة العراقيين الجدد بعد سقوط الفاشية البعثية أن يكونوا قد استوعبوا دروس الماضي واستخلصوا عبراً من أخطاء آبائهم وأجداهم منذ تأسيس الدولة العراقية، ولكن يبدو أن القوم مصممون على تكرار الأخطاء بشكل مأساة وملهاة وتحميل هذا الشعب المزيد من الدماء والدموع.

من المؤلم والمؤسف حقاً أن يعلن السيد المالكي وغيره من السياسيين الجدد نكران الجميل للرئيس الأمريكي السابق جورج بوش وإدارته، والقوات الأمريكية على دورهم في تحرير العراق من أبشع نظام عرفه التاريخ، بل وراحوا يعتبرون وجود قوات التحالف الدولي بقيادة أمريكا هو احتلال استعماري، ولذلك فاجأنا السيد المالكي بإعلانه الغريب والعجيب باعتبار انسحاب القوات الأمريكية من المدن العراقية يوم 30 حزيران، عيداً وطنياً للشعب العراقي. إن هذا الموقف هو قمة النكران للجميل ويؤكد صحة مقولة تشرتشل بأننا شعب ناكر للجميل.

فالذي يعتبر وجود القوات الأمريكية في العراق احتلالاً وليس تحريراً، هو مصاب بعمى البصيرة وعمى الألوان، وغياب الوعي في عدم القدرة على التمييز بين الجراح الماهر والمجرم. قد يعترض البعض ليقول أن أمريكا هي التي اعتبرت وجودها في العراق احتلالاً، فهل أنت أمريكي أكثر من الأمريكان أنفسهم؟

والجواب واضح، لقد طالبتْ أمريكا الأمم المتحدة باعتبار وجود قواتها في العراق احتلالاً لاعتبارات قانونية، كي تتحمل أمريكا مسؤولية إدارة البلاد بعد إسقاط النظام مباشرة إلى أن يتم تشكيل الحكومة العراقية الوطنية. أما إدعاء البعض أن إعلان أمريكا وجودها في العراق احتلالاً كان قد أعطى الذريعة لما يسمى بـ (المقاومة) فهو كلام غير دقيق، لأن الكل يعرف أن الأعمال الإرهابية بدأت منذ اليوم الأول من سقوط النظام، كما ودشن أتباع مقتدى الصدر جرائمهم بمقتل الشهيد عبدالمجيد الخوئي ومرافقيه في الضريح الحيدري في النجف، في اليوم الثاني من السقوط أي يوم 10 نيسان 2003، وقبل إعلان أمريكا كلمة الاحتلال بأشهر. 

أما موضوعة الأخطاء التي ارتكبتها الإدارة الأمريكية، فبالتأكيد القيام بهكذا عمل ضخم في إسقاط نظام غاشم ما كان العراقيون حتى بمجرد الحلم به، لا بد وأن ترافقه أخطاء التي يمكن تصحيحها. ولكن عار على السياسيين العراقيين أن يبرئوا أنفسهم من الأخطاء ويلقون كل غسيلهم على الرئيس بوش وإدارته. هذا هو نكران الجميل بكل معنى الكلمة.

