بقلم: القس رفعت فكري
إن العالم الذي نعيش فيه زاخر بالحروب والمجاعات والأوبئة والأمراض وحافل بالكوارث الطبيعية والموت قبل الآوان , هذه الأمور وغيرها محيرة جداً ولا يمكن فهمها بالمنطق العادي , وهذه المآسي الطبيعية الواسعة النطاق قد تكون أقل إزعاجاً من الأمور التي تواجه الفرد بصفة شخصية, مثل الأمراض الصعبة, كالسرطان والفشل الكلوي وأمراض القلب والوفاة الفجائية والشلل الدماغي, والعقم والترمل , وألم الوحدة والفشل, هذه وملايين غيرها من الأمور التي تسبب المعاناة للإنسان وتثير تساؤلات حائرة مثل لماذا سمح الله بأن يحدث لي هذا الأمر ؟ ولماذا أنا بالذات ؟ ألم يكن ألا أفعل أو أذهب أو.. أو.. الخ , ولعل هذه النكبات والظن بأن مصدرها الرئيسي هو الله هي التي جعلت إيرني تشابرز، وهو سيناتور أمريكي عن ولاية نيبراسكا يرفع دعوى ضد الله (لأنه ينشر الدمار والموت في العالم). وقد أسقط القاضي مارلون بولك الدعوى التي رفعت في سبتمبر 2007 لعدم إمكان إبلاغ المدعي عليه بالمثول أمام المحكمة وقال (لا يمكن رفع دعوى على جهة لا تملك عنواناً محدداً)، لكن تشابرز قرر استئناف الدعوى باعتبار أن الله مدرك للاتهامات لأنه يعرف كل شيء . وكان السيناتور قد طلب في الدعوة توجيه إنذار إلى الله للتوقف عن التسبب في الزلازل والأعاصير وجميع الكوارث الطبيعية التي تتسبب بخسائر بشرية. وقال تشابرز يوم رفع الدعوى "أريد أن أثبت أن أي شخص يمكنه مقاضاة أياً كان حتى لو كان المدعى عليه هو الله" .
ولكن يبقى السؤال هل الله فعلاً هو المتسبب في الزلازل والأعاصير؟!! وهل هو المتهم في حدوث الكوارث التي تسبب الخسائر المادية والبشرية والمعنوية ؟!!
إن الحوادث والكوارث التي تحدث لها أسباب متعددة , وليس من المنطقي عند حدوث أي ظرف صعب أن نلقي باللوم على الله , فهناك كوارث تحدث بسبب تدخل عوامل إنسانية كالخطأ أو الإهمال أو السهو , وهناك مصائب تحدث بسبب أخطاء الغير , وهناك أمراض فتاكة قد تصيب الإنسان إما بسبب التلوث البيئي أو لطبيعة جسمه أو لنقص المناعة , أو لأسباب وراثية متعلقة بالجينات أو لغيرها من الأسباب . ومن الحكمة والانصاف أن نبذل الجهد لنعرف السبب الحقيقي وراء كل أمر إذ ليس من الإيمان أن يكون الله دائماً في قفص الاتهام , فالله إرادته القصدية هي دائماً سامية وصالحة ومرضية وكاملة , وهو دائما يريد ماهو لخير الإنسان , ولكنه قد يسمح بما يسبب ألماً وحزناً للإنسان , وما نقصده هنا بكلمة "يسمح" إن الله فعلاً لايريد الألم ولا يُسر به , إنما الألم يحدث لأن الله خلق العالم , والعالم تحكمه مجموعة من القوانين والأنظمة , وفي ذات الوقت ترك الله الإنسان حراً , وبذلك يصبح النظام العام الذي أوجده الله يسمح بحدوث مثل هذه الآلام, فإرادة الله القصدية ليست الألم ولكن ما يسمح به هو إرادته الظرفية نتيجة الأوضاع والنظم والقوانين التي نشأت عنها ظروف الألم , الأمر الذي يجعلنا نسأل أسئلة كثيرة بسبب المصائب ولكننا قد لا نجد إجابة شافية لها, إن أعظم اللاهوتيين في عالمنا يمكنهم أن يتأملوا لمدة 50 سنة في اللغز المختص بالنكبات التي تحدث في عالمنا ولكن على الأرجح إنهم لن يتوصلوا إلى تفسير مقنع, قال ح.ولاس هاملتون " لايمكن لأي إنسان إلا الأحمق أن يدعي معرفة الجواب عن كل آلام الإنسان في العالم .. إن آلام الإنسان مغطاة بالرهبة وبالفزع المقدس وهي التي تجعله يصرخ في اتجاه السماء قائلاً لماذا ؟!! وأحكم الناس على الأرض لا يستطيعون معرفة لماذا ؟!! ومن الواضح أن الكتاب المقدس يخبرنا بأننا لانمتلك القدرة على استيعاب أفكار الله ولا الطرق التي يتدخل بها في حياتنا, ومحاولتنا لتحليل فكر الله أشبه بمحاولة النملة لفهم تصرفات الإنسان, فأحكامه بعيدة عن الفحص وطرقه غير قابلة للاستقصاء.