لقد أثبتت قيادة الشعب الكردي أنها أكثر حكمة وحرصاً على مصلحة الشعب الكردي والشعب العراقي من قيادة الحكومة المركزية في بغداد. فقد رحبوا بالأمريكان بالورود، كما وأكد رئيس الإقليم الأستاذ مسعود البارزاني على ضرورة بقاء القوات الأمريكية في العراق ودعا لإقامة تحالف استراتيجي بين العراق وأمريكا وذلك لما تفرضه مصلحة العراق أكثر من مصلحة أمريكا.
ولكن يبدو أن قيادة الحكومة المركزية في بغداد حريصة على إرضاء أعداء العراق من دول الجوار، مثل إيران وسوريا، أكثر من حرصها على مصلحة العراق. فأمريكا أيها السادة، تتهالك معظم الحكومات العربية على كسب ودها والحصول على مساعداتها. والعراق الآن مهدد بالصراعات الطائفية في الداخل، وبقطع المياه من تركيا وإيران وتجاوزات دول الجوار عليه، حتى الكويت راحت تطالب بإبقائه تحت مقصلة الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، وقد بلغ العراق من الضعف إلى حد أن حتى وزير الدفاع الكويتي هدد بشن حرب عليه، فتصوروا، ويا للمهزلة. وهكذا نرى جميع دول الجوار والدول العربية دون استثناء تسعى لإبقاء العراق ضعيفاً ومجزأً لا يستقر له قرار، محكوم على شعبه بالجوع والتشرد وعدم الاستقرار. ولذلك أيها السادة فالعراق مازال في قسم الإنعاش وهو بأمس الحاجة إلى التحالف الاستراتيجي مع أمريكا، لا إلى الاحتفال بمغادرة القوات الأمريكية وإعلان ذلك اليوم يوماً وطنياً. وهذا لا يعني أننا نطالب بإبقاء القوات الأمريكية في العراق إلى الأبد، أو أن لا غادر المدن العراقية يوم 30 حزيران، بل كل ما نطالب به هو عدم إظهار شعبنا بالجحود ونكران الجميل لمن يقدم له يد المساعدة.  

والجدير بالذكر أن الحكومة العراقية برئاسة السيد نوري المالكي رفضت هذا العام الاحتفال بيوم 9 نيسان الأغر بسقوط الفاشية، بل واعتبره البعض وبالأخص أتباع التيار الصدري، ومن على شاكلتهم، اعتباره يوم إعلان الحداد، ولذلك أعلن السيد المالكي يوم 30 حزيران يوم الأفراح لمغادرة القوات التي حررتهم من نير حكم البعث الغاشم. إن دل ذلك على شيء فإنه يدل على أن بعض العراقيين أدمنوا على العبودية، فيحزنون بمناسبة سقوط جلادهم، ويفرحون بيوم مغادرة من حررهم من هذا الجلاد. وهذه هي سيكولوجية الإنسان المقهور الذي أدمن على القهر والإذلال. نحن في زمن العجائب والغرائب وبحاجة إلى علماء نفس لدراسة هذه الظاهرة العراقية بامتياز، ظاهرة الإدمان على الظلم والقهر وتمجيد الظالم والضرب على اليد التي تحررنا من جوره. يبدو أن السيد المالكي وكل القادة العراقيين الجدد نسوا أنه لولا القوات الأمريكية التي أسقطت لهم حكم الفاشيست، لكانوا مازالوا مشردين في الشتات كالأيتام على موائد اللئام، ولم يسمع بهم أحد.

إذ كنتم تبحثون عن عيد وطني للعراق، فأضل يوم هو يوم 14 تموز الذي انفجرت فيه ثورة الشعب العراقي، الثورة التي هبت لاحتضانها والدفاع عنها جميع مكونات الشعب العراقي، القومية، والدينية والمذهبية، والتي حققت للعراق الاستقلال الناجز والكثير من المنجزات الوطنية الكبرى خلال أربع سنوات ونصف السنة من عمرها القصير، وكان من المقرر أن تُخرِج العراق من تخلف العالم الثالث، لولا اغتيالها يوم 8 شباط 1963 على أيدي الفاشية القومية العربية وبالتعاون مع الاستخبارات الأجنبية، فراحت ضحية الحرب الباردة.
وبالمناسبة، ما الذي يمنع أن يتخذ علم جمهورية 14 تموز وشعارها، علماً وشعاراً للدولة العراقية الجديدة ما بعد 9 نيسان 2003، وهما من تصميم الفنان العراقي الخالد جواد سليم، ويعبران عن تاريخ العراق، وفيهما رموز جميع مكونات الشعب العراقي، وقد حظيا برضا جميع القوى السياسية الوطنية أيام الثورة.
فهل من مجيب؟
 

المقال الموضوع يعبر فقط عن رأي صاحبه وليس بالضرورة عن رأي أو اتجاه الموقع
شارك بآرائك وتعليقاتك ومناقشاتك في جروبنا على الفيس بوك أنقر هنا
أعرف مزيد من الأخبار فور حدوثها واشترك معانا في تويتر أنقر هنا
  قيم الموضوع:          
 

تقييم الموضوع: الأصوات المشاركة فى التقييم: ١ صوت عدد التعليقات: ٢ تعليق