وهناك من يظن أن صلاحه يمكن أن يحميه من جميع الشدائد, ولكن هذا النوع من الناس عندما يجتاز في محنة فهو لن يجد تفسيراً منطقياً عندما يجد الله لا يتدخل في ظرف من ظروفه , كالمرض أو الفشل في العمل أو حادث أو أي مكروه آخر وعندئذ لن يبقى أمام هذا الإنسان سوى أن يتحطم وينهار, فالإنسان عندما يكتشف أن الحياة في واقعها مختلفة تماماً عن الحياة التي يتوقعها فهو حتماً سينجرف إلى واحد من بين عدة استنتاجات وجميعها مدمرة للإيمان , فإما أن يقول :
1 – إن الله غير قادر أو غير مبال بأمور البشر.
2- أو أن الله غاضب عليه بسبب خطية قد ارتكبها.
3- أو أن الله متقلب أو غير جدير بالثقة أو أنه قاسي أو غير عادل .
4- أو أن الله لم يستجب له لأنه لم يصل بالقدر الكافي ولم يكن لديه الإيمان الكافي .
هذه البدائل الأربعة جميعها تعمل على قطع الصلة بين هذا الانسان وبين الله , في ذات اللحظة التي يكون فيها هذا الإنسان في أكثر الأوقات احتياجاً لله , وهذه البدائل هي خدعة من إبليس لتدمير إيمان الأشخاص غير المحصنين , وهي تبدأ بأكذوبة دينية تقدم الوعود بحياة خالية من الضغوط وتقدم الله كإله يحقق للإنسان كل مايريد دون أية متاعب أو محن أو مشكلات, مع أن الواقع ليس كذلك , فما أكثر تلاميذ المسيح ومحبيه الذين تعرضوا لمتاعب وظروف صعبة .
لم يكن الله في أي وقت من الأوقات مطالباً بأن يعطي حساباً للإنسان, ولن يكون هكذا أبداً ولايوجد على وجه الكون من يستطيع أن يساءله أو يستجوبه, أين نذهب إذا بأسئلتنا الحائرة؟ ليس أمامنا سوى أن نختار بين أحد اختيارين , إما أن نستمر في إيماننا بصلاح الله ونؤجل أسئلتنا إلى الوقت الذي فيه نراه وجهاً لوجه , وإما أن ننزلق إلى المرارة والغضب بسبب الألم الذي يحيط بنا, وبخلاف هذين البديلين ليس أمامنا أي بدائل أخرى , إن رد الفعل عند البعض كثيراً ما يكون مليئاً بالمرارة والتذمر, بينما يكون رد الفعل عند البعض الآخر هو التدريب على اليقين والثقة في محبة الله بل يثقون إنهم سيخرجون من الأزمة وهم قد تعلموا بعض المعاني والخبرات وأنهم سيرون في أعماق الليل النجوم التي لم يستطيعوا أن يروها في وضح النهار .
قال الدكتور كارل مننجر (الاتجاهات أهم من الوقائع ) أي أن أي واقعة تعترضنا مهما كانت صعبة وميئوساً منها فهي ليست بالأهمية التي توازي اتجاهنا نحوها . قد تسمح لواقعة ما أن تهزمك عقلياً قبل أن تبدأ معالجتها, أما الفكر الواثق فهو الذي ينظر عقلياً إلى ما يملك من قوة , الشخص السلبي يندب حظه على ما فقده بينما الشخص الإيجابي هو الذي يشكر الله على ما معه , فإذا كنت معوقاً فيجب أن توجه كل طاقاتك إلى الجوانب غير المعوقة لديك , يجب أن تركز على الأشياء التي تقدر أن تعملها بدلاً من أن تنوح على الأشياء التي لاتقدر عليها, ومن المهم جداً الا تستسلم للشفقة على الذات . كذلك توجد وصفة لإزالة الغم للقلوب الجريحة أحد عناصرها هو النشاط الطبيعي , على الشخص الحزين أن يتجنب العزلة وترديد أحزانه, عليه أن يشغل نفسه ببرنامج نشاط طبيعي بدل التفكير العقيم, مهما كان نوع ألمك ومهما كانت خسارتك فادحة أولى الخطوات هي أن تعود إلى المجرى الرئيسي للنشاط البشري , استأنف ارتباطاتك القديمة, كون ارتباطات جديدة, اشغل نفسك بالمشي, الركوب , السباحة , دع الدماء تجري في عروقك, اشغل نفسك في مشروع هام, املأ أيامك بنشاط خلاق , تقبل الحياة بكل ما فيها من آمال وآلام بكل بهجة وسرور , فإن كنت تشعر في وقت الشدائد أن الحياة تافهة لا تساوي شيئاً لكن ثق أنه لاشئ يساوي الحياة !!
لنتذكر ما قاله الشاعر التركي / ناظم حكمت : في رسالة كتبها لزوجته من سجنه .. يشد بها أزرها وأزره .. ويقاوم بها اليأس فهو كتب يقول " أجمل الأنهار لم نرها بعد ..أجمل الكتب لم نقرأها بعد ...أجمل أيام حياتنا لم تأت بعد "
هذه الروح الإيجابية هي التي تدفعنا لمقاومة كل يأس وإحباط , ما يجعلنا نستمر في الحياة .. هو ذلك البصيص من النور الذي يلوح حتى في أشد الأوقات ظلمة ... لولا الأمل لما تمكنا من النهوض بعد كل سقطة .. والاستمرار في السير على طرقات الحياة .
استضاف أحد مذيعي التليفزيون المشهورين رجلاً معاقاً وعاجزاً عن الحركة وكانت إجاباته وتعليقاته على أسئلة المذيع إيجابية وتعبر عن شخصية تمتلئ بالبشر وقلب يشع بالسعادة فسأله المذيع : "لماذا أنت سعيد هكذا ؟ لابد أنك تملك سراَ عظيماً لهذه السعادة الغامرة؟"
فأجاب الرجل المعاق لا, أنا لا أملك سراً عظيماً , ولكن حينما استيقظ في الصباح يكون أمامي أحد أمرين : إما أن أكون سعيداً , وإما أن أكون شقياً , فأختار أن أكون سعيداً .وقال إبراهام لنكولن : "في استطاعة الناس أن يكونوا سعداء بمقدار ما يوطدوا العزم على أن يكونوا كذلك"
قارئي العزيز .. بلا شك إننا ننسج لأنفسنا بأفكارنا واتجاهاتنا خيوط حياتنا المختلفة, فيمكنك أن تصبح شقياً إذا رغبت في ذلك , بل إن هذا من أسهل الأمور , فقط عليك أن تختار الشقاء وتقول لنفسك : "الأمر ليس على ما يرام لايوجد شئ واحد مرضي " عندئذ فوراً سيخيم عليك جو من الشقاء!! وعندما تقول لنفسك : "كل الأشياء على ما يرام , الحياة جميلة , إنني أختار السعادة " في هذه الحالة ستحصل على رغبتك.
ولمواجهة فقدان الأحباء والأقرباء لابد أن يتبنى المرء فلسفة سليمة مقنعة عن الحياة والموت والخلود , فالحياة والموت وحدة واحدة متماسكة , فهذه الحياة هنا على الأرض ومابعدها هي وحدة واحدة لاتنفصم , الحاضر والأبدية متصلان, الحياة والموت وحدة واحدة لا تتجزأ , والقبر ماهو إلا ممر مؤقت وليس مستقر دائم , هذا فضلاً عن إن المرض والموت قد دخلا إلى العالم كنتيجة طبيعية وحتمية للخطية , وكل الخليقة في هذا العالم تئن وتتمخض معاً , وهذا أمر طبيعي جداً , فهذه الفلسفة في التفكير عنصر علاجي مهم جداً في علاج القلوب الحزينة الكسيرة لأن هذه الفلسفة تملأ العقل بالفهم العميق لحادث الموت الذي لا يمكن رده .
في رحلة الحياة من المحتم أن تواجه كل إنسان مواقف ومشكلات ومحن سيجد نفسه عاجزاً عن فهمها, ومن الخطأ أن نظن أننا دائماً سنكون فاهمين ما الذي يصنعه الله أو ماهي العلاقة المباشرة بين آلامنا وبين ما تسمح به عنايته , فإننا قد نصل في يوم من الأيام إلى نقطة فيها يبدو لنا كما لو كان الله قد فقد السيطرة أو الاهتمام بأمور البشر, وهذه فكرة شيطانية , فالله موجود وهو إله محب ومعتن وراع صالح ورعايته مستمرة وقت الأزمة ونعمته تكفينا للتأقلم مع المآسي التي لا نستطيع حيالها شيئاً , فهو الذي قال " لا أهملك ولا أتركك" وهذه الآية يمكن ترجمتها " لا ولن أتوقف عن مساندتك ونصرتك , ولم ولا ولن أتركك منسياً مهزوماً وسط ظروف الحياة المعادية " فهو عمانوئيل الله معنا الذي يجتاز معنا كل آلامنا ومتاعبنا , إنه يعاني معنا بل وأكثر منا بكثير , إنه في كل ضيقنا يتضايق , في أحد معسكرات أسرى الحرب العالمية الأخيرة كتب أحدهم هذه الكلمات " إني أؤمن بالشمس حتى لو لم تكن ساطعة وأؤمن بالمحبة حتى لو لم أحس بها وأؤمن بالله حتى ولو صمت ولم يتكلم": فهل تثق قارئي العزيز في صلاح الله ومحبته وعنايته ؟!!
راعي الكنيسة الإنجيلية بأرض شريف – شبرا مصر
refaatfikry@hotmail.com |